لا يحزنني الموت

لا يحزنني الموت

لم تتغيّرِ الحروب

الخوفُ رتّبَ حضورَه

والحضارةُ أعادتْ صياغة المشاهد

الجوعُ قتلٌ لا يلطّخُ الأيدي

القصائدُ كما هي ذاهلةٌ لكنّها ليست بمستوى أبطالها

البلادُ نعاسٌ

وفي غرفةِ الإعدامِ في سجنِ المزّة

كان يلتمعُ على الجدار بيت قطريّ بن الفجاءة:

روحي شَعاعاً تطير،

لا مشاهدَ تأخذني

لا ممرّاتٍ يعبرها الحزن

الخيامُ تخطُّ مشاهدَ العراء

والرمالُ تقهقه تحت الطرائد

موتُنا حياةٌ غيرُ مُنجزةٍ

وحياتُنا أقلُّ من ماءٍ وأكثرُ من زبد

لا مشاهدَ تأخذني لا ممرّاتٍ يعبرها الحزن

لا أفقاً يرفعُ القصائد خياماً على رملِ اللّغة

الموتُ فقط

الموتُ يمتحنُ الحقيقة

ويمتحنُ النصّ

يثبت أنه عصيٌّ على التصديق

لا يمكن أنْ تستبطن الموت

ولا يمكن أن تقول أنْ ثمّةَ حياةٌ بعده

إلّا إذا كان الموتُ خاتماً لحديد الحرب،

لم تتغيَّر الحروب

رتّبوا الجثث بملامحها المطموسة

صوتُ الرّياح يشبه الملامح الضّائعة

صوتُ طقطقة حوافرِ الخيلِ على الإسفلت يشبه وحشتي،

لم تتغيّر الحروب

لم يتغيّر الشّهود ولا الضحايا

ثمّة أبطالٌ مفضّلون جدُدٌ يُضفون على المعارك جوّاً من المرح

وثمّة أبطالٌ قدامى يستحضرهم القتل

أتابع المشهد من بعيد

أتابع المشهد وأعلم أنّ القتل اكتمالٌ مسبقٌ لما سنكون عليه

لا تكتملُ البلادُ إلّا بمشهدٍ دمويّ يعلّقهُ التّاريخ في مطبخه،

لا يحزنني الموت

تحزنني الطّرُق المفضيةُ إليه

الإيمان لا يرمّم حزني

أنا المؤمنة كمَثَل إيمان أجدادي القرامطة

الخناجرُ مغروزةٌ في وسائدِ أعدائنا النائمين

لأنّنا أندادٌ وأكثر

ولأنّنا نمنحُ الأعداءَ فرصةً ليصافحونا في الهُدَنِ والمصالح،

لا يحزنني الموتُ

أنا التي لم أحملْ معي كتاباً ولا سيفاً

ولم أسرجْ حصاناً ولا نملةً

ما حاجتي إلى كلّ ذلك؟!

وأنا التي قرأتُ حزن البلاد من الدمّ إلى الدّم

وحاربتُ بأصابعي وأسناني اللبنيّة

وأسرجتُ قدَمَيّ بالحفاء ومشيت.

* * *

قصائد

قصائد

ينبوع   

خُطواتكِ  وردٌ يَهيمُ  في أروقةِ  الليل

بالأمس حَمَلتُ  القناديلَ لها

لأضيءَ   لِعِطْرِكِ الطَّريق إلى داخلي.

كاللؤلؤِ كنت  جاريةً

في نَسْغِ غدي

حين  رأيتك في حلمي نبعاً

بسطت لأرتوي

كفَّ يدي .

( ولم يعودوا)

انكفأت راياتي

في انهيار ألوانها

وجفت دمائي حول مسلاتهم

ولم يعودوا ..

بحثتُ عنهم

في بقايا الضوء

في الزوايا الاكثر فقراً للهواء

في الدروب الضريرة المعتمة

في الجبال وفي الندوب

في شراييني

في ذرات الملح العالقة

بين خيوط وجهاتي وأيامي

في كواكب الصمت الأحد عشر

في الأشلاء الطافية في نهر الأيام

في الغابات التي لبستها

وفي وهج الندى ..

في مغيبهم

تمتد الطحالب الداكنة

على رواق الصمت

ويغدو الفجر خيطاً نحيلاً

كأنه النسيان

(قطارات)

قطارات ..قطارات ..

قطارات لا حصر لها،

على امتداد الشرايين

فوق خطوط السكك

المتجهة صوب الحدود،

كانت البلاد الحائرة المائجة

تضخُّ دمها المُتسربل في معاطف رمادية ..

قطارات تجرف الأشواق

تتسربل بجسد من الغيم الغامض

ويلفها لهاث المسافات،

موحشة تنحدر عبر الأنهار القديمة

وفي طوفانها ترخي ضوضاء الهدير على الجبال الخائفة ..

إنها جسور مسرعة يتراكض إليها الشجر على صفحة الماء

هناك عند الأفق تتعرى الأبراج المتعالية ممّن بناها

وتنحني في جهة رمادية.

 (أبجدية )

مَأهُولةٌ رُوحي بِكَائِنَاتٍ أَبْجَدِيَّةٍ

وَعَلّمَتْنِي غَيْمَةٌ اسْمُهَا أُوْغَارِيت

أَنَّ المَنفى جَرِيْرَةُ الأسْئِلة

وَهَذِه إِشَارَتِي وُجُوْهٌ كَثِيْرَةٌ

لا تُفْضِي مَلامِحُهَا إِلى أَثَر

وَمِنْذُ انْحَدَرت الظِبَاءُ مِنْ المَرَايا إلى الليّلِ

بِتُّ لا أُصَدِّقُ القِطَارَات ..

أَلوذُ بِالمَعْنَى حينَ أَتَكَبَّدُ لِقَاءَ العَابِرينَ

وَأَتْرُكُ وَصِيّتي للنَبِيذ:

لا أَسْمَاءَ للغُرَبَاء

سَتَبْرأُ بُوْصِلتِي مِنْ إِدْمَانِ المَعَاجِمِ

حِيْنَ أَفْرَغُ مِنْ هَاجِسِ الجِهَاتِ .

(أصوات )

في فتنةِ الأناجيل

يُوقظني طَيفهم من الكنائس

فأترك الريح للأجراس

وأغسل وجهي بالبحيرة

أصواتهم تأتي من الغابات

ومن الأكاليل الضئيلة

وتسمع واضحةً في أقاصي الظلام

كأن نبرها مَحمولٌ على الجبال

والقصب الكفيف

تتوكأ على الصمت

هشة مُضرجة بالأعالي

محفوفة بالبنفسج والسراب

ترحل من حوافِّ الضوء

وتنضو في رائحة التراب

القطار )

القطار عبر تسع مدن وثلاثين بلدة

اجتاز المحطة ولم يأت بها،

العتمة التي تركها وراءه

غطت السياج الحجري

تسلقت الأغصان الفضولية للشرفة

مرت من الواجهة البلورية

وغيبت ساعة الجدار.

لم يعد مرجحا

رؤية معطفها على المشجب

أو شالها المبلل قرب الموقد

لم يعد مرجحاً أن نعثر ثانية على كنوزها الخاصة أو مراياها المضيئة.

الغبار انتشر على النضدد

وكسا مقاعد الضيوف زحف إلى الرفوف الخشبية ولامس الأكواب

ثم وصل إلى مسارب الماء في جوف المغسلة

الفراغ القاسي المحسوس بعد عبور الأبواب التي تفضي إلى الحجرات

القضبان الدفينة التي تلمح من الطلاء

وتلك الزاوية ضاقت وبدت موحشة خلف تمثال الرخام.

وحدها الأصوات الخفيفة الحية الآتية من اللوحة تقاوم الصمت

هناك حيث عمد الرسام كائناته المتوارية

وترك العشب ينمو على مهله.

 (الصدى) 

الأعشاب التي تزج برائحة مقترنة

ومحروسة بذكريات منسية

هاهي الآن تواصل زحفها على الممرات والطرق

وعلى العجلات الدؤوبة للوقت

كائنات الحديقة المتوارية في نومها رمادية وذاوية

والضوء الذي تسلل من الغيم

جعل الممر يبدو بعيداً جداً،

السياج المحكم كالوهم  

والجبل أيضا بدا قابلا للعطب وأكثر فقراً.

كل شيء تغير في الخارج

ساكنو الليل وموقدوا النار لم يظهروا

لعلهم اقتفوا أثر الطيور واختفوا ..

وجهك تسلل  بعد نومنا القصير

من النوافذ إلى أحلامنا

وترك أثره على المكان

العتمة المرهفة

الحواف الهشة غير المرئية لقطع الأثاث

التجاعيد الجديدة على الفاكهة،

البيانو المغلق كنعش

والكرسي الوحيد .

ليلك بات بعيدا الآن

لكن الصدى العميق للسوبرانو

الذي تركته حنجرتك

بقي يرن بوهن ويجرح فراغ المكان .

(الهدوء) 

هاهو الهدوء قد رأب صدوع المكان

ردم الحفر وهدم الأوكار التي تركها الضجيج،

حط الرحال هنا كاملا وحيا

وصل محمولا على عجلات الوقت

من تلك الأمكنة هناك حيث ينأى المشاة

من الجبهات البعيدة  ومن المتاريس الرثة والسواتر المدعمة

هناك حيث لجم هدير العتاد

وأوقف أنين العربات و دوي المدافع المرتدة  ..

الهدوء تناهى هنا إلى الرابية عند أطراف البيوت

تخطى الأسيجة والجنائن  وصل سليما ومعافى

واستراح على المصاطب والمقاعد تحت عناقيد الدالية

التي بدت ملامحها صافية ورقيقة الآن

همس برفق في بهو الممر  فامتثلت له مقابض الأبواب

تلمس الأثلام العميقة التي تركها الخوف وراء الجدران

احتضن الزوايا التي نهشها الذعر

نزع الريبة والهواجس من الحجرات

خلص الستائر من الأضواء الهائجة

و أزال الأصداء الميتة من فراغ الممرات.

الهدوء طاف النواحي وأوقف تردي الهواء

محى ندوبا كثيرة سببتها الأصوات العمياء

أتى بالكثير من أمتعة العزلة  وحقائب الصمت

أعاد الطيور إلى أرصفة الحور

أصلح بلطف أثواب النباتات الصغيرة

وشفى العشب المريض

في زيارته إلى الساقية

عانقته الجداجد مجدت صمته  وهيأت حناجرها

و جوقة الليل وبزات الكرنفال .

 (جميعهم) 

جميعهم ذهبوا في التجليات المسكونة بالانتظار

وواظبوا على كسر الهواء ثم سكنوا في أعماق الشظايا

جميعهم أحرقوا البخور أو رفعوا كتباً سماوية

ثم تركوا قلوبهم لباعة متجولين

جميعهم أوقظوني من حلمي وحملوا الكلمات إلي

ولطالما أفقت ولم أجدهم

جميعهم اقتنعوا بالصمت و توحدوا ليبايعوا الظنون

كانوا مدججين بالعزلة يخفون ندوبهم

رأيتهم يحصون السنين ولا يلتفتون

 (الممحاة) 

ووددتُ لو تركت بقيتي للريح ..

أتوضأ بأشلاء الجهات العميقة

وأنضوي في طيات الضوء

رذاذا داكن اللون، غيماً،

أو ملحاً لايرادفه الطحين

قطعتني القطارات وأرخت هديرها

على هشاشة الثلج في ضباب هويتي،

عائداً من شمال الخريف

أخفي الصمت بثرثرة عابرة ،

اعتنقت رداتي لأكمل صلواتي

تتسع الأرض في شمسها وتضيق ممحاتي .

 (مقهى) 

لِوَجْهِكِ نَشْوَةُ أَوْلِّ الصَّحْوِ فِي صَبَاحِ بعيد

الزَنْبَقُ المُكْتَنِزُ  فِي  ثَنَايَاهُ

يَهِبُ  لِكُلِّ زَاوِيَةٍ فِي سَرِيْرِكِ ذَاكِرة

لِيَدِيْكِ  الصَّغِيْرَتِيْنِ مَقَامُ الرَّصْدِ

وَالأَنَامِلُ سَنَابِلُ تَسْتَكْتِبُ  الأُرْجُوَان

وَحْدَهُ الشِّعْرُ  يَقْرَأُ  أَسْرَارَ  لِيْلهُمَا

عِنْدَ أَوّل الفَجْرِ

يَصْعَدُ البُنُّ  مِنْ خُطُوْطِ  يَدِيْكِ

وَ يَمْنَحُ مَقْهَى لِرُوَّادِ  هَذَا الحُلم .

تقطيع المشاهد بالاختناق

تقطيع المشاهد بالاختناق

إذا حزنتَ لا تُخبر النصوص التي تكتب أنك كذلك،
كي لا يُصاب الشعر بك، بالحزن.

إذا شعرت بالحب لا تعترف

وجرّب محو الحب بالبلاد الغافية على الجماجم،
ثم لا تعد للحرب كلما اتضحت غباشة الصور البطيئة،
إنهم يتعاهرون بالهدنة.

حين يصبح للموت كل هذا المديح و”البطولات”،
يكون الحطب قد أخذ اسماً دقيقاً: بشراً… بشراً…

ضع كوباً من الوقت على طرف سريرك،
وتناول كتاباً قديماً كنت قرأته حول محاربة المدن الكبيرة للمساحة،
أخبر الكتاب بأنك تكره الفراغات المتسعة في أي مشهد،
ثم ضع الكتاب على باب متاهاتك النائمة بالقرب منك، بئر الشهوات…
تلك التي تستعد لخطفك إلى أيقونات تسيل ماء بدل الزيت المقدس،
هنا ضع كوب الوقت لتأخذ اللحظات وقتها

بخروج روح الماء من أحزان الصور

وانظر للضوء الخافت، القادم من نافذ الغرفة،
ثمة نجم سوف يهبط على قلبك من العصور الطباشيرية،
عندما ينتهي نزيف الأيقونة

ويرتوي الوقت من لهاث متاهاتك ثم يتوقف للأبد،
تصبح هذه المتاهة امرأة غريبة.

أعد الحزن إلى مكانه الطبيعي، هناك في قفص الضوء،
لن تغرد أنفاسك 140 حرفاً فقط!
الحقائب المنتظرة أسفل الرحيل، هي حقائب الرئتين،
هيا أسرف في ذوبانك ولا تردّ على أحد،
احظر كل كائنات الإنس و اللعنة…
إنهم يريدون صوتهم من كهوف صدرك.


أبعد هواتف المعجزة عن باب رأسك،
الرنين الطويل للحلم لن يعد للوراء،
لن تتذكرك رائحة النهد،

لا تلمس هذا اليباس فقد تكسر ذكراه،

إنه ما بقي من عصير المشمش على صوتها،
هي كذلك، كل الزوايا ترتد إليك… بها،
ترتدّ اختناقاً في تقطيع الماضي الأخرس.

(لارنكا – 10 آذار 2017)

أنا… الغرباء

الغرباء يدخلون إليكَ من أوسع أبواب السؤال،

تطيح بهم جمعياً بحطام واحد منك!

على أن تكون العيون براميل الموتى الذين يقف الغرباء

بحثاً عليهم

بحثاً عن تساقطهم من مروحية النصر“!

وتسأل: إذا كان للضحايا كل تلك الصور في خرائط الشاشات،

لماذا لا يراك الغرباء إلا شبيهاً بالأسئلة،

وماء يديك ينخرط مرارات في كتب ذكرياتهم؟

الغرباء يطوّبون الوجوه السائلة على صفحة شفاههم،

ثم يدوّنون هذا الصوت

يدوّنون فعلتهم تلك: أجل، لقد نظروا إليك،

كنتَ الغريب الوحيد بينهم،

وهم

أصحاب المكان

أصحاب الرحيل

لارنكا – (بار 1900) 11 كانون الثاني 2018  

موت ناصع

نحن افتراض الطُعون على منصات الحقوق!

لا طوابع على جباهنا، ولا أختام تعدّل لنا الحياة،

نحن عفونة الملح في أوراق الطُعون

فكرتها وسحاق شهوتها، نعبث في شاطئ خيالها

ويقدمنا قضاة الحزن في مرافعة الرحيل

نغرق في دعوة الرفض، ثم لا يمنحنا الآمنون رخصة للهواء

نقسّم أحلامنا على رذاذ الرمال، يتضاعف خصامنا منّا وهو يحدق بهشاشة في أحشائنا الطينية.

من يعبق قرب عظامنا بالنهاية، فليحمل لنا ثعابين الخلاص أو يرسل إلى الله حبالاً لتسحب هذه الجثث من برزخ صراخها.

نتفوّق على حمرة دمنا في خَرق بياض الصفحات وتنقيط وحي الإله، وأقدار عجزنا المذوّبة طوال ثلاثين عاماً نرتدي نتوء القصائد المحترقة تحت نواح الموت الناصع

تعالوا عربدوا على حكاياتنا وملفاتنا، وصورنا الإجرامية إلا قليلاً،

هيا اكتبوا نحونا صعود الرثاء، وعانقوا فينا الوحوش النائمة، أخرجونا من كبريائنا وذاكرتنا، وفصّلوا لنا أطقم الرمال النادمة، ربّما تكللنا أصابع أولادكم وهم يهيلون التراب على أحذيتنا قبل أن يشعلوا الفتيل

نرجع إلينا في أرصفة المَهَاجر وطلائع العيون البيضاء تمشي أمامنا،

ترحب بنا كنائس المدينة ببطء الحروب التي صلبت حجارتها ورؤوسنا تنحني لتبعد عن دربها أصوات البحر العالقة بين قبور القديسين،

ها نحن نعبر إلى عصور العدم، لا هواء يدخل الجسد! والأرواح تحوم في العيون البيضاء، العيون التي اقتلعتها أقدرنا ومضت وراءنا

لارنكا – 26 أيلول 2017

الغريب

الغريب

الغريب (1)

عيناهُ تسجّلانِ التفاصيلَ الرتيبة

كعدسةٍ في يـدِتاركوفسكي،

عيناهُ رأتَــا في ثلاثينَ عامًا

ما يراهُ شعبٌ في ألفِ عام،

أين يذهبُ بعينيه؟!

كيف يهربُ من ذاكرةِ الدمعِ والدم؟!

عندهُ من الصُوَرِ

ما يملأُ جدرانَ العالمِ بالنَّعَوات،

من الطعناتِ

ما يجعلُ السماءَ غربالًا،

من القهرِ

ما لا يستطيعُ عمرٌ كاملٌ من الأمجادِ محوَهْ.

* * *

الغريب (2)

عندما تكتبُ قصيدةً عظيمة

أو تنامُ مع امرأةٍ رائعة

أو تقتلُ عدوّكَ اللئيم

يُمكنكَ أنْ تشربَ أنهارًا من الخمر

وتدخَّنَ الأشجارَ سجائرَ،

تركُلَ الأرضَ حتى تدورَ بالاتجاهِ الذي تريد،

تعترفَ لوالديكَ بأنكَ لستَ ابنـهُما،

تُخرجَ جـثّـةً من القبر

وترقصَ معها حتى الصباح،

يمكنكَ أنْ تصرخَ في وجه السماء: أنا سـيّـدُ الأرض!

وبعدَها

يمكنكَ أنْ تموت

كما يليقُ برجُـلٍ أنْ يموت؛

ضاحكًا في وجهِ الموت

باصقًا في وجهِ الحياة.

* * *

في البدء كانت السكين

في البدء كانت السكين

في البدءِ كانت السكين

منذ قابيل

وإلى آخر مجزرة،

الكلماتُ لم تكن ولدتْ بعدُ

الكلمات التي تحفظونها عن الأمل

لن تمنح الحياةَ لوردةٍ صغيرة

مرّتْ من فوقها دباباتُ الوطن،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الفرح

لن تمسحَ دمعةَ طفلٍ فقد درّاجته تحت رُكام المنزل،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحلم

لن تُقنعَ النائمين تحت سماءِ الحزن المدلهمّ

بالنظرِ إلى السماء،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحبّ

لم تعد تصلُح لحديثٍ مسائي بين عاشقين

على مقعدٍ في حديقة

في زمن “الأندرويد” و “دونالد ترامب”.

أيتها الكلماتُ المغدورة

ماذا سنقولُ لـ “كريم” (*)

– وقد انطمسَتْ قصائدُنا التي لم تُكتَبْ بعدُ –

عن العيونِ والأنهار

عن البحار والمدى

عن الردى!

وحدَها السكينُ

ووحدنا الحنجرة،

وحدها البندقية

ووحدنا الظهر،

وحدَهُ الذئب

ووحدنا الحملانُ الضعيفة.

هلِّلُويا

هلِّلُويا

في البدء كانت السكين.

* * *

(*) كريم: من أطفال غوطة دمشق، اقتلعت عينه جراء القصف.