عسكرة الثورة السورية والأخطاء القاتلة

عسكرة الثورة السورية والأخطاء القاتلة

يسير التاريخ إلى الأمام بشكل مستمر، إلا أنه يسير وفق خط متعرج كثيرا، وهذا ما سمح “لآل البوربون” بالعودة إلى حكم فرنسا، لكن الثورة الفرنسية انتصرت في النهاية، وربما نحتاج إلى أجيال كي نرى مآلات ما يحدث في سورية الآن، فالانتصارات العسكرية الآنية هنا أو هناك قد تشوش الرؤية، أكثر مما تصنع الحقائق، مع ذلك نحن مطالبون بدراسة الحدث في تعرجاته المستمرة، التي تصنع تاريخ السوريين اليومي والكارثي بآن معا.

فتعقيدات الحالة السورية لم تمكّن من وضع نهاية سريعة للنظام، على غرار ما حدث في تونس أو مصر، إذ كان هذا النظام مستعدا منذ البداية للحل الأمني، الذي لا يمكن أن يقوم إلا عبر استدراج العسكرة والتطرف الإسلامي، ولذلك بدأ منذ اليوم الأول يردد منولوج المؤامرة الإرهابية الهادفة إلى النيل من نظام تقدمي وعلماني وممانع للإمبريالية والصهيونية.

واستمر النظام في طرح هذه الديماغوجيا حتى نجح في تخليقها حقيقة واقعة، مستفيدا من كل المعطيات التي اشتغل عليها خلال عقود من الاستبداد، بِدءاً من الانقسامات العمودية في سورية، ومرورا بالتحالفات الإقليمية والدولية، وصولا إلى الاستفادة من العناصر الجهادية التي وظفها سابقا في العراق، حين أطلق سراح أكثر من ٦٠ معتقلًا من قياداتهم بتهمة التطرف والإرهاب، من سجن صيدنايا العسكري الأول، وصولا للكذب في تقديم المعلومات على طريقة “غوبلز”، وليست رواية “أحمد أبو عدس” المرتبط بكتائب “عبد الله عزام”، ومن ورائها “تنظيم القاعدة” بخصوص تفجيرات دمشق، وتهريب الفيديو المسجل لدى أجهزة الأمن السورية إلى مكتب الجزيرة في لبنان، ومن ثم إلى مركز الجزيرة الرئيسي في الدوحة ليبث من هناك، إلا واحدة من تطبيقات “اكذب .. اكذب حتى يصدقك الناس.”

غير أن أهم أدواته التي لعبت دورا في تخليق تلك الديماغوجيا واقعا عيانيا، تكمن في طبيعة العلاقة بين السلطة السياسية من جهة وبين المؤسستين العسكرية والأمنية، اللتين استشرى فيهما فساد النظام وديكتاتوريته، وهو ما يَسّر له وساعده على التقدم باتجاه الحل الأمني، الذي سبق وأن اختبره في بداية ثمانينات القرن الماضي في أكثر من منطقة سورية، فكانت الأوامر جاهزة للوحدات العسكرية بإطلاق الرصاص الحي على أهالي درعا المطالبين بعودة أطفالهم الذين كتبوا بأصابعهم الصغيرة على أسوار مدارسهم عبارة “الشعب يريد اسقاط النظام”، مرورا بمشاهد انتهاك كرامة المدنيين العزل في قرية “البيضا” التابعة لمدينة بانياس الساحلية، وصولا إلى إطلاق النار على المعزين في “ساحة الساعة” بمدينة حمص، وليست هذه إلا بعض الشواهد التي تؤكد استعداد هذا النظام لارتكاب أفظع جرائم القتل والعنف، وتؤكد في الوقت ذاته طواعية المؤسستين العسكرية والأمنية لتنفيذ هذه المهام، وإطلاق النار على الشعب.

كمية العنف التي مارستها المؤسسة العسكرية، التي يطلق عليها في النشيد الوطني لقب “حماة الديار”، استفزت مشاعر البعض من العسكريين في البداية، الذين رفضوا إطلاق النار على أهاليهم من المتظاهرين السلميين، وتمّ فعلا توثيق الكثير من الحالات التي جرى فيها تصفية هؤلاء المجندين من قبل رفاقهم، بحجة عدم تنفيذ الأوامر العسكرية!  

وهنا بدأت ظاهرة الانشقاق عن مؤسسات الدولة ككل، وبشكل خاص المؤسسة العسكرية، وأخذت تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات الانشقاق المتتالية، التي يعلن فيها العسكريون أسماءهم وسبب انشقاقهم، وهم يرفعون بطاقاتهم العسكرية من أجل المصداقية، قائلين: وهذه هويتي!

الجيش الحر وظاهرة الانشقاقات

كانت ظاهرة الانشقاقات محكومة في بداياتها بطبيعة عفوية وفردية غالبا، كرد فعل على العنف المنظم ضد الناس المدنيين، حيث ترك أغلب المنشقين في البداية أسلحتهم وراءهم وكل ما يربطهم بالجيش، لكن تزايد عنف النظام قاد البعض منهم للتفكير بضرورة حمل السلاح لحماية أنفسهم أولاً، ولحماية المتظاهرين من أهاليهم وأصدقائهم وجيرانهم في الحي أو القرية، ممن خرجوا يطالبون بالتغيير والحرية والكرامة، إذ عاد أغلب المنشقين إلى حواضنهم الاجتماعية، يحمونها ويحتمون بها. خاصة في غياب أي مؤسسة بديلة يمكن للمنشقين أن يذهبوا إليها.

فهل من حقنا إدانة أولئك الأحرار الذين انشقوا عن جيش النظام كي لا يطلقوا النار على المتظاهرين السلميين؟ وإذا كان الجواب بالنفي وفق اعتقادي، فهل يعفينا ذلك من تقييم هذه الظاهرة ومآلاتها التي ذهبت بعيدا عن الأماني الطيبة لهؤلاء الأفراد؟

ولماذا عجزت كل الفصائل والكتائب العسكرية التي تشكلت في رحم الثورة، عن توحيد جهودها ومأسسة ذاتها بالمعنى العسكري والتنظيمي، كبنية موحدة في مواجهة النظام التي اتفقت جميعها على ضرورة إسقاطه؟

إشكالية الحالة السورية مقارنة بأغلب الثورات الكلاسيكية التي عرفناها سابقا، أن الثورة فعل إرادي ومنظم مسبقا، وليست عملاً عفوياً يحدث بالصدفة، حتى لو حكمت العفوية بعض مراحل تطور هذا الفعل، فهذه القصديّة أو الإرادويّة كانت موجودة في الثورة الفرنسية وفي الثورة الروسية أيضا، وحتى ما عرف لاحقا بثورات التحرر في فيتنام والجزائر وأنغولا وبعض دول أمريكا اللاتينية وصولاً إلى الثورة الفلسطينية، كان يوجد دائما مركز قرار سياسي منظم، يشرف على تشكيل جناح عسكري، حتى في تجربة الجيش الإيرلندي أو نماذج حرب المدن وتجربة “التوباماروس”، كلها تندرج في إطار “حرب التحرير الشعبية” أو ما يعرف بحرب العصابات، غير أن الحالة السورية كانت على النقيض من ذلك، إذ افتقدت منذ البداية إلى قيادة يمكن أن ترسم خططا وتضع برامجَ وتقود الثورة.

بلغ عدد حالات الانشقاق عن الجيش السوري حتى نهاية العام 2011م حوالي  22 ألف حالة انشقاق، إلا أنها كما أشرنا كانت محكومة بالعفوية والمبادرة الشخصية، كرد فعل ملتبس بالكثير من المشاعر الإنسانية والوطنية، وربما مشوبة بظلال من الأيديولوجيا والتمذهب أحيانا، لكنها بالتأكيد غير منظمة، حتى أن بعضهم بكى عندما تخلى عن بندقيته، وآخرون رفضوا تدمير السلاح، وربما لم يملك أغلبهم الوعي بأن انشقاقهم يشكل خطوة باتجاه تدمير إحدى أهم مؤسسات الدولة السورية/الجيش، وهذا جزء من سجال لاحق حول استقلالية الدولة عن النظام، فعملية الانشقاق عن الجيش، لم تتم لصالح مؤسسة بديلة، وإن سعت لاحقا بعض التنظيمات أو الجهات للاستفادة منها.

أولى حالات المأسسة ظهرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، بالإعلان عن تشكيل “المجلس المؤقّت العسكري”، برئاسة رياض الأسعد، للعمل على إسقاط النظام، وحماية السوريين من القمع الذي يُمارس ضدّهم، ليظهر لاحقا “المجلس العسكري الثوري الأعلى” كنقيض للتشكيل الأول، قبل أن تتشكل “القيادة المشتركة للجيش الحر” في محافظات دمشق وحمص وحماه وإدلب ودير الزور، ثم تشكلت “القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية”، كإطار أوسع للجيش الحر،  لنفاجأ في كانون أول/ ديسمبر من العام 2012 بتشكل “هيئة القوى الثورية” من 261 ممثلاً عن الكتائب والفصائل وقادة الألوية انتخبوا “مجلس القيادة العسكرية العليا”.

خمسة تشكيلات عسكرية ظهرت وتلاشت خلال عام واحد تقريبا، مما يؤشر على أزمة هذه البنية غير المستقرة، وعجزها عن التوحد، فإضافة لما أشرنا إليه من غياب مركز قيادي موحد بالمعنى السياسي أو الوطني، تكشّف الدور الإقليمي والدولي لاستجرار ولاءات شخصية خارج أي مشروع وطني، عبر التمويل الذي يذهب مباشرة إلى قادة الفصائل والتشكيلات الميدانية، وليس إلى جهة مركزية يمكن أن تسعى لمأسسة هذه الظاهرة، والتي تراجعت كثيرا عندما بدأ المال الخليجي يركز على تمويل الفصائل والكتائب المتشددة إسلاميا، والتي لم تعترف بالمجالس العسكرية التي تشكلت فيما سبق، مثال الدور الذي لعبه “المحيسني” في تمويل لواء الفتح و”جبهة النصرة”، قبل أن يخرج من صيغتها الأحدث “هيئة تحرير الشام”، وأمثال “المحيسني” كثر بين ممولي الفصائل وشرعييها المتحكمين بها، والذين ساهموا بانزلاق هذه التشكيلات إلى الأسلمة والتطرف، وإن بدرجات مختلفة.

كما أن الانفصال بين القيادات العسكرية التي استقرت في تركيا بشكل عام، وبين الفصائل الميدانية التي تقاتل داخل سورية، غذّى الميل باتجاه الفصائلية، إضافة لتشرذم تلك القيادات والخلافات فيما بينها، حتى أنها انقسمت في إحدى المخيمات التركية إلى مجموعة العمداء ومجموعة العقداء، على سبيل المثال.

بالمقابل تبخرت كل وعود الغرب والإدارة الأمريكية بخصوص دعم الثورة، حتى أن اجتماع “أصدقاء الشعب السوري”، المنعقد في تونس بتاريخ 24/ 2/ 2012، للمساهمة بدعم الثورة السورية عسكريا، والذي قرر إنشاء غرفتي “الموم” في الشمال بإشراف تركيا، و”الموك” في الجنوب بإشراف الأردن، تكشف لاحقا أنه يهدف للرقابة، بشكل أساسي، على عدم وصول أي سلاح نوعي للفصائل خشية أن ينتهي بأيدي الفصائل المتشددة إسلاميا، حتى مشاريع تدريب بضع عشرات من المقاتلين التابعين لفصائل حصلت على حسن سلوك غير إسلامي، لم تشكل أي فارق ملموس طيلة حقبة الرئيس أوباما، لكنها حكمت بشلل المواقف الأوروبية وغيرها الداعمة لتغيير نظام الأسد.

تجارب الائتلاف الوطني للمساهمة في مأسسة الجيش الحر، لم تكن أفضل حالا من عجزه عن مأسسة ذاته، أو عجزه عن تبني مشروع وطني موحد للسوريين، لأن تركيا التي منحت للائتلاف وبعض قيادات المعارضة العسكرية مكانا آمنا، كانت حريصة “حتى أشهر مضت” على عرقلة كل استقلال لبنى ومؤسسات الثورة، من خلال رفضها إشراف أي من تلك المؤسسات شبه الرسمية كالائتلاف أو الحكومة المؤقتة أو الجيش الحر، على المعابر مع سورية، لأن ذلك يمكن أن يؤمّن لتلك المؤسسات دخلا وتمويلا يعفيها من تسول المساعدات، ويخرجها من الارتهان لرغبة وإرادة الممولين ومصالحهم الإقليمية.

في مداخلة للواء سليم إدريس قائد أركان الجيش الحر عام 2014، أمام “الهيئة العامة لائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، تتطرق فيها بإسهاب وأرقام حسابية تفصيلية، للكثير من الإشكاليات التي تتعلق بغياب جيش وطني، موضحا أن الخطط والتصورات والقوى البشرية كلها جاهزة، لكن لا يوجد أي تمويل يساعد على تحقيق هذا الهدف، مضيفا أن ما توفر من تمويل كان يذهب إلى الفصائل والكتائب التي تبيع الولاءات لمن يدفع فقط.

من درع الفرات إلى عفرين

انسحاب الإدارة الأمريكية من الملف السوري طيلة سنوات أوباما العجاف، انعكس سلبا على كامل المشهد السوري، فروسيا التي أعلنت البدء بسحب قواتها من قاعدة طرطوس، إثر تهديد أوباما بعيد ضربة الكيماوية في غوطة دمشق ديسمبر 2013، والتي راح ضحيتها أكثر من 1400 شخص، جلهم من الأطفال والنساء، استعادت مواقعها بسرعة إثر صفقة تسليم مخزون النظام من السلاح الكيماوي، واكتسب بوتين شرعيةً ونفوذاً لم يكن يحلم بتحقيقهما في يوم من الأيام، حتى غدا اللاعب الأول في الملف السوري.

كما انتقل تنظيم P.Y.D من المسار الروسي إلى المسار الأمريكي، كوّن مليشيا “وحدات حماية الشعب/ “P.Y.G التابعة له، هي الفصيل الوحيد غير الإسلامي الذي يمكن أن يحمل مشروع إعادة ترتيب المنطقة، وفق ما بدأه باسم “الإدارة الذاتية”، لكن هذا التنظيم الذي بدأ مسيرة غير ديمقراطية، لم يُحسن التعامل لا مع الكرد ولا مع محيطهم المتنوع، ولم يستطع أن يكون حاملا لمشروع وطني يجمع حوله الكرد ومن ثم باقي المكونات السورية، فبقي رغم الديماغوجيا الكثيرة التي تقال بهذا الصدد،  فصيلاً منافسا للفصائل الإسلامية، ولم يكن رهانه على الكرد أو السوريين أو على الديمقراطية والمواطنة، بقدر ما كان على التحالفات البراغماتية والدعم الخارجي، هذا الدعم الذي تخلى عنهم بسهولة في معارك “درع الفرات” فهزموا في أعزاز وفي عفرين، وتل رفعت، حتى أنهم اضطروا للاستنجاد بجيش النظام دون جدوى، وما زال وضعهم في منبج رهن التفاهمات التي يمكن أن تحصل بين الإدارة الأمريكية وتركيا.

بالمقابل حملت تركيا عضو “حلف الناتو” العسكري مخاوفها بخصوص مشروع P.Y.D، وذهبت باتجاه الكرملين الذي رحب بالحليف الجديد، واعتبره مع إيران جزءا من أوركسترا “أستانا” التي سيضبط بوتين لاحقا إيقاعها في رسم مسارات التفاوض ورسم الخرائط في سورية، خاصة بعد معركة حلب التي شكلت هزيمة لخيارات العسكرة والفصائلية المرتبطتين بالتطرف الإسلامي، هذا التطرف الذي اشتغلت عليه قوى إقليمية عدة بمعنى التمويل والأيديولوجيا والتسهيلات اللوجستية، دون أن نغفل دور النظام في دعم هذا التطرف الإسلامي عبر استدعاء نقيضه من المليشيات الطائفية ومن كل الجنسيات، المرتبطة بالمشروع الإيراني في المنطقة.

إثر هزيمة حلب تقلصت بنى ما يُسمى “جيش حر”، بالعدد وبالمعنى النسبي والضيق لهذه التسمية، وتحديداً بعد التزام تركيا إلى جانب إيران وروسيا في مسار “أستانا”، الذي أعلنت تلك الفصائل رفضه بداية، لكنها عادت صاغرة للالتزام بالقرار التركي للمشاركة، وجرى في هذا السياق تظهير أسامة أبو زيد فجأة كناطق رسمي لتلك الفصائل وعراب لهذا المسار الجديد، الذي يجبّْ مسار جنيف التفاوضي من جهة، ويُبعد المستوى السياسي عن صنع القرار ليحل محله المستوى العسكري، لكن أبو زيد حين تلكأ بعض الشيء، وبشكل خاص فيما يخص التحضيرات لمؤتمر سوتشي، جرى استبداله في الجولة السابعة من ماراتون “أستانا” المتسارع بالسيد أيمن العاسمي ناطقا باسم الوفد والدكتور أحمد طعمة رئيسا له، وحين أرسل د. طعمة إلى مؤتمر “سوتشي” لم يتمكن من إكمال مشواره، وجاءت عبارته الأخيرة في مطار سوتشي معبرة عن واقع الحال، حين طلب أن تمثلنا تركيا في هذه المفاوضات!

قبضت تركيا سلفا من الروس والإيرانيين، ثمن مشاركة الجيش الحر في أستانا ولاحقا في سوتشي، حيث حصلت على تفويض في جزء كبير من شمال سورية، يمتد من إدلب إلى عفرين، وربما يصل قريبا إلى أعزاز، فيما رفضت الإدارة الأمريكية عقد هذه الصفقة لصالحها، وتعززت في الوقت ذاته عن الوقوف في مواجهتها حين عُقدت لصالح الروس، وأصبحت تركيا بذلك هي اللاعب الضامن في مؤسسات المعارضة السورية، الائتلاف والحكومة المؤقتة وإلى حد بعيد الهيئة العليا للتفاوض، وبقي عليها تطوير أداء ما بقي من الجيش الحر في رعايتها، وهي فصائل “درع الفرات”، التي فقدت الكثير من هيبتها في أستانا وسوتشي لاحقا، مما اضطر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة الحيوية والاعتبار لهذه الفصائل، حين منحها في شهر شباط/ فبراير 2017 لأول مرة صفة “الجيش الوطني لسورية”.

وقد استجاب رئيس الحكومة المؤقتة د. جواد أبو حطب لهذه الإشارة، وبادر للإعلان عن تشكيل “الجيش الوطني السوري” إثر اجتماع بمقر القوات الخاصة التركية بتاريخ 24/10 /2017، بحضور كلاً من والي غازي عينتاب ووالي كلّيس، وقائد القوات الخاصة التركية وممثلي الاستخبارات التركية، وأعضاء الحكومة السورية المؤقتة، ونائب رئيس الائتلاف السوري المعارض، وقادة فصائل الجيش الحر المتواجدين في منطقة “درع الفرات”.

هذا الاجتماع الذي أعلن تشكيل “الجيش الوطني السوري” على مرحلتين، ووفق ترتيبات محددة من فيالق وفرق وألوية وكتائب، أعلن فيه أيضا، ولأول مرة، عن توحيد كل المعابر في منطقة “درع الفرات” وجمع كل وارداتها في خزينة موحدة تحت إشراف الحكومة السورية المؤقتة، لتوزع بشكل عادل على كل من الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية والجيش الحر، بعد أن انضبطت بشكل كامل بالإيقاع التركي.

وقد هدف هذا الاجتماع وكل مقرراته بالدرجة الأولى إلى منح الفصائل المشاركة في “درع الفرات” اليافطة الوطنية، لتبرير دخول تركيا إلى شمال سورية و”عفرين” تحديدا، لتصفية الحسابات التركية مع الكرد عبر البوابة السورية!

الأخطاء القاتلة

إن مجرد التفكير بعسكرة الثورة، في مواجهة نظام يملك ميزان قوى أفضل بالمعنى التنظيمي ومركزية القرار، إضافة للتفوق في نوعية التسليح والعتاد الحربي، ناهيك عن سلاح الطيران الذي يمكنه تغيير المعادلات القتالية، وخاصة بغياب توازن في التحالفات الإقليمية والدولية تدفع لتحييد هذا السلاح، إن مجرد التفكير بعسكرة الثورة وفق هذه المعطيات يشكل خطأ قاتلاً، ويمنح النظام تفوقا قتاليا بالضرورة.

فكيف إذا كان الأمر مع عسكرة فصائلية، عجزت كما رأينا عن توحيد نفسها أو حتى تنسيق جهودها، ولم تستطع أن تكوّن أي رؤية استراتيجية للصراع مع نظام مدعوم إقليميا ودوليا بشكل كبير، بل زادت من فصائليتها حين ربطتها بالمناطقية، فلم تتحرك الفصائل العسكرية في “الموحسن” لنجدة مثيلاتها في “دير الزور” مثلا! ولم يحصل العكس أيضا، ولم يتحرك جيش الإسلام في “دوما” لدعم أنبل فصائل الجيش الحر التي قاتلت وصدّت جيش النظام لسنوات، قبل أن يتمكن هذا الأخير من اقتحام “داريا” واحتلالها، بمساعدة المليشيات الطائفية.

يمكن التأكيد أنه باستثناء فصيل “وحدات حماية الشعب” الكردية، كانت كل فصائل الجيش الحر إسلامية إلى هذه الدرجة أو تلك، كما اتبعت أغلب الفصائل التكتيكات القتالية وأساليب الإدارة للمناطق التي دعيت محررة عبر المحاكم الشرعية ذاتها التي اتبعتها الفصائل الإسلامية المتشددة، وتعززت هذه الميول أكثر في ضوء تقاعس المجتمع الدولي وتخلي الليبراليات الغربية عن مسؤوليتها في حماية السوريين، ومساعدتهم على تأسيس بنى وطنية وديمقراطية للمعارضة السورية السياسية والعسكرية، مما شجع على ارتهان تلك الفصائل بسهولة أكثر إلى مصادر التمويل الخليجية، كما أدت سياسة الإدارة الأمريكية والغرب لتجفيف منابع دعم الجيش الحر وتسليحه، إلى هروب الكثير من مقاتليه وأحيانا فصائل كاملة باتجاه المنظمات الأكثر تطرفا وأسلمة كالنصرة وداعش اللتين تمتلكان مصادر تمويل وتسليح مستقرة.

غياب أي رؤية للاستراتيجية العسكرية عند فصائل الجيش الحر، بالتوازي مع غياب أي رؤية وطنية لديها، ساهم بانزلاق أغلبها في اتجاه الأسلمة والتطرف، مما أبعد كل الحلفاء المحتملين لثورة الشعب السوري، ونجح النظام ومعه روسيا بجر العالم كله، إلى فخ محاربة الإرهاب، التي غيرت بالضرورة من طبيعة الصراع كثورة شعب ضد الديكتاتورية، إلى حرب أهلية بين النظام وقوى الإرهاب، المصنفة الأخطر على العالم أجمع، بعدما ضربت في باريس وبروكسل وبرلين وفي باقي عواصم العالم.

غياب الرؤية الاستراتيجية لتلك الفصائل، شجعها أيضا على خيار تحرير البلدات والمدن عسكريا، إن لم يكن النظام قد استجرها لذلك، وأصبحنا نسمع عن مناطق محررة، لكنّ هذه الفصائل التي قادت عملية التحرير، عجزت عن تقديم بديل ديمقراطي لإدارة شؤون السكان، الذين ارتهنوا لعسف المحاكم الشرعية، وبطش وجور أمراء الحرب، مما ساهم بتدمير الحاضنة الشعبية للثورة، بالتوازي مع تحويل هذه المناطق المحررة إلى أهداف لقصف النظام وحلفائه، وتدمير هذه القرى والمدن وتهجير سكانها المدنيين، دون الاهتمام بالخيار التاريخي لحرب التحرير الشعبية، التي تضرب وتختفي كي لا يتم ضربها في ظل توازن قوى لا يمكن أن يكون في صالحها.

وقد اعترف جيش الإسلام قبل نحو عام من هذا التاريخ بخطأ احتلال المدن، لكنه لم يسع إلى تجاوز أخطائه قبل معركة الغوطة الأخيرة، التي دفعت ثمنها كل الفصائل المقاتلة، ويبقى الثمن الأكبر ما تكبده المدنيون في هذه المناطق، قتلا وتدميرا وتهجيرا.

لم يكن وضع “وحدات حماية الشعب P.Y.D” التي تنفرد بعقيدة أيديولوجية وقتالية غير إسلامية، إلا نسخة رديئة من الفصائلية التي افتقدت المشروع الوطني والرؤية الاستراتيجية، فالفصائلية لا يمكن أن تحمل مشروعاً وطنياً، وهذا المشروع لن تنتجه الأجهزة التركية مهما رفعت يافطة الوطنية، وسيبقى كرد سورية جزءاً من النسيج الوطني السوري، شاءت تركيا أم أبت، فالمشروع الوطني السوري هو الذي يمثل كل السوريين ويعبر عن طموحاتهم، باتجاه رؤية لمستقبل سورية تقوم على أساس دولة المواطنة والديمقراطية المتساوية.

وحركة التاريخ لن تعود 1400 سنة إلى الخلف، مهما ارتكست اليوم أو غداً.

هل أصبحت فصائل “الحر” مرتزقة بيد تركيا؟

هل أصبحت فصائل “الحر” مرتزقة بيد تركيا؟

منذ بداية الحراك السوري في ربيع 2011 كانت مطالب الشعب واضحة وراسخة في الأذهان، هذا التحرك العفوي حمل معه من العشوائيّة (التي لا بدّ منها) الكثير على أنّ أسوأ أشكال هذه العشوائيّة تمثلت في رفع السلاح الذي كان بريئاً في مكان ما وخبيثاً في أماكنَ أخرى، فممّا لا شكّ فيه أن مجموعة من الدول التي عدّت نفسها داعمة للحراك الثوري ساهمت في دعم وتشكيل ما يُسمّى بالجيش الحر كالسعودية وقطر اللتين تعيشان حالة ملكية سلطوية مطلقة وتركيا التي تطمع ببعض الأراضي السوريّة، والولايات المتحدة الأمريكية المهووسة بابتلاع العالم والحفاظ على المصالح الإسرائيليّة، في هذا الجو من التكالب وتحت ضغط القبضة الأمنية التي كانت الشرارة الأولى لهذا الانفلات الذي حصل تمّ تكوين كيان عسكري مشوّه، لا قدرة له على مواكبة مطالب الشعب، بل كل ما يستطيعه هو السعي لتنفيذ طلبات الداعم الذي يوجهه بسبابته، وقد تجسّد هذا بوضوح شديد بعد بداية عمليّة غصن الزيتون في عفرين، حيث أنّ الجيش الحر قام بالحشد شمالاً لاقتحام مدينة سوريّة لم تبادره الهجوم لا لشيءٍ إلّا تحقيقاً لمصالح داعميه غير السوريين، فبغضّ النظر عن التجاوزات التي قامت بها قوات حماية الشعب الكردي وارتهانها الواضح للمشروع الأمريكي الذي يسعى لتمزيق الكيان السوري، إلّا أنّ التوقيت كان غريباً ولا يمتّ للمصلحة السوريّة بصلة، فقد تزامن هجوم هذه الفصائل على عفرين مع اقتحام قوات النظام لجنوب إدلب وضغطها عسكريّاً على مناطق سيطرة المعارضة، وهنا يتبادر لنا السؤال التالي:

لماذا ينشغل هؤلاء بفتح جبهة جديدة بينما جبهتهم مشتعلة وممزقة لا بل ومهزومة؟

الإجابة بسيطة جدّاً: لأنّهم أساساً موجودون بمعيّة داعمهم لتنفيذ أوامره التي تفضي لتحقيق غاياته ومآربه على الأرض السوريّة، وهذا ما يفسّر توقفهم عن القتال حين يكون النصر حليفهم بشكل مفاجئ، وفتحهم لجبهات غريبة في أوقات عصيبة، هذا كلّه يتضح حينما نقوم بمراقبة ظروف الداعم ومواقفه السياسيّة، كما أنّ المشكلة الكبرى في هذه التشكيلات العسكريّة أنّها غير مندمجة عضويّاً بالنسيج السوري، فالنسيج السوري بالرغم من توجهه الديني المحافظ إلّا أنّه معتدل وهذه الفصائل بمعظمها تميل للفكر السلفي التكفيري الجهادي فمع استبعادنا لجبهة فتح الشام (جفش) أو فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام لتكون الصورة أوضح والتي لا تخفي فصائل الجيش الحر تحالفها معها وارتباطها العضوي معها إلّا أنّ باقي الفصائل هي وجه آخر لها بأسماء أخرى كجيش الإسلام وفيلق الرحمن وأحرار الشام وأنصار الإسلام ولواء التوحيد وغيرهم ممن لا يتبنّون فكرة الدولة المدنية الديموقراطية بل يحلمون بإقامة حكم إسلامي تتحكم فيه الأحكام الشرعية وترسمه حدود التفسير الضيّق للدين، والمشكلة الأشد خطورة التي تحكم هذه الفصائل عدم امتلاكها للمرجعيّة ففي معظم الثورات التي نجحت ثمّة بنيان سياسي يوجّه الأوامر لعناصر مقاتلة تحقق غايات وطنية، أمّا في حالة الجيش الحر فلا يوجد توجه ولا مرجعيّة ولا يوجد جيش بمعنى الجيش أساساً فهم فصائل يربو عددها على ال150 فصيل تحارب الجيش السوري وتحارب بعضها، هذه الفصائل في عز هجوم النظام العنيف عليها كانت تقوم بمعارك تصل إلى مستوى حمام الدم فيما بينها فمن ينسى معارك جند الأقصى مع أحرار الشام يوم كان الجيش السوري يدخل حلب، ثم معارك هيئة تحرير الشام مع أحرار الشام إبّان تحرك النظام باتجاه إدلب، ومعارك فيلق الرحمن مع جيش الإسلام بالرغم من التقدم الواضح لقوات النظام على جبهات الغوطة، هذا بغض النظر عن بعض التصرفات التي وصلت إلى أن تقوم كتيبة عائلة ما بالهجوم على كتيبة عائلة أخرى لإحياء ثأر قديم، فتعالوا نتخيل معاً سقوط النظام الذي كان إلى حدّ ما يوحد توجه السلاح، ماذا سيحصل في سوريا وهل سيعرف العالم من يتقاتل مع من ولماذا؟

وهل ستسمح هذه الفصائل بإقامة أي شكل من أشكال الدولة بينما يحكم كل فصيل منطقته التي يمنع الفصائل الأخرى من دخولها؟

والمشكلة الأكبر أنّ الجيش الحر لم يقم بإجماع آراء السوريين إلّا أنّه بعد فرضه لوجوده بدأ يعمل على إقصاء وتخوين وإيذاء كل من يرفض وجوده وكأن مسألة القتال واحدة من الثوابت الوطنية التي لا يمكن النقاش فيها.

وبالعودة على بدء حين نتحدث عما يحدث في عملية غصن الزيتون، نجد أنّ الجيش الحر تحول لقوات مرتزقة تقاتل بالوكالة المعلنة عن دولة تريد احتلال أرض سوريّة، وهذه الدولة ذاتها (تركيا) تقوم بتحالف معلن مع الروس الذين يشبعون الجيش الحر قصفاً في الغوطة والإيرانيين الذين يقتحمون مناطقه، وكأنّ أحدهم يقول لك: قاتل معي هنا من لا مصلحة لك في قتالهم وأنا سأصافح قاتليك هناك، ولا تناقش ولا تسأل لماذا ولو سألك أحدهم اتهمه بخيانة الثوابت الثورية وتخلص منه، وهنا يسأل السائلون حين نسمي هذه الفصائل العشوائيّة التي لا مرجعيّة لها جيشاً حرّاً، أين وجه الحريّة عندها؟

هل لديها الحرية في اتخاذ قرارها؟
هل تدعو للحريّة والعدالة أم المزيد من تقييد الحريّات؟
هل لديها تمويل ذاتي؟
هل هي قادرة على فرض مشروعها؟
هل لديها مشروع واحد؟

دعونا نتنازل أكثر؟ هل لديها داعم واحد نفهم وجهة نظره لنفهم وجهة نظر تحركاتها أم أنّها ببساطة مليشيات من هنا و هناك تسعى خلف داعمين من هنا و هنا و هناك، والسؤال الذي يراود أيّ سوري أنّ أي فصيل من هذه الفصائل حين يتولّى قيادته رجل غير سوري (بغض النظر عن الداعمين) هل يبقى فصيلاً سوريّاً أم أنّه يتحول لما هو غير ذلك؟

وحين تقوم هذه الفصائل باستهداف المدنيين في المناطق التي لا تسيطر عليها كاستهداف دمشق بالصواريخ والقذائف فهل يبقى على سكان دمشق حجة لو صبوا دعمهم لكلّ قوة تخلصهم من نار القذائف والموت المجّاني وحين يتم استهداف المناطق على اعتبارات طائفيّة ويكون مقاتلو هذه الفصائل من لون واحد هل يبقى على أبناء الطوائف الأخرى عتب فيما لو انفضّوا عن هذه التشكيلات ودعموا كل ما يمكن له إيقافها وإبعادها عنهم، وهنا أستطيع أن أقول إنّ الجيش الحر لم يخسر عسكريّا فقط حربه في سوريا، بل خسر أخلاقيّا مما أدّى لخوف الشعب السوري من إعادة إنتاج أي حراك قد يحسن حال البلاد خوفاً من إنتاج هذا الحراك لمكونات غير حرّة (كالجيش الحر) مثلاً.

الجيش السوري الحر لم يكن موجوداً أبداً

الجيش السوري الحر لم يكن موجوداً أبداً

بالمعنى التقني للعبارة، لم يكن “الجيش السوري الحر” موجوداً يوماً، أي منذ التفكير بتجميع الضباط والعسكريين المنشقين عن “الجيش العربي السوري” التابع للنظام السوري الحاكم في دمشق بداية من صيف 2011.

وبالمعنى السياسي للعبارة، الجيوش تتبع عادة لقيادة عسكرية مرهوبة، وتنفذ هذه القيادة أهدافاً محددة تصدر عن مستوى سياسي، وإلا كانت مجرد ميليشيا، أو ميليشيات. وبهذا المعنى، أيضاً، لا وجود لـ”الجيش السوري الحر”.

والحال أن الفصائل المحسوبة على “الجيش السوري الحر” تأتمر بأوامر الممولين الإقليميين والدوليين، ابتداء من اختيار أسماء هذه الميليشيات من أسماء السلف الصالح، أو الخلف الطالح، أو باتخاذ شعارات إسلامية لكل كتيبة، أو لواء، أو فرقة، وحتى فيلق، أو جيش، وصولاً إلى تنفيذ أجندات دول إقليمية، ومخابرات دول، لا علاقة لها بالسوريين، أو بالثورة التي فجرها جزء كبير من السوريين وصلت تقديرات نسبتهم عام 2011 حتى 21 في المئة. وهؤلاء هم من شاركوا على الأرض فعلياً في إطلاق صيحة “الشعب يريد إسقاط النظام”، في مقابل نسب متفاوتة ومكملة أيدت استقرار الاستبداد، أو فئة صمتت وقتها، أو لا تزال صامتة.

وتفسير موقف هذه التشكيلات العسكرية غير الفاعلة في تحقيق هدف الثورة لا يأتي من التشكيك في نوايا قادة هذه التشكيلات العسكرية، أو عناصرها، في محاولة لنفي فكرة “الارتزاق” المطلق، بل في البحث عن التفسير في إحدى النقاط التالية، أو فيها جميعاً:

أولاً، كانت فكرة تجميع هؤلاء المنشقين، وتوحيدهم، ودعمهم، وتسليحهم، مرفوضة من أقرب الدول جغرافياً إلى سوريا، أي تركيا والأردن. وبالتالي كانت هذه الكتائب، بقادتها وعناصرها، مضطرة للعمل فرادى، وفي ظنها أن ذلك سيمكنها من إسقاط النظام.

ثانياً، وبناء على ما سبق، لا أحد يستطيع التأكيد على وجود قيادة لهذا الجيش، أو هيئة أركان بالمعنى الدقيق للكلمة، حتى لو كانت موجودة شكلياً في أكثر من محطة خلال السنوات الماضية، خاصة بعد شهور من بروز المقدم حسين هرموش، الذي شكل بشخصيته، وريادته لموجة الانشقاق عن الجيش النظامي، ظاهرة جاذبة بالنسبة لعموم السوريين، دون أن يكون كذلك بالنسبة لزملائه العسكريين، خاصة الأعلى رتبة. لاحقاً، استطاعت مخابرات النظام السوري خطف المقدم هرموش، وفي غالب الظن أن النظام أعدمه بعد فترة قصيرة من اعتقاله.

ثالثاً، أفراد هذا “الجيش” من عناصر وضباط كانوا من المهمشين في قيادات “الجيش العربي السوري”، ومن المبالغة القول إنهم كانوا يمتلكون خبرات قتالية حقيقية، كون ذلك الجيش لم يخض معركة منذ أربعين سنة، والمناورات والتدريبات التي يجريها هذا الجيش كانت من الفقر والتخلف بحيث يذكرها ربما كل من أدى الخدمة الإلزامية في سوريا.

والنقطة الأهم من بين الثلاث هي الأولى، أي رفض قيام جيش معارض موحد باسم “الجيش السوري الحر”، من الضباط والعسكريين الذين رفضوا قتل المتظاهرين، وانحازوا إلى الثورة. بالطبع، وبعد كل تلك السنوات، اتضح أن هذا الرفض مدروس، خاصة لأن الأموال تدفقت على كتائب ذات منهج إسلاموي، وسلفي تحديداً، بما في ذلك “الدولة الإسلامية، داعش”، و”جبهة النصرة لأهل الشام” بأسمائها المختلفة، إضافة إلى “جيش الإسلام”، و”حركة أحرار الشام”، و”فيلق الرحمن”، وغيرها من الكتائب التي وصل عددها في عام 2014 إلى أكثر من ألف تشكيل عسكري تم تمويلها من دول كبرى، ودول الإقليم العربية. وحتى بعد أن انخفض هذا العدد إلى أكثر من مئة تشكيل بقليل، بالاندماج مع كتائب أخرى، أو حل تشكيلات أخرى نتيجة انقطاع التمويل، لا يزال عدد هذه الميليشيات ضخماً، ومنها من كان يدخل تحت اسم “الجيش السوري الحر” لفترة، ثم يخرج بإعلان براءته من هذا الجيش عندما يجد تمويلاً مستقلاً، ومنها من عاد بعض عناصره إلى “الجيش العربي السوري” للقتال معه مرة أخرى بعد العفو عنهم ومنحهم “رخصة” للارتزاق والتشبيح والتعفيش. وهنالك عناصر من داعش نفسه عادوا إلى صفوف جيش النظام بعد صفقة عرسال بين داعش و”حزب الله”.

استدراكاً، في نهايات 2011، وضعت تركيا الضباط والعسكريين المنشقين في مخيمات جنوب تركيا، فارضة عليهم إقامة شبه جبرية، ومن أحد تلك المخيمات تم اختطاف الهرموش ووضعه في السجن، ومن ثم قتله (بعد سنوات من اعتقاله تم تسريب صور لجثة تشبه المقدم حسين هرموش وعليها آثار تعذيب).

معنى ذلك كله، أن فكرة وجود “الجيش السوري الحر” كانت رغبة فقط لدى جمهور المعارضة، لكنها لم تتحول إلى حقيقة، مثلما كانت رغبة هذا الجمهور وجود معارضة مسلحة متفوقة أخلاقياً بالمطلق على ممارسات النظام. صحيح أن المعارضة متفوقة نسبياً في هذا الجانب على النظام الذي مثل في كل مراحل حكمه منذ 1970 معادلاً للشر المطلق في حكمه السياسي، وممارساته المخابراتية، لكن بعض الممارسات “الفردية” لطخت صفحة “الجيش الحر”، أو صفحة فصائل محسوبة عليه، بطريقة تدعم فكرة أن هذا الجيش لم يكن يوماً مؤسسة تكافئ وتحاسب وتقاضي المخالف، وإلا ما معنى تصرف “أبو صقار”، وما معنى تحطيم تمثال “أبو العلاء المعري”، ثم تحطيم تمثال “كاوا الحداد” قبل أيام في عفرين، ولماذا لم يُحاسب أي من هؤلاء؟

بالعودة إلى سؤال “صالون سوريا” عن مشاركة فصائل من “الجيش الوطني السوري الحر” في عملية “غصن الزيتون” التركية على عفرين، نجد أولاً تسمية جديدة أضافت وصف “الوطني” على هذه الفصائل، ربما لمحو آثار الممارسات السابقة لفصائل من “الجيش السوري الحر”، من انتهاكات في حق المدنيين، واقتتال فصائل منه في ما بينها، أو لتمييز التشكيل الجديد عن ذلك “الجيش”، لكن الأرجح أن هذه التسمية جاءت من داخل تركيا. وهذا الجيش تم دعوة فصائل محددة لتشكيله من قبل رئاسة الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة. والفصائل المدعوة هي (الجبهة الشامية – حركة أحرار الشام – فيلق المجد – لواء أنصار السنة – فيلق الشام – كتلة النصر التابعة للجيش الحر (؟) – حركة نور الدين الزنكي – الفرقة الوسطى – لواء شهداء الإسلام – جيش أسود الشرقية – قوات الشهيد أحمد العبدو – لواء السلطان مراد – جيش إدلب الحر – لواء المعتصم). لكن الفصائل التي لبت الدعوة، أو شاركت الجيش التركي في عملية “غصن الزيتون”، حتى لو لم تكن مدعوة للاندماج في هذا الجيش، هي (لواء السلطان مراد – فرقة الحمزة – فيلق الشام – حركة نورالدين الزنكي – حركة أحرار الشام – لواء صقور الجبل – الجبهة الشامية – جيش النصر). ومشاركة هذه الفصائل في العملية ظلت باسم كل فصيل، وإن كانت كل الفصائل تنفذ التكتيك الذي وضعه لها الأتراك بالمشاركة مع الجيش التركي.

إذاً، لا وجود عملياً لشيء موحد اسمه “الجيش السوري الحر”، أو “الجيش الوطني السوري الحر”، فالفصائل المذكورة شاركت في “غصن الزيتون” باسمها الحركي، وليس تحت لواء سوري موحد، بل تحت قيادة غرفة عمليات تركية.

وحتى لا ننجر إلى تسمية هذه الفصائل بـ”المرتزقة”، حسب الوصف الذي استعمله أكراد سوريون على مواقع التواصل الاجتماعي، نُذكِّر أن أمريكا قطعت كل أشكال الدعم عن الفصائل المحسوبة على “الجيش الحر” منذ نهاية العام الماضي، وبالتالي أصبح مصدر دعم هذه الفصائل تركياً فقط، وربما تركياً قطرياً. أما المرجعية الفكرية لمعظم عناصر هذه الكتائب فهي إسلامية، أو إسلاموية، في محاولة لتمييزها عن السلفية التي ينتمي إليها تنظيما داعش والنصرة.

ويمكن أن نعيد سبب انضمام هذه الفصائل إلى الجيش التركي في عملية “غصن الزيتون” إلى فكرة الانتقام بدلاً من فكرة الارتزاق، كون هذه الفصائل سبق وهزمت على يد “وحدات حماية الشعب” الكردية التابعة لـ”حزب الاتحاد الديموقراطي” الكردي، أو “حزب العمال الكردستاني”، وعلى يد جيش النظام ، وأمام “جبهة النصرة”، وأمام “داعش”، فوجدت في الدعم التركي فرصة متأخرة لإعادة الهيبة لوجودها، دون أدنى محاكمة لفكرة أنها ستقاتل تحت الراية التركية في أرض سورية.

من الجانب الآخر، ظهر تجييش كردي لمشاعر عنصرية تجاه العرب من خلال الانتقاد لهذا “الجيش الحر”، ليس له أي مبرر منطقي سوى في فكرة التضامن مع المدنيين، وهذا واجب إنساني يشاركهم فيه كثير من السوريين، مع التذكير بفقدان ما يماثل هذا الإجماع الكردي في حالات كانت تتعرض فيها مدن عربية لهجمات الأكراد الذين قاتلوا عملياً تحت الراية الأمريكية، وفي مناطق ليس لأي كردي ادعاءات “قومية” فيها، مثل الرقة التي تم تدمير الجزء الأعظم منها بالطائرات الأمريكية التي كانت تتزود بالإحداثيات من خلال عناصر ميليشيا “قوات سوريا الديموقراطية”، وقادتها الأكراد.

صحيح أن المدنيين في عفرين، من كرد وعرب، تضرروا كثيراً، لكن عدد المدنيين في الرقة الذين قتلتهم مخلفات داعش من الألغام يفوق عدد المدنيين الذين قتلوا في معارك منطقة عفرين كلها. وهذا الموت المجاني سببه إهمال القوات الكردية المختبئة تحت عباءة “قوات سوريا الديموقراطية” لملف الألغام، بل تواطؤ “قسد” ضد المدنيين، وارتزاق عناصرها بتفكيك الألغام لمن يطلب، وبثمن لا يقل عن مئة دولار (حوالي 50 ألف ليرة سورية). ثم إن هنالك إشاعة (؟) تتحدث عن ألغام لا علاقة لداعش بها، في تلميح إلى تحالف لصوص مع عناصر فاسدة من قوة الأمر الواقع وضعت الألغام كفزاعات كي تبعد المدنيين، أو لتؤخر عودتهم إلى بيوتهم حتى تمتلك الوقت الكافي لتعفيش ممتلكاتهم.

وهنا لا ننسى التذكير بصفقة “قسد” لإخراج أكثر من أربعة آلاف داعشي من الرقة آمنين بعد تدمير المدينة، مع ما تثيره هذه الواقعة من تساؤلات خطيرة عن التحالف الأمريكي مع الأكراد. وهذه يمكن ربطها بفكرة الانتقام المحركة لمشاعر المهزومين من الفصائل المشاركة في السيطرة على عفرين.

وفي عفرين، نسجل نقطة إيجابية في حق ميليشيا “وحدات حماية الشعب”، وإن أتت متأخرة قليلاً، بخروجها المبكر من مدينة عفرين، وعدم خوض حرب خاسرة كانت ستدمر المدينة لو خاضتها، كون تركيا كانت عازمة على تحقيق هدف إخراج آخر عنصر من تلك الوحدات بعد اتفاقها مع روسيا، وتفهم أمريكا لذلك، ورضوخ النظام الأسدي للأمر الواقع مكتفياً ببيانات إعلامية.

والواقع يقول أن لا فرق جوهرياً بين الفصائل المعارضة التي شاركت تركيا في عملية “غصن الزيتون”، وبين الوحدات الكردية التي حاربت تحت الراية الأمريكية، حتى من حيث ارتكاب الطرفين انتهاكات في حق المدنيين، ومن بينهم الأكراد أنفسهم على يد “وحدات حماية الشعب”. ففي جولات سابقة، تبادلت الفصائل المعارضة و”الوحدات” لعب دور الجلاد للمدنيين، بالقتل، والإهانات، والسرقة، والتهجير، والتمييز العنصري، في رأس العين، وفي تل أبيض، وفي منبج، وتل رفعت، والرقة. وكلما دانت السيطرة لطرف مارس النزعة الانتقامية ضد الآخر. وبالأمس، دانت السيطرة على عفرين لما يسمى “الجيش الوطني السوري الحر” فمارس بعض عناصره انتهاكات في حق كرامات المدنيين وحياتهم وأموالهم، انتقاماً لجولات سابقة مارس فيها أكراد انتهاكات مشابهة.

أما عن السؤال: إلى أي درجة ترى أن “الجيش الحر” لا يعكس مركّباً وطنياً؟ فالإجابة عليه تفترض أن تعبير “مركباً وطنياً” ذو مضمون إيجابي. والواقع يقول، أو دعنا نقل من واقع خبرتي بالتعامل مع شرائح من السوريين في تركيا ولبنان والسعودية في السنوات السبع الماضية، لا دليل على أننا في سوريا كنا نشكل مجتمعاً واحداً، أو حتى مجتمعات، وبالتالي لا مضمون لتعبير “وطني” بالمعنى العميق للكلمة. فجيش النظام نفسه، وهو المفترض أنه يمثل “الجيش الوطني” بادر إلى قتل المتظاهرين المدنيين مع أول صرخة مطلبية لم تصل في منتصف آذار 2011 إلى درجة “الشعب يريد إسقاط النظام”.

ووصف “وطني” فضفاض أيضاً حتى في ما يتعلق بنا كأفراد سوريين، إلا إذا اقتصر المعنى على حبنا لبلادنا. ففي النتيجة، نحن السوريين أفراد فقط، بفعل غياب القانون، وابتلاع الحزب الحاكم لفكرة الدستور، ولهيبة القانون، وبفعل استقرار الفساد كممارسة منهجية عممها حكم الأسدين الأب والابن على المجتمعات السورية والأفراد السوريين.

وإذا كان هذا حال “الجيش العقائدي والوطني”، فحال “الجيش الحر” من ذاك. فلا جيش النظام مثَّل حالة وطنية، ولا “الجيش الحر”، في حال وجوده، كان في إمكانه تمثيل حالة وطنية.

وهذه الحالة كانت منظورة مبكراً في عامي 2012 و2013، حين سيطرت الفصائل المسلحة المعارضة على أكثر من 70 في المئة من مساحة سوريا، ونشأ سجال وقتها بين فصائل معارضة كبيرة وبين أعضاء في الائتلاف، حين كان الائتلاف يمتلك نوعاً من الإجماع على أنه يمثل الثورة السورية. دار السجال وقتها حول مسألة الديمقراطية في حكم “سوريا الجديدة”. ويذكر بعضنا “السفاهة” التي تكلم بها بعض قادة هذه الفصائل من مثل “ديموقراطيتكم تحت قدمي”، أو بما معناه “الديمقراطية شرك”،… إلخ. وكانت حال هؤلاء تقول “نحن من قاتل، ومن استُشهد، ونريد حكماً على نهج النبوة.”

“الجيش الحر” و “غصن الزيتون”

“الجيش الحر” و “غصن الزيتون”

طاولة مستديرة من إعداد هيئة التحرير في صالون سوريا

شكّل الهجوم التركي على عفرين ومشاركة بعض الفصائل الإسلامية والجيش الحربعملية غصن الزيتونثم قرار المشاركة المفاجئة في مؤتمر سوتشي، صدمةً جديدة لسوريين ومعارضين عقدوا أملاً في مرحلة من المراحل على الجيش الحروعلى إمكانية استقلاليته.

برأيك/ي:

هل حدثت خلافات أو مناقشات داخل الجيش الحروالفصائل المعنية، لتحديد مدى الاستقلالية عن المصالح التركية؟ وهل سُجلت أي معارضة لتنفيذ الأوامر التركية؟

هل توجد مسافة على الصعيد الإيديولوجي بين الجيش الحروالفصائل الإسلامية؟

برأيك/ي خلال السنوات الست الماضية متى كان الجيش الحر” “جيشاًأو حراً؟  بمعنىً آخر هل يشكل الجيش الحرمعارضة تمتلك خطاباً واضحاً واستقلالية معينة؟ وهل كان ممثلاً للسوريين أم أنه محكوم بقرار داعميه؟ وهل يمتلك رؤية سياسية لبناء دولة مدنية ديمقراطية؟

في ضوء هذا الحدث ذي الدلالة المهمة، في أي سياق يمكن وضع الجيش الحر؟ وهل هو  مخلص لتسميته؟  وإلى أي درجة ترى أن الجيش الحرلا يعكس مركّباً وطنياً؟

يدعو صالون سوريا الكتاب والمثقفين والمعنيين بالشأن السوري إلى مناقشة هذا الموضوع من منظور محايد ومستقل، قائم على تحليل نقدي وقراءة للواقع.

الجيش السوري الحر لم يكن موجوداً أبداً
علي العائد

-هل أصبحت فصائل “الحر” مرتزقة بيد تركيا؟
فريد حسن ياغي

عسكرة الثورة السورية والأخطاء القاتلة
أنور بدر

“الجيش الحر” من المظلة الجامعة إلى الفصائلية المائعة
طارق عزيزة

-من قال إن هذه الجيوش حرّة؟
عمر الشيخ شاعر

الأحلام لا تصنع جيشاً حراً
عمّار ديّوب

الجيش الحر والتبعية الإقليمية والدولية
بسام عيسى