الأحلام لا تصنع جيشاً حراً

الأحلام لا تصنع جيشاً حراً

سيطرت السلطة ورئيساها “الأب والابن” بالتحديد لزمنٍ طويلٍ على كافة مفاصل الدولة، فلم تكن الدولة ممثِّلة للمجتمع بقدر ما كانت ممثلة للسلطة. لم يشعر أفراد سورية بأنّهم مواطنون ولهم حقوق وواجبات، ولم يمارسوها أيضاً. ممارساتهم كانت وفق المرسوم لهم مسبقاً. إذ كان الناس يعيشون بالأوهام والأحلام، وليس بنشاطاتٍ يساهمون من خلالها بصناعة واقعهم. في ذلك كتب المفكر السوري طيب تيزيني وعشرات من المثقفين السوريين: إن سورية محكومة من قبل الدولة الأمنية.

سورية التي رأت في الثورات العربية عام 2011 دوراً الشعوب في تقرير مصيرها، كما حال تونس ومصر، قرّرت أنه بمقدورها أيضاً إسقاط النظام. المشكلة هنا، أن السوريين مُنعوا من تشكيل أيّة خبراتٍ في أشكال الاحتجاج والتظاهر ورفع الشعارات المتوافقة مع تطور هذه الأشكال، وكانت نقاباتهم واتحاداتهم مُسيطَراً عليها من قبل السلطة.  هذا الوضع دفع السوريين لرفع شعار الحرية والكرامة عالياً والاستخفاف بأيّة شعارات أخرى أكانت وطنية أم اقتصادية، وكذلك سُخِّفت أيّة توجهات للانشغال بالبرامج السياسية والرؤية الفكرية والاستراتيجية! واشتُقَّ من الشعار السابق مئات الشعارات والأفكار؛ فهو شعار تعبوي ويعكس أحلاماً كبيرةً، ويشحذ الهمم، وبالتالي كان الشعار هذا طوباوياً بامتياز، وقابلاً لإيصال مطلقيه أنفسهم إلى أسوأ مصير أو أفضله؛ وتغلَّبَ الأسوأ بامتياز، كما تمّ لاحقاً، وكما وصلت الأوضاع إلى التهجير والتدمير والاحتلال. طبعاً السلطة تتحمل المسؤولية الأساسية عن مآلات سورية.

الخيار الأمني والملائكة

السلطة الأمنية واجهت الشعب فوراً بخيارها الأمني، أي لم تعترف له بأي دور للمشاركة السياسية رغم مطالبته في الأشهر الأولى للثورة بالإصلاح وليس بإسقاط النظام، ورغم كل محاولات الدول الإقليمية، وتحديداً تركيا وقطر والسعودية، لدفعه للقيام بإصلاحات سياسية أولية واستيعاب التدفق الشعبي الذي راح يهدر في كل المدن السورية بما فيها حماه؛ وتأكيدي لحماه لأنّها دُمرت في الثمانينات، وكانت مظاهراتها السلمية الأكبر عدداً في تموز 2011.

قبالة رفض الاعتراف للشعب بأي حقوق، ورفض الوساطات الإقليمية للتغيير، اشتد الخيار الأمني من اعتقال وقتل ومجازر وتهجير؛ هنا فقط الملائكة يمكن ألّا تحمل السلاح، فجاء تشكيل الكتائب المسلحة لحماية المظاهرات الضخمة في أغلبية المدن السورية؛ وعي هذه الكتائب عكس الوعي الشعبي المكرّس، أي هو وعي ليس فيه مفاهيم للحقوق وللواجبات، ولنقل لديه تصورات مشوشة إزاء ذلك، ولكنه  في بنيته الأساسية محمل بالوعي العائلي والمناطقي والديني والطائفي والسلفي، وهناك الوطني الملتبس بما ذكرت. ظهر إشكال حقيقي، ويتعلق بتدخل إقليمي لمنع تشكيل جيش وطني معارض، وسُلّم المقدم حسين الهرموش الذي رفض مشروع الإخوان المسلمين بالأسلمة والتسليح، وحاول تنظيم عمل العسكريين المنشقين للنظام عبر تركيا. الأغلبية الساحقة للضباط المنشقين وُضعوا قيد الإقامة الجبرية في تركيا أو الأردن، وسواها. قلّة من الضباط بقيت في سورية، إمّا لأنّها رفضت مغادرة سورية أو لأنّها ارتبطت بمشاريع كالإخوان المسلمين أو تركيا وسواها، ولاحقاً ومع تتالي سنوات الثورة، واستدعاء حزب الله وإيران والميليشيات الطائفية التابعة لها لمواجهة فشل النظام ولاحقاً روسيا، اضطرت الكتائب المعارضة لتلقي الدعم بكل أشكاله من الخارج؛ النظام وجيشه أصبحا يأتمران من إيران وروسيا والفصائل كذلك، وبالتالي يمكن نزع الصفة الوطنية عن أغلبية التشكيلات المسلحة في سورية. الإشكال هنا أن هذه التشكيلات أصبحت تعمل لصالح مشاريع إقليمية ودولية، ومن هنا نرى ترابط هذه التشكيلات مع أمريكا وروسيا وإيران وتركيا وقطر والسعودية وسواها.

يمكن القول هنا، أن النظام فشل في أن يكون وطنياً، وهذا يسري على جيشه وأجهزته الأمنية واستدعى الخارج لحماية نفسه، وكذلك المعارضة والتشكيلات المسلحة. الوطنية السورية لم تتشكل يوماً، أي قبل الاستقلال وبعده وبعد الحركة التصحيحية، وبالتالي ظلّ الوعي “الوطني” ملتبساً بالتصورات الدينية والمذهبية، وفي هذا هناك كلام كثيرعن مشكلات تعتور الهوية السورية، وشكّلَ تغييب الشعب لعقود متتالية عن المشاركة السياسية في قضايا الحياة كافة سبباً كافياً للانطواء والتقوقع ضمن إطار التصورات ما قبل الوطنية وأصبحت الأخيرة مجرد غطاء للتكاذب “الوطني”؛ طبعاً الكلام يدور حول الشكل المسيطر للوعي وليس على  كافة الأفراد.

التدخل الإقليمي

مع العام الثالث للثورة برزت عوامل ساهمت في تراجع الثورة الشعبية وأهمها التدخل الإقليمي والدولي بشكل كبير؛ ففي الداخل ظهرت الكتائب السلفية والجهادية لأسبابٍ تتعلق بسياسات النظام والخارج الإقليمي وتعقيدات الثورة ذاتها! وتأسلمت أغلبية الفصائل المحلية، وأصبحت تابعة للدول التي استجدتِ النظام ليقبل بالإصلاح من قبل؛ تدخُّل هذه الدول جاء بسياقٍ واحدٍ، وهو تخميد الثورة وتحويلها إلى إصلاحات وإعادة إنتاج النظام “بتطعيمه” بالمعارضة الإسلامية والليبرالية. مع رفض النظام للإصلاح، بدأت عملية تخريب الثورة، وحجزها في سورية. تمّت عملية الاحتجاز بتتبيع المعارضة وكتائب الجيش الحر وخلق كتائب سلفية وجهادية وتسليح الثورة بشكل فوضوي، وبذلك تراجع طابعها الشعبي والاحتجاجي والمدني وتقدم العسكري. وربما من أخطر ما افتقدته الثورة غياب نظرية لها ورؤية المعارضة القاصرة لها، ولكيفية توجيهها والسيطرة عليها وقيادتها في كل سورية. ما سُقتُه أدى إلى تخريب الثورة وإخضاع أغلبية المجموعات السياسية والعسكرية للخارج.

الإشكالية الكبرى كانت في ظهور كل من جبهة النصرة وداعش وقبلهما جيش الإسلام وأحرار الشام. أغلبية الروايات عن هذه المجموعات تفيد، بأنّها صُنعت لتخريب الثورة، ولخدمة رؤية النظام لها “ثورة طائفية وإمارات سلفية ومؤامرة خارجية” ووجِدت لاحتجازها في سورية وتعليم السوريين والشعوب الدرس المؤلم للثورات، أي تحويلها إلى مجازر متنقلة، والتهجير والتدمير.

إذاً مفهوم الجيش الحر المشتق من مفهوم الحرية، ورغم دلالاته في رفض الاستبداد والقطيعة معه، لم يفد في تعزيز ممارسات ثورية وعسكرية تنطلق منه. هنا لا يمكن تجاهل دور المعارضة في تشويه رؤية أهداف الثورة لدى الثائرين على النظام؛ إن دور المعارضة في أي ثورة أو احتجاج واسع هو صياغة المطالب العامة ونظرية الثورة والسيطرة على الثورة وقيادتها، ورفض التعدد في تمثيلها ليسهل للمعارضة خوض الصراع الوطني العام ضد النظام.

جيش الإسلام وأحرار الشام

المعارضة السياسية الفاشلة والانتهازية خسرت أهم ما يبرر وجودها وهو ما ذكرت. هذا فتح المجال لتصبح القوى الإسلامية هي المتصدرة للمشهد العسكري. جهادية داعش والنصرة أخرجتهما من القوى المحسوبة على الثورة، أما جيش الإسلام وحركة الأحرار فقد كانت سلفيتهما هي الغالبة، وتطورت في خطابها لتصبح “مقبولة” إقليمياً ودولياً، وبالتالي اشتغلت على مفاهيم الشعب والعدالة والديموقراطية التي تتساوى بصندوق الاقتراع، وقبالة ذلك خففت من خطابها الديني والطائفي. الحركتان الكبيرتان هاتان، كان مشروعهما العسكري هو الأساس، ولاحقاً اشتركتا بالسياسة باعتبارهما ممثلتين عن الشارع والثورة. هنا يجب ملاحظة أن جيش الإسلام رفض الإنخراط بالهيئات السياسية المُشكلة، وكذلك الأحرار، وكان اشتراكهما تقنياً ولغايات المفاوضات النهائية أو ما يتعلق بالشؤون العسكرية كما تمّ في الأستانة وجنيف.

الحركتان المذكورتان، وبعد التخفيف من الحمولة الأيديولوجية السلفية لهما، وتبني خطاب براغماتي، وبسبب إطالة أمد الصراع، والحاجة للأموال، خضعتا لمصادر التمويل، وكذلك بسبب سياسات فاشلة لديهما لإدخار قواتهما للمعارك النهائية؛ جيش الإسلام خضع للمملكة السعودية والأحرار للدولة التركية بشكل خاص. طبعاً هناك مصادر تمويل متعددة أخرى يحصلان عليها، وهذا لن يُعرف بشكل كامل إلا بعد زمن طويل. على كل حال، وبتطور الواقع كما ذكرت وبتحول سورية إلى ساحةٍ للصراع الإقليمي والدولي، خضعت أكبر الحركات لسياسات الخارج. إضافة لذلك ارتهنت فصائل كثيرة لكل من غرفة الموك في الأردن وغرفة الموم في تركيا، وأُعلن عن فصائل ممولة ومدعومة أمريكياً بصفة خاصة، والتي لم تقبل أغلبيتها محاربة داعش فقط واشترطت محاربة النظام وداعش معاً، فكان مصيرها التهميش؛ لعبت أمريكا وتركيا والأردن على إبقاء الفصائل متشرذمة وبدون قيادة موحدة، وكانت كل عمليات التوحيد هامشية ورغبوية بامتياز، وبالتالي استتبع ذلك هامشيتها وخسارتها كل المعارك التي خاضتها مع داعش أو النصرة أو جيش الإسلام، وبالنتيجة تلاشت الفصائل وظلت الحركات السلفية المدعومة خارجياً.

وما ظل من فصائلٍ غير محسوبة على الإسلامية ولا سيما فصائل درعا تم تدجينها في إطار اتفاقيات الأستانة، وتعد مشاركتها في الأستانة، أو تلقي الدعم الأمريكي سبباً كافياً لعدم استقلاليتها ولضمور الوطنية في قراراتها، وتفسر صمتها عن المساهمة في معارك كثيرة، وبدءاً من رفضها مؤازرة بلدة داريا، والاستفراد لاحقاً بكل الغوطة الغربية والشرقية. حتى هذه الانسحابية لم تشفع لها، فكوفئت بخلق داعش لها في وادي اليرموك؛ فجيش خالد الداعشي وُجد لتهديد تلك الفصائل بالتحديد، وتكبيل يديها عن المساهمة في معارك الغوطة أو حلب وكذلك لضبطها في إطار الاتفاقيات الدولية والاقليمية، وربما للتأثير عليها لتتقبل أية شروط تخص إبقاء الحدود آمنة مع إسرائيل وعدم رفع أية مطالب مناهضة للأخيرة.

قسد وغصن الزيتون

إذاً لم تعد صراعات الفصائل ضد النظام تنطلق من قضايا الصراع ضده، بل أصبحت  خاضعة كما النظام لسياسات الخارج بشكل أساسي. بعد 2013 و2015 ودخول روسيا، وكذلك بعد خسارة حلب ونشوء التحالف التركي الروسي، جيرت تركيا الفصائل المدعومة من قبلها لصالح هذا التحالف. التحالف هذا فرض سياسات جديدة على كل من تركيا وروسيا وإيران وأمريكا، وبالتالي خضعت كل صراعات الفصائل لهذه التحالفات. فصائل درع الفرات أو غصن الزيتون أو قسد كلها أصبحت صراعاتها مع بعض أو ضد داعش خاضعة لهذه الاعتبارات بالتحديد، وبالتالي هناك سؤال كما في نص الطاولة المستديرة لصالون سوريا والتي نناقش فكرتها الأساسية في هذا المقال:

أين الوطنية في كل هذه الصراعات، وأين مصلحة الشعب السوري في تعزيز الاحتلالات لأراضيه؟

إضافة لما أشرت له سلفاً، وهناك ما هو أسوأ، وهو التوافق بين النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي “البايادي دي” والذي بدأ مع بداية الثورة، وبنتيجة  الصفقة بينهما تم تخلي النظام له عن مناطق واسعة في القامشلي والحسكة وعفرين ليتم فرض سلطته عليها. هذا الاتفاق تم بالتأكيد ضد الثورة وفصائلها وعانى منه الكرد والعرب. هذه لحظة تأسيسية للفهم، وليتم توضيح أصل العدائية الكبيرة بين هذا الحزب والفصائل السورية بكل أشكالها. الإشكالية هنا أن تطوّر الصراع وديمومته لسنوات وسنوات غيّر من تحالفات هذه الفصائل “الكردية والعربية” وبالتالي جعل منها خاضعة للخارج كما النظام ذاته.

لهذا لا يمكن مناقشة معركة غصن الزيتون دون توضيح الأسباب التي دفعت بعض الفصائل للمشاركة في معاركٍ تحت السيطرة التركية، وكذلك يجب فهم تحالف الاتحاد الديمقراطي “البايادي” مع الأمريكان. معركة عفرين كانت نتيجة ما ذكرت، ولكنها مكنت تركيا من احتلال أقسام واسعة من سورية كما معركة درع الفرات. أيضاً تحالفات قسد مكنت أمريكا من فرض سلطتها على مناطق واسعة في شرق سورية وشمالها.

من يتحمل المسؤولية

يمكن القول إن جيش النظام لم يكن وطنياً كما أشار الكاتب علي العايد في مداخلته “الجيش السوري الحر لم يكن موجوداً أبداً” بهذا الملف في تصديه للثورة الشعبية ولم يقف على الحياد لحماية الدولة كحال تونس مثلاً، وهي وظيفته الأساسية. وكذلك الفصائل حينما لم تلتزم بمرجعية ثورية، وتحدد عملها بحماية الثورة وتطويرها ورفض كل تبعية للخارج أو ميول سلفية وجهادية تبنتها جماعات لا علاقة لها بالثورة وأهدافها. نعم تتحمل السلطة السياسية المسؤولية الكبرى عن مآلات سورية وعن إدخال الجيش لقمع الشعب بمرحلة ثورته السلمية والعسكرية، وكذلك تتحمل المعارضة المسؤولية في الفوضى التي هي سمة الفصائل وتشرذمها وتفتتها وتبعيتها للخارج.

هوية بلا دين ولا طائفة ولا قومية

هوية بلا دين ولا طائفة ولا قومية

نتلقى تاريخنا في مجتمعاتنا العربية كما يحلو لحكوماتنا ورجالات الدين أن يقدموه، نتأثر به، ويُساهم في تشكيل هويتنا وشخصياتنا. يوحى لنا أنه مسلّم به وصادق أمين، ويساهم في ترسيخ ذلك ما تقوم به الحكومات السلطوية من تجهيل بمحاربة الثقافة حتى تغدو القراءة والاطلاع فعلاً ثانوياً وهامشياً لا ضرورة له، وهذا تماماً ما يُراد، التّلقي دون محاولة البحث أوالمحاكمة والتشكيك. لكن معاصرة الأحداث في السنوات الأخيرة دفعت بفئات واسعة من الناس نتيجة مشاهدتهم كيف يتم تحريف وتزوير وقائع تجري في حاضرهم،  للبحث والنبش في التاريخ والشك بمضمونه والبحث عن مدى مصداقيته، خاصة أن البعض أمعن في إيقاد الجحيم باختيار ما يحلو له من سموم التاريخ.

اعتادت السلطات الحاكمة في شرقنا العربي، كما اعتاد سلاطين الدين والطوائف، كتابة التاريخ خدمة لغاياتهم، كتبوا ما يجري في عهودهم ليحولوا أنفسهم لآلهة، ونقلوا ما مضى منه بانتقائية تحقق غاياتهم. بينما يتحفنا بعض الباحثين والكتّاب بتواريخ تُبنى على استنتاجاتهم الشخصية ترتدي غالباً ثوب تفكيرهم وهواهم. ويبقى في الظل تاريخ مُعاش لا يُدوّن ولا يُحكى ممن عاصروه وكانوا جزءاً حياً منه، فلا إمكانية لديهم لتوثيق التفاصيل، ولا أذن صاغية تسمع رواياتهم، فيفقد التأريخ الصيغة الحياتية الإنسانية المُعاشة، التي تحمل في ثناياها مضامين يتجاهلها أهل المصالح ويهمّشوها، فتدوينها يفتح باب المعرفة، والمعرفة تفتح باب الفهم والإدراك، والفهم والإدراك يحولان الإنسان من متلقي إلى فاعل يسبب الكثير من الحرج والمتاعب.

هكذا يتم استثمار الإنسان والتلاعب بعقله في ظل الحروب، تماماً كما في الوضع السوري، بتكريس مشاعر التعصب والطائفية والانقسام بين جميع مكونات الشعب، فيتحوّل الحراك الشعبي من حراك يطالب بدولة حريّات وعدالة لحراك يرى بعضه في الإسلام السني نظاماً صالحاً للحكم، ويراه البعض الآخر حراكاً مؤامراتياً على الوطن، وآخرون يطيّفوه ليبدو حرباً أهلية، وتأتي حينها من تشاء من دول هذا العالم لتستغلّ الانقسام لحسم صراعات النفوذ بينها.

احتلت الساحة في السنوات الماضية صراعات دينية وطائفية وقومية مختلفة: سنية – علوية؛ شيعية – سنية؛ درزية – سنية؛ إسلامية – مسيحية؛ عربية – كردية؛ وتم استغلالها لتقسيم السوريين حول قضايا مختلفة لا تمت بصلة لقضيتهم الأم التي بدؤوها، قضية الحرية والعدالة والديمقراطية. واختلاف القضايا يحتاج البحث عن مبررات وأسباب مختلفة للحشد حول الأهداف، وليس أفضل من النبش في تاريخ مُتاح فيه للجميع أن يجدوا ما يشاؤون.

تناسى السوريون أنهم أفراد ومجموعات، أديان وطوائف وقوميات، خضعوا لنفس الديكتاتور، وتعرضوا لنفس الانتهاكات، تم العبث بحاضرهم ومستقبلهم، بمقدراتهم وثرواتهم، بيد نفس السلطة التي أحسنت اختيار من يناسب منهم لخدمتها وحمايتها، في حين كانت تُمعن في تقسيمهم ليجهلوا بعضهم البعض، أسهل الطرق لخلق العداء فالإنسان عدو ما يجهل. والعداء السوري-السوري يصب في مصلحة السلطة الحاكمة على منطق فرّق تسُد.

لم يعبث الأسد الأب باقتصاد الدولة ولم يقم بخصخصته لصالح طائفته، بل لصالح مافيا تشاركه وتحميه، مافيا تنتمي لكل الأديان والطوائف والقوميات، قدمت له نخباً عسكرية واقتصادية وثقافية ودينية واجتماعية كانت يده اليمنى في الحكم، تبسط سلطته حيثما شاء.

دفع عامة السوريين ثمناً باهظاً وهم تحت نير الديكتاتورية، رضخوا لظروف متساوية في السوء، تزيد أو تنقص قليلاً، تم تجهيلهم وتخريب ثقافتهم، وإفساد المستطاع من قيم وأخلاق، ليصبح من السهل إدارتهم والسيطرة عليهم عبر مافيا عسكرية وسياسية واقتصادية ودينية مقربّة تشكّل دوائر حول رب السلطة لحمايته، وانشغل الشعب المقهور بالسعي وراء لقمة العيش والشكوى إلى الله، تشغله أموره الحياتية حد قضاء نهاراته ولياليه في تأمينها.

لم يكن العلويون خارج هذا الإطار، ولم يكن ماضيهم بما فيه من الفقر والقهر والظلم مختلفاً كثيراً عما هو عليه حاضرهم، فلا هم عاشوا قبلاً في الجنة، ولم يدخلوها بعد استلام الأسد الأب للسلطة، السلطة التي نازع عليها حتى علويين وزجهم في سجونه. وما توانى الأسد الأب عن استخدام أشد الاستبداد على من يعترضه أثناء مسيرة حكمه والأمثلة كثيرة، زيارة واحدة لقرى المناطق العلوية المغيبة كانت كافية للإصابة بالذهول وفهم أن رأس السلطة قد ينتمي للعلويين لكن العلويين ليسوا السلطة؛ هم سوريون تحت خط الفقر والقهر، في قرى بعضها لم تؤمّن لها الدولة خدماتها الأساسيّة، قرى منها الفقير والمهمّش، ومنها بلا ماء ولا كهرباء ولا هاتف واتصالات، كحال غالبية الريف السوري بل أحياناً أسوأ من بعضه. هذا الوضع الذي لو شاهده أصحاب حكمة (الطائفة العلوية تحكم سوريا) سيصيبهم بالذهول، تماماً كما أُصبتُ به، فقر لم أره في حياتي في المناطق التي كنت أزورها جنوب سوريا أو ريف دمشق. في تلك القرى يبسط رجالات الأسد الأب سلطتهم ويُحكموا قبضتهم عليها، يتحكمون بمصائر أبنائها ويهبون رضاهم لمن يطيع، حيناً بقضاء حاجة ماسة، وحيناً آخر بوظيفة حكومية بائسة وغالباً ما تكون بسلك الجيش أو الأمن، متطوعون يبحثون عن عمل للخلاص من الفقر، ليس حباً بالجيش لكنه السبيل الأمثل للعمل لمن لم يتمكن من إنهاء تعليمه نتيجة الفقر. نفس الظرف الذي كان يتعرض له السوريون جميعهم، فالتطوع بالجيش والشرطة والأمن باب رزق لمن لم يتعلم وليس بين يديه مهنة، وحتى المهن لم تكن لتؤمّن سبلاً للعيش في مدن وقرى ميتة اقتصادياً.

من الصعب على مُغلق العين والقلب والعقل تصديق هذا الوضع في عهد يصر البعض القول عنه عهد ( حكم العلويين) بدلاً من القول أن رأس النظام (علوي) لكنه رأس لمافيا تنتمي لكل الأديان والطوائف والقوميات. هناك الكثير مما يُمكن أن يُحكى عن شعب تم قهره بكامله لسنوات طوال عبر كل الجغرافيا السورية باتجاهاتها الأربع من خلال الفقر والأمية والجهل والاستبداد. فقط لو يصغي السوريون لما تحمله قلوب مواطنيهم، لسمعوا حكاياتهم هم بلسان آخر، ولأدركوا أنها نسخة طبق الأصل عن قصص أهلهم وجيرانهم وأصدقائهم، لعرفوا أنهم ليسوا وحدهم في عذاباتهم وأن السوريين سواسية إلّا من رضي عنه رب السلطة فميّزه.

ليس لنا إلّا أن نواجه حقيقة أن سلطتنا المستبدة عبارة عن مافيا منتقاة، من الجنوب بسهله وجبله حتّى الشمال بجباله وسهوله، مجموعات من كل الأديان والطوائف والقوميات، تجمعها المصالح المتبادلة، تحمل نفس الأخلاقيات، دعمت ومنها من لا تزال تدعم بقاء النظام الاستبدادي، عملت ولا تزال تعمل لصالحه وصالحها، بمن فيهم من فروا من قلب تلك المافيا باتجاه النقيض؛ طائفة من الانتهازيين وشركاء المنافع، من رجالات الجيش حتى رجالات سلطة الدين وما بينهما، ينتمون جميعاً لفئة حاكمة فقدت إنسانيتها وأخلاقها من زمن بعيد، تستميت للحفاظ على مكتسباتها وبقائها في قمة الهرم، تتحكم في مصائر السوريين جميعاً، ستحارب ولو تم قتل السوريين جميعاً في نهاية الأمر، طائفة السلطة الحاكمة الممتدة جذورها وفروعها في السلطة الحاكمة كما في سلطة المعارضة التي تحمل نفس الأخلاق وتسعى لنفس الهدف.

لنستطيع أن نكون شعباً واحداً يلزمنا تاريخ واحد نكتبه سوية كما عشناه ونعيشه، نكتبه بكل أمانة وصدق، نروي فيه آلامنا الماضية والحاضرة ونحترمها، نعترف بأخطائنا دون السعي لمبررات، نحكي ونسمع، لعلنا نعبر هذا المستنقع الذي غرقنا فيه ونعيد ترميم ما شوهه نظام الاستبداد فينا، وما أنتجته طائفية وقومجية بغيضة تم إحياؤها.

كلنا ملامون، من أغلق الباب بوجه بعض سورييه وتفرغ لرجمهم، ومن خاف فتمترس خلف جدار خوف كرّسه أصحاب المعارك على السلطات. آن الأوان كي نكتب تاريخاً مشتركاً ونبني مستقبلاً مشتركاً بلا دين ولا طائفة ولا قومية، لن نجد هويتنا الضائعة إلّا بالتوقف عن نبش التاريخ الذي لا يُعوّل عليه ولا على مصداقيته، والتوقّف عن الاستماع لوسوسة الشياطين، لا خيار لنا سوى أن نكون جميعنا على قيد وطن اسمه سوريا، وطن المواطنة المتساوية.

خطّـــــــة القُبَـــــل

خطّـــــــة القُبَـــــل

لا فائدة! أخبار الموت والجوع والدمار تتكرر منذ خمس سنوات. مفردات الصحف في الحروب معروفة ومحدودة: “غارة، قذيفة، هدنة، انفجار، قتلى وجرحى، مفاوضات، طائرات، فشل، مساعٍ دولية، ضحايا….” تُضيفُ إليها كلّ بلد ابتكاراتها المحليّة الخاصة من أسماء الأسلحة المُستحدثة وألقاب المُتصارعين والتقسيمات الجديدة للمناطق وغيرها.

قبل الحرب كنتُ أحرص على جلب وأرشفة الأعداد التي تروقُ لي والتي تنشر ما أحبّ الاحتفاظ به والعودة إليه: ملفٌّ عن موضوع يهمني، إحياءُ ذكرى سنوية لشاعرٍ أو كاتبٍ أُحبّه، مراجعةٌ لكتاب ثمين، افتتاحيةٌ مميزة أو مقالٌ صحفيٌّ لافت.

أما اليوم فلم أعد مهتمّة بالاحتفاظ بها. الحربُ علّمتني أصلاً ألّا جدوى من الاحتفاظ بشيء مادّي. في ظروف النزوح والهرب المتواصل لا نحملُ معنا إِلَّا ما نحفظه في عقولنا وقلوبنا. وكل شيء آخر هو إما ضائع أو مسروق أو متروك أو محروق أو فانٍ.

كَوَّرتُ الجرائدَ بنَزَقٍ وتوتّر غير آبهةٍ بالمقالات والعناوين التي لم أمرّ عليها. ألقيتُ بها في حاوية المطبخ. قبّلتُ أمي الواقفة أمام حوض الجلي قبلةً طويلة ووعدتُها ألّا أبتعدَ أو أتأخّر. وخرجتُ من البيت.  

لم أشعر بشيء ولم أنتبه لفقدانِ حقيبة يدي إِلَّا عندما رأيتُه يتأبّطها وهو يركض أمامي بخفّة نشّال محترف.

ركضتُ خلفه وأمسكتُه بسهولة. كان ولداً في حوالي العاشرة، بهيئة عادية، لا رثاثة فيها ولا رائحة تسوّل.

واجهتُه وأنا أمدُّ يدي صوب الحقيبة:

“هاتِها، لن تجد فيها ما تحتاجه. لا أحملُ محفظة نقود، ليس عندي إِلَّا محفظة قُبَل.”

اتسعتْ عينا الصبي وافترضتُ أنه سيستفسر، فبادرتُه سريعاً لأحدّثه برغبةٍ ومتعة عن هوايتي الوحيدة:  

“أنا لا أؤمن بفكرة حفظ النقود، أنا أحفظُ القُبَل. أجمعُها في أيّ محفظة متعددة الجيوب؛ ستجدُ في الجَيب الداخلي قُبَلاً من فئة الـ (وسط) وهي القُبَل التي نتبادلها مع المعارف العاديين في المناسبات الرسمية والمباركات والأفراح والتعازي. ورغم أنها تتفاوت في قيمتها وأهميتها إلا أنني أجمعها في جيبٍ واحد لأن فرز هذا النوع من القبل مُربِكٌ وصعب.

وستجد في جيب آخر قُبَلاً من فئة الـ (هامّ) وهي القُبَل التي نتبادلها مع الأصدقاء والمقرّبين في لحظاتٍ شتّى: شوق، لقاء بعد غياب، دفقة عاطفية طارئة، وغير ذلك. هذه المجموعة أربطها بعناق من النوع المطاط. فالعناقات هنا جزءٌ أساسي من القبلات لا تكتمل ولا تطيب إن غابتْ عنها.

ستجدُ أيضاً مجموعة خاصة من القُبَل تمّ تغليفها بورقٍ لاصقٍ شفاف، هذه قُبَل المهاجرين والراحلين والمتوفين، هي قبلاتٌ توقّفَ التعاملُ بها وأصبحتْ قبلاتٍ نادرة، لذا أشمّسها وأيبّسها ثم أجلّدها بما يحفظها من الرطوبة والنسيان، فكلمّا طال الوقت كلّما ارتفعتْ قيمتُها وزادتْ غلاوتها.

أما في السحّاب الخلفي للمحفظة فستجد مجموعة هائلة من القُبَل الصغيرة، (فراطة) يعني. هذه قبلات يومية أتبادلها مع أفراد أسرتي وتترافق عادةً مع: صباح الخير، تصبحون على خير، نعيماً، شكراً وهكذا… ورغم أنها كثيرة ومتوافرة إِلَّا أنها ضرورية، ضرورية جداً، لا أستطيع التحرّك بدونها.”

أخذتُ نفساً عميقاً كي أبدأ بشرح الجزء الثاني من هوايتي الذي يتحدث عن (قواعد التخزين ومحاذير غسيل القُبَل) لولا أنني لمحتُ في عيني الصبي دمعةً كبيرة قَبْلَ أن يصرخَ بي:

“أعرف، أعرفُ كل شيء عن قبلاتك ومحفظتك وهوايتك، وأنا هنا لأجل ذلك. لقد جمعتُ حتى الآن مئة وخمسين محفظةَ قُبَل من حقائب وبيوت الناس الرافضة للحرب. بعضها سرقته، والبعض الآخر حصلتُ عليه كتبّرع من أصحابه لدعم الخطة”.

سألتُه بخجلٍ وذهول:

-أي خطّة؟

-خطّة أطفال سوريا. لقد اتفقنا على أن نجمع أكبر عدد ممكن من القُبَل والعناقات، سنحشو بها البراميل وجرات الغاز ومدافع جهنم وسنطلقها على كلّ المدن والقرى المحتاجة، وسنـ…

-لا تُكمِل، خذ المحفظة والحقيبة كلّها، سأستردُّ فقط المجموعة المغلّفة الخاصة بالراحلين لأن تعويضها مستحيل، وسيتكفّل الأهل والأصدقاء بتعويضي عن الفئات الأخرى، سأرسلُ لك أيضاً كلّ ما أستطيع جمعه من قُبلات حتى يحين موعد الخطة. رجائي الوحيد أن تتصل بي وتخبرني بما يستجدّ.

زوّدتُ الصبي بقبلتين إضافيتين على خدّه وجبينه، ودّعتُه بعناقٍ طويل ثم عدتُ إلى بيتي سعيدةً ومتفائلةً بخطّة القُبَل.

بعد أيام اتصل بي، كان صوته ضعيفاً وبعيداً ومكسوراً:

-أردتُ فقط أن أطمئنكِ عليّ. أنا بخير. لكنني خارج سوريا مع مجموعة من الأطفال وقد لا نعودُ أبداً.

اهتزّ قلبي مُتَنَبِّئاً بخبرٍ تعيس:

-لماذا؟ ألم تنفّذوا الخطة؟

-بلى، نفّذناها. وأطلقنا آلاف القُبَل صوب معظم الأماكن المشتعلة بالخوف والكراهية، لكننا الآن ملاحقون ومطلوبون من كلّ الأطراف، يقولون إننا أفسدنا مساعيهم وأفشلنا كلّ شيء حتى المباحثات الدولية، لذا قرّرنا أن نهرب.

-لم أفهم، ماذا حدث؟

-الهدنة، لقد اتهمونا بخرق الهدنة.

نماذج من القصة القصيرة السورية

نماذج من القصة القصيرة السورية

مقدمة

تركت الحرب بصمتها على كل شيء في سوريا بما فيه الآداب والفنون، وكانت القصة القصيرة أحد الأنواع الأدبية التي عايشت الحرب وعبّرت عنها بطرق مختلفة، فهناك كتاب استلهموا شخصيات وأحداث قصصهم منها، وآخرون قاربوها بشكل غير مباشر وثمة من أعاد خلقها في جو آخر تعاني فيه الشخصيات أو تتحدث وتهمس مولدة الدفء والأمل وسط تقوض الحلم، وثمة من جرّبوا فنياً ووصلوا لنتائج وآخرون كرروا النماذج التقليدية لكن يبقى وسط كل هذا ما هو غير قابل للمساومة، أي البناء الفني للقصة، والذي هو المعيار، فالأحداث تأتي وتذهب، وليس المهم أن يعكس الكاتب الحدث أو يصوره بل المهم هو إعادة خلقه من منظور جديد، وهكذا فإن القصة تصمد لا لأنها تتحدث عن الحرب بل لأن الحرب تتحدث من خلالها وتتكشف وتتعرى فيما تنفتح نوافذ أخرى للأمل خارج صور الدمار واليأس. فالأدب لا يرتبط في النهاية إلا بأدبيته، وما يعرّف النص الفني ليس حديثه عن حرب أو تشبعه بتفاصيلها وإنما عمق أسلوبه الفني وعمق نظرته إلى الواقع وعمق ابتكاره لواقع فني، حيث كما هو معروف في الأدب يبتكر كل كاتب عالمه الخيالي الخاص كي يقول كلمته أو يوحي بفكرته فيما يهدف إلى إغناء حساسية القارئ وتطوير ذائقته ومساعدته على مقاربة الواقع من منظور جديد.

إن الأدب الحقيقي يساعدنا على قراءة الأحداث بطريقة مختلفة عن القراءات المدبرة، ويعمّق وعينا بالمأساة، ويفتح لنا أبواب ما هو غير معبر عنه، وهو يهدف أيضاً إلى تعرية طبقات السرد التي صادرت خطاب الحرب وقدمته مغلفاً برؤى محدودة، لا تتغلغل إلى العمق الإنساني، إلى حيث يمكن أن نرى الأمور خارج المسبقات والتحيزات والتحزبات، حيث يعنينا مصير الإنسان في مواجهة الأحداث الكبرى التي تهدد وجوده، والحرب إحداها، وحيث من الجوهري أن نطرح أسئلتنا حول ما يجري وإلى أين تقودنا الأحداث.

وعلى مستوى آخر تشهد القصة القصيرة السورية تراجعاً ملحوظاً على مستوى النشر والتوزيع وتكاد تختفي مع الشعر عن قائمة اهتمام الناشرين رغم أهميتها، وكونها أكثر تكثيفاً وتنجو من السرد الأفقي والحشو الذي لا لزوم له، غير أن كتاب القصة في سوريا لم تفتر همتهم وواصلوا طريقهم إلى درجة أن كثيرين منهم ينشرون أعمالهم على حسابهم ويهدونها لأصدقائهم ودائرة المقربين منهم مما غبن هذه التجربة وحرمها من الوصول إلى شريحة واسعة من القراء، أضف إلى ذلك تراجع القراء، وأجواء عدم الاستقرار التي زلزلت المنطقة.

ضمن هذا السياق يقوم موقع صالون سوريا بنشر ملف بعنوان “نماذج من القصة القصيرة السورية” يعده أسامة إسبر، وهذه النماذج تمثل توجهات مختلفة في الكتابة ولأجيال مختلفة، حيث سيجد القارئ أن لكل كاتب طريقته الخاصة في كتابة القصة، وهذه الخصوصية هي ما نركز عليه، فالاختلاف والفرادة هو الأساس وهو ما يغني الأدب، وهذا ما يطمح إليه منبر صالون سوريا، وهو أن يفرد مساحة لإظهار تنوع وغنى المشهد القصصي في سوريا.

سننشر القصص التي تردنا تباعاً ونفعّل روابطها:

خطّـــــــة القُبَـــــل
زينة حموي

الناي الأميرة
جمال سعيد

شتاء الرسائل الجميلة
مصطفى تاج الدين الموسى

في قاعِ النهر
معاذ اللحام

صياح الديك
ناظم مهنا

مُخرِب الأحلام
فدوى محمود العبود

الهدية

من قال إن هذه الجيوش حرّة؟

من قال إن هذه الجيوش حرّة؟

يكاد يجزم المراقب للأحداث في سورية منذ البدايات حتى الآن، أن أغلبية اللاعبين في مقامرات الدم السوري، يرهنون ذواتهم و”مشاريعهم” وأفكارهم، في خدمة من يحقق غاياتهم الشخصية التي فتّتت الأجسام السياسية وأوصلتنا إلى دوّامة الولاءات عربيّاً ودوليّاً بعيداً عن سورية!

لم يكن التسلح خياراً مدروساً لمواجهة نظام قائم على بنية عسكرية مخابراتيّة عميقة، فكانت ردّة فعل الشارع على إجرام عناصر النظام أثناء المظاهرات، هو الذهاب نحو رفع السلاح عشوائياً، علماً أن مئة بندقية “كلاشنكوف” مثلاً، لا يمكن أن تجعل حيّاً ضخماً مثل حيّ الميدان وسط دمشق، محرراً (…) بعد ما وقعت معركة دمشق الأولى في منتصف العام 2012، الأمر الذي كان يريده النظام، أي أن ترفع الأسلحة “دفاعاً” عن المظاهرات تحت أي ظرف، لتبدو نظرية “المندّسين” جاهزة لقتل كلّ معارضٍ للنظام!

والمعروف أن المقدرات الجهاديّة التي نمت في سورية بفضل الفصائل الذاهبة إلى قتال القوات الأمريكية أيام الغزو على العراق عام 2003، جميعها فصائلٌ عائدة بالفكر والعقائد لتنظيم “جماعة الإخوان المسلمين” إضافة إلى النزعات الدينية والاجتهادات الجهاديّة، وجميعهم يحرّضون على لغة العنف والتطرّف والاقصاء! هي ذات التجارب العسكرية التي عكست تسمياتها الدينية هويتها الفكرية مباشرة قبيل تنظيم الكتائب العسكرية الواقفة إلى صف الاحتجاجات الشعبية في سورية، بداية من التسمية مثل “لواء التوحيد” أو “كتائب الفاروق” وهي فصائل كانت تحمل التشريع الإسلامي نهجاً للعمل “الثوري المسلح” وهذا ما دفع بالفصائل للبحث عن تمويل خارجي حسب الانتماء والشيوخ والدعاة، وصولاً إلى التنسيق مع غرف التعاون العسكري الدولية التي رأت في التسليح مفتاحاً تتحكم عبره بالتوجه والهدف، فكانت أشهر تلك الغرف “موك” و “موم” اللتين تقع إحداهما في الأردن والأخرى في تركيا، وبالتالي لم يعد القرار بالتحرك “الثوري” بيد الفصائل وحدها.

أداة ليست سورية

مع انطلاق موجة الانشقاقات عن صفوف الجيش النظامي، باتت تسمية “الحريّة” ملاصقة لأي مؤسسة أو فصيل أو كيان سياسي خارج من عباءة النظام السوري، ما يشير إلى بداية الانقسام الوطني بين من هم مع النظام بوصفهم ضد الحرية، ومن هم مع التظاهرات على أنّهم “أحرار”. وهكذا سرقت الفصائل التسمية ونَسبتها لنفسها ورفعت علماً خاصاً بها بعيداً عن التصويت الشعبي وأصبح لكلّ فصيل علم خاص وآخر مشترك وهو علم “الجيش الحر” وهذا الأخيرة أصبحت مهمته الدفاع عن المظاهرات إلى أن ذهب نحو مواجهة النظام وإطلاق المعارك الارتجالية التي بررت قصف المناطق وقتل المدنيين لأنهم “حاضنة لهذا الجيش” المنتقل من حماية المدنيين إلى اجبار المناطق الموالية على المشاركة بالثورة لتصبح “مناطق محررة” حسب مبادئهم!

عندما صعدت حركة أحرار الشام الإسلاميّة وجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وجيش الإسلام وفيلق الرحمن… وسواها، كفصائل ذات مرجعيّة إسلامية متقاربة جداً، إلى ساحة المواجهة وتقسيم المناطق السورية، أصبح الجيش الحر مجرد تسمية ينضوي تحتها من يريد من تلك الفصائل المقاتلة التي تموّلها حركات جهادية ودولية كبيرة فبدأت الانشقاقات والإندماجات بين الفصائل، وبالتالي عاد القرار إلى مجالس الشورى الدينية بعيداً عن التنظيم العسكري الذي يفترض أنه مفصول عن المؤسسة الدينية، ومعمول به في باقي الجيوش الكبيرة الموحدة. إذ أن تجزئة الفصائل المعارضة وتعدّد مصادر تمويلها واختلاف ذهنيات قادتها، دفع بها لأن تكون مجرّد أداة بيد الدّاعمين الخارجيّين، وذلك لا يختلف عن تجربة جيش النظام السوري الذي استبدل تسمية الداعمين ضد الثورة السورية، بالحلفاء مثل سماحه لإدخال قوات روسيا وقوات إيران، فأطلق لهم العنان في البلاد، وبات الصراع إقليميّاً بأدوات سورية!

نهاية الثورة المسلحة  

منذ أطلقت تركيا عمليتها العسكرية “درع الفرات” الممتدة من جرابلس إلى أعزاز حتى مدينة الباب، هذا المثلث الجغرافي شمال سورية الذي أصبحت فيه فصائل الجيش الحر تحكم وتشكل المجالس المحلية بالتشاور مع عناصر تابعة للمخابرات التركية لمواجهة الفصائل الإسلامية المتشددة أبرزها “داعش وجبهة النصرة”، وتنفيذاً لمخططٍ احتلالي غير مباشر، تذرعت تركيا مجدداً منذ أسابيع في عملية “غصن الزيتون” لتعيد سيناريو التوغل في سورية عبر مدينة عفرين “دفاعاً عن مصالحها” التي تتعارض وإياها مع أيّة مبادرة لتأسيس كيانٍ كردي بحكم ذاتي، بغض النظر عن جذوره كمكوّن سوري، راحت فصائل الحر تنهج مبادئ تركيا وتقتل السوريين من الفصائل الكردية مقابل مكافئة بسيطة هي المشاركة في السيطرة على بعض المناطق ضمن عفرين وريفها.

إن مشهد رفع العلم التركي على بناء المجلس المحلي لمدينة عفرين مؤخراً، إلى جانب علم فصائل الجيش الحر، لا يختلف عن مشهد رفع العلم الروسي والإيراني وعلم النظام في ساحة الأمويين بدمشق تهليلاً للنصر المزعوم بعد قصف “أمريكا وفرنسا وبريطانيا” لمواقع قالوا إنها “عسكرية” في دمشق منذ فترة وجيزة، إنه نصر رسمته روسيا بالاتفاق مع الولايات المتحدة، على ما يبدو، أثناء استثمار الكارثة الإنسانية بعد القصف الكيماوي على دوما، ربما هو مشهد معقد لكن قواسمه المشتركة بالاتكال على الدول الأجنبية لتحصيل “الانتصارات” تتقاطع بقوة مع بعضها، الجميع يعتبر نفسه “محرراً” من الاستبداد والتطرف والطغيان، لكن الشق الآخر من هذا التحرير هو تلبيس المحتل ثوباً خبيثاً اسمه “الحلفاء”.

وبالعودة إلى التعاون الكبير لفصائل متعددة من الجيش الحر مع عملية “غصن الزيتون” العسكرية، يمكن ملاحظة كيف أعطت الولايات المتحدة ضوءها الأخضر لتركيا إلى جانب تغاضي النظام وروسيا عن ذلك، ويأتي من يقول: هذا الجيش حر!؟

إذا كانت القوى الدولية تحرك سلاحها وجنودها حسب الاتفاقات الإقليمية، فلا بد أن من تنفذ بأرضهم تلك الاتفاقات “ليسوا أحراراً” لأنهم ببساطة لم يعتمدوا على الشعب وتثقيفه سياسياً وثوريّاً بمعزل عن الانتماءات الدينية، ليسوا أحراراً بل هم إعادة نتاج سلطوي لمفهوم العسكرة: “أنت لست معي هذا يعني أنك عدوي وقتلك واجب” تماماً كما يفكر النظام السوري، تفكر الفصائل المسلحة التابعة لـ”الحر” وبذلك تنتهي الثورة المسلحة منذ اللحظة التي توجهت بها البنادق للتخلص من الموالاة أو تصفية المعارضة، كيف بها الآن عندما تقاتل تحقيقاً لنصر الحلفاء-المحتلين؟