من يسيطر على حدود سوريا وبواباتها؟

من يسيطر على حدود سوريا وبواباتها؟

مع تقلب السيطرة في سوريا وعلى حدودها خلال العقد الأخير، لا تسيطر الحكومة المقيمة في ثلثي البلاد ومعظم مدنها الكبرى سوى على 15 في المائة من الحدود مع الدول المجاورة ونصف معابرها الـ19 (يقع معظمها مع لبنان).

وللمرة الأولى منذ 2011، استقرت في السنة الأخيرة خطوط التماس بين ثلاث «مناطق نفوذ»، ولم يطرأ عليها تغير جوهري، حيث تسيطر الحكومة بدعم روسي إيراني على نحو 65 في المائة من البلاد (المساحة الإجمالية 185 ألف كلم مربع)، وست مدن رئيسية: دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس، ودرعا ودير الزور، تضم 12 مليون شخص. في المقابل، تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية، بدعم من التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة أميركا، على نحو 25 في المائة من الأراضي، تضم نحو 3 ملايين شخص، ومعظم ثروات النفط والغاز والمياه والزراعة، ومدينتي الحسكة والرقة. كما تقع محافظة إدلب ومدن جرابلس وعفرين وتل أبيض ورأس العين التي تضم أكثر من 3 ملايين، معظمهم من النازحين، تحت سيطرة فصائل تدعمها تركيا، ما يشكل نحو 10 في المائة من سوريا، وضعفي مساحة لبنان.

– سيطرة وهمية

وجاء في دراسة نشرها الباحث الفرنسي فابريس بالانش في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، أول من أمس، أن «الحدود رمز السيادة بلا منازع، ولا يزال سجل أداء النظام خالياً تقريباً على هذا الصعيد. ويسيطر الجيش السوري على 15 في المائة فقط من الحدود البرية الدولية للبلاد، في حين تتقاسم جهات فاعلة أجنبية الحدود المتبقية».

وفي جنوب البلاد وغربها، تسيطر الحكومة السورية وتنظيمات مدعومة من إيران و«حزب الله» على 20 في المائة من حدود البلاد. يقول بالانش: «على الرغم من أن سلطات الجمارك السورية هي المسؤولة رسمياً عن إدارة المعابر مع العراق (البوكمال) والأردن (نصيب) ولبنان (العريضة وجديدة يابوس وجوسية والدبوسية)، فإن السيطرة الحقيقية تكمن في الواقع في أماكن أخرى، إذ يحتل (حزب الله) الحدود اللبنانية، وقد أقام قواعده على الجانب السوري (الزبداني والقصير) التي يسيطر منها على منطقة القلمون الجبلية. وبالمثل، تدير ميليشيات عراقية كلا جانبي الحدود من البوكمال إلى التنف. وتمتد قبضة القوات الموالية لإيران أيضاً إلى كثير من المطارات العسكرية السورية التي غالباً ما تكون بمثابة وسيلة لنقل الأسلحة الإيرانية الموجهة إلى (حزب الله) وخط المواجهة مع إسرائيل في مرتفعات الجولان. ويكشف هذا الوضع عن اندماج سوريا الكامل في المحور الإيراني».

وكانت قوات الحكومة قد سيطرت على معبر نصيب مع الأردن في منتصف 2018، بموجب اتفاق روسي – أميركي – أردني قضى بتخلي واشنطن عن معارضين، مقابل عودة قوات الحكومة وإبعاد إيران. لكن فصائل تدعمها قاعدة حميميم الروسية تسيطر على مساحات واسعة من الحدود الأردنية. وأفاد التقرير بأنه رغم السيطرة على نصيب، فإن «حركة المرور لا تزال محدودة جداً حالياً، ووجود الجيش في محافظة درعا سطحي. ولإخماد المقاومة المتنامية في المنطقة بسرعة، اضطر النظام إلى توقيع اتفاقيات مصالحة، بوساطة روسية، تاركاً الفصائل المتمردة المحلية تتمتع باستقلالية مؤقتة وحق الاحتفاظ بأسلحة خفيفة. وحافظ المتمردون السابقون أيضاً على روابط قوية عبر الحدود عن طريق الحدود الأردنية، مما يمنحهم مصدراً محتملاً للدعم اللوجيستي في حالة نشوب صراع جديد». ورعت «حميميم» قبل أيام اتفاق تسوية جديداً قضى بدخول الجيش السوري إلى طفس (غرب درعا).

وتسيطر الحكومة على المعابر غير الشرعية مع لبنان، وتلك الخمسة الرسمية، وهي: جديدة يابوس – المصنع، والدبوسية – العبودية، وجوسية – القاع، وتلكلخ – البقيعة، وطرطوس – العريضة. وتوجد على طول الحدود معابر كثيرة غير شرعية، معظمها في مناطق جبلية وعرة، بحسب تقرير سابق لوكالة الصحافة الفرنسية.

وليست هناك معابر رسمية بين البلدين، لكن «خط فك الاشتباك» بين سوريا والجولان المحتل. وبعد 2011، كانت تسيطر فصائل على المنطقة، غير أن قوات الحكومة عادت إليها بدعم روسي في بداية 2018. كما أعيد في يوليو (تموز) فتح معبر نصيب – جابر مع الأردن الذي كانت قد سيطرت عليه فصائل معارضة في أبريل (نيسان) 2015. أما معبر الرمثا – درعا، فاستعادته دمشق بعدما فقدت السيطرة عليه منذ عام 2013.

– وكلاء وحدود

في عام 2013، بدأت تركيا في بناء جدار حدودي في القامشلي، معقل الأكراد شرق الفرات. ومنذ ذلك الحين، وسعت هذا الحاجز على طول الحدود الشمالية بأكملها. وكان أحد الأهداف منع التسلل من «حزب العمال الكردستاني» و«داعش»، ومنع تدفق مزيد من اللاجئين السوريين إلى تركيا التي تستضيف بالفعل 3.6 مليون لاجئ. وقال التقرير: «لا يزال العبور الفردي ممكناً عبر السلالم والأنفاق، لكن الشرطة التركية توقف معظم هؤلاء المهاجرين وتعيدهم بعنف إلى سوريا».

وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2019، شنت تركيا عملية عسكرية، بالتعاون مع فصائل موالية، وسيطرت على شريط بين تل أبيض ورأس العين في شرق الفرات الذي يخضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية». ودفع هذا الأخيرة لعقد تفاهم مع دمشق سمح بدخول الجيش الروسي والسوري إلى شرق الفرات، وتقليص مناطق سيطرة حلفاء أميركا وتركيزهم على القسم الشرقي من شرق الفرات على حدود العراق. وحلت الدوريات الروسية – التركية محل الدوريات الأميركية – التركية على خطوط التماس هذه لضمان انسحاب «قوات سوريا الديمقراطية» من منطقة الحدود التركية.

عليه، فإن الجزء الوحيد من الحدود الشمالية مع تركيا الخاضع لسيطرة دمشق هو معبر كسب (شمال اللاذقية)، وحتى هذا المعبر تم إغلاقه من الجانب التركي منذ عام 2012. وباتت السيطرة على الجانب السوري من الحدود تباعاً على النحو التالي: أولاً المناطق حتى خربة الجوز من قبل التركمان الموالين لتركيا؛ ثانياً المناطق بين جسر الشغور وباب الهوى من «هيئة تحرير الشام»؛ ثالثاً حتى نهر الفرات من قبل الموالين لتركيا المعروفين بـ«الجيش الوطني السوري»؛ رابعاً حول عين العرب من قبل الجيش الروسي و«قوات سوريا الديمقراطية»؛ خامساً المناطق بين تل أبيض ورأس العين من قبل «الجيش الوطني السوري» المدعوم من أنقرة؛ سادساً من رأس العين حتى نهر دجلة من قبل الجيش الروسي و«قوات سوريا الديمقراطية».

ماذا عن المعابر؟ تتقاسم جهات عدة، وبدرجات مختلفة، السيطرة على الحدود مع تركيا، إذ إن معبر كسب تحت سيطرة دمشق من طرف اللاذقية، لكنه مقفل من الجانب التركي. ويخضع «باب الهوى» لسيطرة إدارة مدنية تابعة لـ«هيئة تحرير الشام» التي تسيطر على معظم إدلب، في حين يتبع «باب السلامة» لمنطقة أعزاز في محافظة حلب، ويقع تحت سيطرة فصائل «درع الفرات» التي تدعمها أنقرة، كما هو الحال مع معبر «جرابلس».

وكانت تل أبيض تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي طردت «داعش» في 2015. وفي أكتوبر 2019، أصبح تحت سيطرة فصائل سورية مدعومة من الجيش التركي، كما هو الحال مع مدينة رأس العين.

وعين العرب (كوباني) التي تقع شمال حلب كانت تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، ولكن دخلته في نهاية 2019 قوات الحكومة رمزياً، وانتشرت دوريات روسية قرب المدينة، وهو مغلق رسمياً. أما القامشلي – نصيبين، فهو مقفل، ولا يزال رمزياً تحت سيطرة قوات الحكومة التي تملك «مربعاً أمنياً» ومطاراً في المدينة.

– من طهران إلى دمشق

تضمن اتفاق «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) ودمشق نشر بضع مئات من الجنود السوريين على طول تلك الحدود، لكن «وجود هذه القوات كان رمزياً فقط. ومنذ ذلك الحين، انطلقت الدوريات الروسية باتجاه الشرق، في محاولة لإقامة موقع في مدينة المالكية (ديريك)، والسيطرة على المعبر مع العراق في سيمالكا – فيشخابور، وهو طريق الإمداد البري الوحيد المتاح للقوات الأميركية في شمال شرقي سوريا». كما هددت ميليشيات عراقية مراراً وتكراراً بالاستيلاء على فيشخابور.

ولا تزال المعابر الشمالية إلى تركيا كافة مغلقة، كما يمنع الجدار الحدودي أنشطة التهريب، ما جعل معبر سيمالكا – فيشخابور النافذة الدولية الوحيدة أمام «الإدارة الذاتية». وعلى الجانب العراقي من الحدود الشرقية لسوريا، كانت ميليشيات عراقية مسؤولة عن معظم المناطق منذ خريف 2017، عندما فقدت «حكومة إقليم كردستان» سيطرتها على الأراضي المتنازع عليها بين كركوك وسنجار، لكن لم تشمل هذه الأراضي المفقودة فيشخابور. وتسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» على الجانب السوري من الحدود، بدعم من القوات الأميركية. وأفاد التقرير: «لكن الوكلاء الإيرانيين منعوها، ومنعوا غيرها من الجهات الفاعلة، من استخدام أي معابر أخرى، وذلك جزئياً بمساعدة التعاون الدبلوماسي الروسي، إذ تم إغلاق معبر اليعربية الحدودي الرسمي أمام المساعدات الإنسانية للأمم المتحدة منذ أن استخدمت روسيا حق النقض ضد تجديدها في مجلس الأمن الدولي في ديسمبر (كانون الأول) 2019. ومن بين التداعيات الأخرى لهذا القرار أنه يجب أولاً إرسال جميع مساعدات الأمم المتحدة إلى (الإدارة الذاتية) بالكامل إلى دمشق، قبل أن يتم نقلها إلى الشمال الشرقي من البلاد».

وعليه، فإن الباحث الفرنسي يرى أن معبر سيمالكا – فيشخابور «يعد أمراً حيوياً للبقاء السياسي والاقتصادي للمنطقة التي تتمتع بالحكم الذاتي، حيث يمثل نقطة الدخول الوحيدة للمنظمات غير الحكومية الكثيرة التي تعمل فيها وتوفر دعماً أساسياً للسكان المحليين». ومع ذلك، لا تزال الحكومة السورية تعد الدخول عبر هذا المعبر جريمة يُعاقب عليها بالسجن لفترة تصل إلى 5 سنوات، و«من المحتمل أن يكون تعنت النظام بشأن القضايا الإنسانية هو طريقته لمحاولة إعادة تأكيد سيطرته على جانب واحد على الأقل من السيادة الحدودية».

ويقع عين ديوار تحت سيطرة «قسد»، ومعبر زاخو يستعمل للعبور إلى كردستان العراق، فيما يخضع اليعربية – الربيعة لـ«قسد»، في وقت يقع فيه معبر البوكمال – القائم تحت سيطرة قوات الحكومة وميليشيات إيرانية، وقد جرى تدشينه بعمل بين سوريا والعراق في خريف 2019. وتسيطر قوات التحالف الدولي بقيادة أميركا على معبر التنف – الوليد منذ طرد تنظيم داعش. ويقول دبلوماسيون غربيون إن أميركا سيطرت على التنف لقطع طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت، وإن إيران ردت على ذلك بفتح طريق مواز عبر البوكمال.

– أجواء مفتوحة

وفي مقابل محدودية السيطرة على الحدود ومعابرها، فإن الحكومة تملك النفوذ على الموانئ البحرية والمطارات، بما فيها مطار القامشلي في مناطق الأكراد شرق نهر الفرات، علماً بأن التحالف الدولي أقام شرق الفرات عدداً من القواعد العسكرية التي تسمح له باستخدامها لهبوط وإقلاع وإقامة طائرات مروحية وشاحنة شرق نهر الفرات. كما حولت روسيا مطار القامشلي إلى قاعدة عسكرية لها.

ورغم وجود منظومات صواريخ «إس-300» و«إس-300 متطور» و«إس-400» تابعة للجيش الروسي الذي يملك قاعدتين في طرطوس واللاذقية، لا تزال الأجواء السورية «مفتوحة» أمام التحالف الدولي والطائرات الإسرائيلية التي شنت مئات الغارات على «مواقع إيرانية» في سوريا.

وإذ يعلن مسؤولون سوريون، واللاعبون الدوليون والإقليميون، بشكل دائم «التمسك بالسيادة» ووحدة البلاد، وأن مناطق النفوذ «مؤقتة، وليست دائمة»، فإن «التوازنات» بين خمسة جيوش، روسيا وأميركا وتركيا وإيران وإسرائيل، والتفاهمات بين أميركا وروسيا شرق الفرات، وبين روسيا وإيران وتركيا في «صيغة آستانة» في شمالها، تجعل الرغبات الرسمية السورية خاضعة للعبة دولية – إقليمية تحد -إلى الآن- من تحقيق «السيادة الكاملة»، وترجمة التصريحات إلى واقع ملموس.

  • نقلا عن “الشرق الأوسط”
لوحات دمشقية: تنافر العيش في وفرة العتمة

لوحات دمشقية: تنافر العيش في وفرة العتمة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

تنهار بنية الحكاية، لم تعد دمشق مروية قابلة للسرد، فقدت المدينة روحها ومعالمها، خمد تدفق تفاصيل العيش، تحولت للوحات معتمة في معرض يعتمد على غياب الضوء، معرض للندوب، للجروح، للكلام الفاقد للغة وللمعنى، أوسع من العبث وأعقد من أن تفسره كلمات أو تتفهمه القلوب.

لوحة 1

في دمشق، أكياس خبز السندويش متروكة بدعة وأمان على عتبات المحال المغلقة. منذ الصباح الباكر تمر سيارات توزيع الخبز السياحي والصمون تضع حمولتها حسب طلب أصحاب المحال وتمضي، أزمة الرغيف باتت معضلة حقيقية، لكن لا أحد يفكر بأن يأخذ ربطة خبز أو حتى سندويشة صمون واحدة، رغم غياب الرقيب، في دمشق ينام الخبز على الحجر في أمان ووفرة، وأمعاء السوريين تترجى زيارته لها.

يكتسب الخبز قداسة كبيرة في وجدان السوريين، يطلبونه علناً ولكن لا يسرقونه، تشتكي سيدة من أن عدد أرغفة الخبز ناقصة في الربطة، يصرخ الجميع: كل شيء إلا الخبز! مع أن السوريين قد تخلوا عن طلب رغيف أو قطعة منه أو مجرد لقمة ممن عانى من ساعات الانتظار في الطوابير ليفوز بربطة أو أكثر، أو تمكن من شراء ربطة بسعر تجاوز الألف ليرة. تحول الخبز من لغة مشتركة إلى خط أحمر لا يمكن تجاوزه ولا النطق باسمه. بات مخجلاً ومربكاً جداً أن تطلب رغيفاً وتمضي. الرغيف يعني وجبة لشخص، زوادة لطالب أو لعامل، يعني وقتاً طويلاً ومهدوراً، يعني برداً وقهراً ووجع في الظهر وفي كامل الجسد، حتى رائحة الخبز المنعشة تحولت لانقباضات في المعدة ومثيرة لغصة في القلب.

لم تشهد أية مادة غذائية تبدلاً جذرياً ومأساوياً في آلية التعامل معها كما رغيف الخبز. كان خيطاً من التواصل المحبب والسخي والمألوف وانقطع بصورة دراماتيكية، جذرية وعنيفة غير قابلة حتى للاستفهام.

لوحة 2

تغرق دمشق في الظلام، وأنا أعبر الحارة الفرعية أحاول أن أهتدي بمصباح الهاتف النقال، ألمح ظل يد غريبة تحاول الوصول إلى هاتفي، يتضخم الرعب في داخلي، عتمة الطريق وعتمة الخوف، أصرخ وأقطع الطريق راكضة، يبتعد الشاب، يغرق في الظلام ويحتمي به. بات طبيعياً جداً أن ينتزع أحدهم جوالك من بين يديك، محفظتك، المبلغ المالي النقدي البسيط الذي بحوزتك، ما تبقى من نقود أعادها لك السائق أو بائع البسطة او البقال أو الفرّان؛ حتى مرتبك الشهري الهزيل قد يُسحب من يدك أو من جيبك وأنت واقف على آلة الصراف الآلي.

 أصل إلى الشارع العام المحروم من الإضاءة أيضاً، وحدها أضواء السيارات  العابرة تبدد قليلاً من وحشة العتمة، دراجات نارية بلا أضواء تعرفها من جعير أصواتها فتبتعد مذعوراً لتصطدم بأحدهم فيصرخ قائلاً بلهجة حانقة ومرتعشة: “كنت روحتني”. سيارات بلا مصابيح تحاذيك وتشاركك طريقك لدرجة التلامس المباشر بينكما، أبدل في وضعية الجوال، أقلبه ليسقط ضوء المصباح على الأرض، أعرف أن الحفر تلتهم الرصيف، وأن ما كان درجاً بين الرصيف العالي والمعبر المؤدي للجهة الأخرى قد تآكل وتحول إلى مجرد تلة صخرية منحدرة بشدة. عشرات الأشخاص يسيرون بغير هدى، أمهات يمسكن بأيدي أطفالهن، يتعثر طفل ويبكي آخر، يطلب طفل من أمه أن تحمله،هو مثقل بالنعاس وبالخوف، والأم تبدو وكأنها لا تسمعه؛ فجأة تصرخ حاثة أطفالها على الهرولة فقد توقفت إحدى الحافلات بالقرب منهم: “عجلوا، عجلوا)، وتركض قبلهم لتحجز مكاناً لها ولهم؛ وهم كالصيصان المذعورة يبكون ويركضون. تمتلئ الحافلة بالركاب وبعتب الأطفال على أمهم حيث ظنوا أنها حين سبقتهم لحجز المكان كانت ستتخلى عنهم وحيدين متسربلين بالخوف في وسط العتمة.

لوحة 3        

أربعة فتيان يحدقون في صورة شاب معلقة على الجدران، هي ليست صورة بالمعنى الحرفي، بل إعلان عن فقدان شاب ودعوة لمن يعرفه أو يعرف مكان تواجده للاتصال برقم هاتف موضوع في أسفل الإعلان، يتضمن الإعلان صورتين للشاب المفقود، أولهما وهو يفترش الرصيف بمنامة متسخة وحالة من الانكسار المهين، وثانيتهما صورة له بكامل يفاعته وجماله وأناقته وابتسامته العريضة والمشرقة. يقول أحد الفتية مشيراً إلى مكان محدد قائلاً: “كان ينام هنا”. أما أنا فأتساءل عن سر دمج الصورتين معاً في إعلان واحد رغم التناقض الحاد بين الحالتين، هل يقصدون استدرار تعاطفنا! أم إبراز الحاجة الملحة للتعاطف أو لفعل شيء ما وعلى وجه السرعة؛ بحيث نبدو وكأننا نقول: “يا حرام كيف كان وكيف صار”، ونردف بكل ما في قلوبنا من رجاء: “يا رب يلاقوه بسرعة”.

حين يعتاد البشر الفقد والتشرد والتهجير والشتات، لا تكفي صورة واحدة لدب الحمية في النفوس من أجل المساعدة، بات المطلوب إضافة عناصر تشويقية تصل حد الذروة، تخيلوا التشويق في حده الأقصى من أجل تلبية الرجاء بالمساعدة، وبماذا؟ البحث عن ابن أو أخ أو زوج أو أب، كيف كان في عز راحته وجماله وكيف صارت أحواله، مرمياً على قارعة الطريق، وحيداً وضعيفاً. باتت المبالغة بإثارة المشاعر حتى حدودها القصوى ضرورية لإضفاء تفضيل أكبر للحالة، تثقيل عاطفي وأخلاقي لطلب الدعم، لو وضعوا صورته وهو في عز انكساره لقلنا كلنا: “أكيد أنه قد مات من الجوع أو من البرد”، أما تلاصق الصورتين في إعلان واحد فهو حالة إعلان حرب عاطفية حاشدة في مواجهة سطوة التعود على التغييب والفقدان والشتات، أن نكسو الحب والواجب بالدراما التشويقية المبالغ بإظهارها لغوياً وعاطفياً وحتى بالصور، لعمري هو وجه آخر من وجوه الحرب.

لوحة 4

في دمشق القديمة، شاب ينقي الحمص، تبدو الصورة مشرقة جداً، الحصى والتراب في كيس منفصل، الحبات الخضراء الصغيرة وأنصاف الحبات في وعاء خاص، والحبات الصالحة للسلق تتربع لامعة وفخورة بنفسها في قدر منفرد، يقول الشاب: “نحن لا نغش زبائننا، ومن اعتاد على نكهة الحمص الحقيقية في وجباتنا لن يعود أبدا لعندنا إن تنازلنا عن عادات الجودة المتأصلة”. يسمح لي بالتصوير ويريني حبات الحمص الناضجة والشهية. على الرصيف الضيق المقابل فتاتان تقطعان الخبز الجاف لإعداد الفتة لزبائن المحل، حضور النساء وخاصة الفتيات جلي وواضح في سوق العمل حتى في مطاعم الفول والحمص والفطائر، يقول المعلّم للفتاة : “صغري شقف الخبز، هيك بيغص الزبون”. تلمع في عينها دمعة وتقول: “لم نأكل الفتة منذ وفاة والدي الذي كان يعدها لنا شخصياً، حتى أمي لا تعرف إعداد الفتة!”

تترك شابة طاولتها الثابتة على الرصيف بعد أن أنهت وجبتها من الفول، يتبعها طفلان صغيران، يطلبان بعض المال، يلح الأصغر مقترباً منها أكثر تقول لهما: “مصاري ما في، سأشتري لكما فطاير”. يرفضان بشدة ويطلب الأكبر منها سيجارة، تنذهل الشابة، أصرخ بهما: “سيجارة!” يؤكد الطفلان على طلب سيجارة ويصرّ الأصغر على الطلب بعبارة: “خرمانين ع سيكارة وما معنا مصاري”.

بعد أمتار قليلة ثلاثة من طلاب المدارس الهاربين يلاحقون شابتين، يقولون لهما بنبرة مائعة وبصوت واحد: “يا حلو يا حلو”، تغضب إحدى الشابتين وتضحك الأخرى. يصرخ بهم رجل عابر قائلاً: “هدول متل أخواتكن”. يصرخ الثلاثة في صوت واحد : “أخواتنا ممنوع يطلعوا من البيت!”

يسألهم الرجل عن اسم مدرستهم، ينكرون أنهم طلاب، يعترف أحدهم بأنهم هربوا من المدرسة وأودعوا حقائبهم المدرسية شبه الفارغة مع أحد أقرانهم الذي يعمل في جمع قمامة وتنظيف الأراجيل في مقهى شعبي قريب.

تتزاحم اللوحات على جدران آيلة للسقوط وفي ترتيب عجائبي ينتمي لسريالية مغرقة في العدم، تتناسخ الشخصيات المعلقة وكأنها مجرد مجسمات صممت لمعرض يزعمون أن شخوصه من لحم ودم ولهم رائحة بشر ناطقين بكافة اللغات.

تترصد دمشق شخوصها، تتنكر لهم، تتركهم معلقين ما بين الهاوية والسماء، تتسلل من بينهم لابسة طاقية الإخفاء، لم تعد قادرة على سماع أنينهم ولا رؤية جراحهم النازفة، من قال إن التجاهل العمدي ليس واحداً من أشكال الحب تحت ضغط الحزن وفقدان الحيلة!

من فرط التعب أسلمتكم للعبث، علّه يجعل الموت لعبة استغناء ساخرة، أو ربما يفيض العبث بجذوة للعيش تخرج من بطن العتمة وتصرخ: “لقد أكل الغول أولادي! فأعينوني على نفخ الروح فيهم”.

لمحة عن تعامل السوريين مع كورونا

لمحة عن تعامل السوريين مع كورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

لم يتمكن خالد من إحياء صلاة الجنازة على روح عمه في المصلى ولا من إقامة مجلس عزاء وتوديعه بشكل لائق لتقتصر التعزية  على غرفتين في المنزل وحضور بعض المقربين والمعارف على نحو ضيق، وذلك بسبب قرار إغلاق المساجد ضمن سلسلة إجراءات احترازية اتخذتها الحكومة السورية للحد من التجمعات والاختلاط للوقاية من فيروس كورونا المتفشي في العالم. يقول الشاب: “توفي عمي منذ يومين إلا أننا لم نتمكن من إحياء صلاة الجنازة في الجامع، كما أننا استعنا بالمنزل لإقامة مجلس عزاء كبديل للصالة بعد محاولات عديدة للحصول على موافقة من وزارة الأوقاف للحصول على إذن بفتحها، إلا أن جميع هذه المحاولات بائت بالرفض، فيما اقتصرت لائحة المعزين على الأهل والأقرباء فقط إذ أن جميع صالات العزاء في العاصمة  قد أقفلت في خطوة احترازية من انتشار فيروس كورونا.”يُعد قرار إغلاق المساجد خطوة استفزازية وساخطة بالنسبة لمتدين عاكف على صلاة الجمعة كخليل الذي يُعرب عن غضبه واستغرابه في آن معاً قائلاً:  “هذا الإجراء هو الأول من نوعه في سورية خلال عقد وأكثر، فلم يحدث قط أن أغلقت المساجد حتى في أتون سنوات الحرب التي عشناها وأمطرتنا بوابل من القذائف”.

ما إن عاد طاهر من إيران التي تُعد في مقدمة الدول التي انتشر فيها فيروس كورونا حتى تحول إلى شخص من أصحاب الشبهات وانهالت عليه نظرات الخوف والشك بإصابته بالفيروس لدرجة أن شقيقته رفضت الاقتراب منه خوفاً من أن يكون قد أصيب بالعدوى. وعن تجربته يقول: “البعض من أصدقائي بدأ يتحاشى لقائي وكانوا يشيرون بأصابعهم في مزاح لا يخلو من الجد أنني مصاب بفيروس كورونا، حتى أختي لم تسمح لي بمصافحتها  وتقبيلها ظناً منها أنني أصبت بالعدوى”. يتأكد عامر قبل أن يسلم رأسه للحلاق من تعقيم الكرسي وأدوات الحلاقة بالكحول جيداً خشية التقاطه للفيروس ويقول: “سألت الحلاق مراراً عن تعقيمه لآلة الحلاقة، كما أنني أخذت بنصيحته بجز شعري ولحيتي أكثر من المعتاد تحسباً لقرار الإغلاق الذي قد يمتد لأسبوعين وأكثر”.

وهناك من على يقين تام أن من نجا من الحرب بأعجوبة سوف ينجو حتماً من هذا الفيروس؛ فحاتم يساوره شعور داخلي خفي بعدم وصول كورونا إلى سورية معزياً السبب إلى اكتساب المواطن السوري لقب أكثر الشعوب العربية صبراً وتحملاً للشدائد بجدارة. هذا الرأي يؤيده مازن وبشدة نظراً للأهوال التي خاضها خلال سنوات الحرب قائلًا: “واجهنا الموت بأقسى أنواعه وأشكاله وكابدنا ظروفاً في غاية القسوة من تفجيرات وقذائف وخطف وحصار حتى بات فيروس كورونا معركة خاسرة وهشة أمام تلك المعارك التي خضناها”. بينما يُردد إياد عيسى وصفة سحرية  قديمة يتفرد بها المواطن السوري لرفع مناعته ومواجهته لأعتى أنواع الأمراض موضحاً بالقول: “نعيش منذ الأزل في بيئة ملوثة غير صحية، وأسلوب حياتنا يفتقر لأدنى معايير الشرط الصحي،  ما هيأ أجسادنا وأكسبها مناعة عالية في مقاومة الأمراض؛ فدمشق تُصنف ثالث مدينة في التلوث على خلاف الدول المتقدمة التي تُعد النظافة فيها شرطاً صحياً بديهياً وغير قابل للمساومة”. هذ الرأي يتبناه علي ليضيف بالقول: “اعتدنا على المناخ الملوث العبق بنفاث السيارات ومخلفات القذائف والصواريخ وروائح الصرف الصحي والنفايات والمياه العكرة والخضار البلاستيكة؛ فجميع هذه العوامل أكسبت أجسادنا صفة المقاومة ورفعت مناعتاه لتتأهب لأي مرض فالجسم أصبح مسبقاً معتاداً على التعامل مع الجراثيم والفيروسات باستثناء من لديه مرض مناعي يجعل مقاومته للأمراض ضعيفة كمرضى الربو والسرطان والسكري وغيرهم.”

أخرجت سماهر (طالبة طب بشري) من حقيبتها أسلحتها الكحولية  المكونة من مناديل معقمة ومحلول وقفازات وكمامة لمجابهة “كورونا”. تُمسك  السيجارة بيدها اليمنى وعبوة المعقم باليد الأخرى تحسباً لأي عطسة مباغتة وتقول: “حماية أنفسنا من العدوى هي مهمة أشبه بالمستحيلة بالرغم من وجود هذه المطهرات، كما أن  تبديل الكمامة كل ساعتين يُعد خياراً غير متوفراً أولاً في ظل انقطاعها ومكلفاً ثانياً، ناهيك عن عدم قدرتك على منع نفسك من لمس وجهك أو عينيك”.

في حين لا تُعير نور أهمية لهذا الفيروس الذي أصاب البشرية  جمعاء دون استثناء متكأة إلى إيمانها الديني العميق والتسليم  بالمشيئة الإلهية دون أذن صاغية لكلام العلم والإرشادات الضرورية، فتقول الشابة: “كل ما يأتي من عند الله هو خير لنا، وسيقع ما كتبه علينا، فمهما قمنا باحتياطات رادعة للوباء فلا طائل منها إن أراده الله لنا والعكس صحيح، فلا داعي للهلع والذعر”. أما  لبنى فلا تلتزم بوضع قناع الوجه الواقي مكتفية بالقفازات فقط  بالرغم من كونها تعمل في جمعية الصحة الخيرية التابعة لمنظمة “اليونيسف” مع العلم أن عملها  يتطلب تماس مباشر مع الأشخاص وعن ذلك تقول: “لا أستطيع تحمل الكمامة على وجهي، تمنعني من التنفس وأشعر وكأن شيء يخنقني، فأكتفي بالقفازات التي تعد  مهمة جداً في عملي عند تبادل الأوراق الشخصية ودفاتر العائلة للمواطنين فأنا على احتكاك مباشر ودائم  معهم.”

تُخالف سلوى صديقة لبنى سلوك صديقتها وتوبخها على إهمالها وعدم تقيدها بإجراءات السلامة الشخصية خاصة أنها تعمل في مجال الصحة ويجب أن تكون قدوة للناس وأكثر وعي، لذا قررت سلوى الاعتكاف في قريتها بالساحل السوري ريثما انتهاء فترة الحجر الصحي التي فرضتها الحكومة السورية على مواطنيها.

أزمة ثقة بالجهاز الصحي والإعلامي معاً

قبل إعلان وزارة الصحة السورية عن تسجيل أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد لشابة قادمة من لبنان، كانت ألسنة الشارع السوري لا تكف عن لوك أخبار وجود حالات إصابات  غير مؤكدة دون تفويت البعض منهم  لفرصة الاجتهادات الشخصية والمزوادات بارتفاع الأرقام نتيجة تداولها عن القيل والقال دون التأكد من دقتها، توضح سحر: “سمعتُ بوجود 200 حالة مصابة بفيروس كورونا في مستشفى المجتهد وذلك على ذمة سائق الأجرة الذي ركبت معه”؛ فيما تجد أن هذا الرقم انخفض إلى النصف على لسان شخص ثان، وتضيف المرأة: “إن كانت هذه الحالات حقيقية فلماذا لا تفصح عنها وزارة الصحة والإعلام وتخشى نشرها؛ فمن غير الممكن أن تكون هذه الإجراءات الوقائية الحذرة كإغلاق الجامعات والمدارس وتقليل التجمعات من أجل شيء غير موجود أصلاً.”

أما هنادي فتوافقها الرأي من ناحية قلة الثقة بالجهاز الصحي والإعلامي لكنها ترأى أنها قد تكون مجرد أساليب احترازية لعدم تفشي الوباء وأخذ الحيطة أسوة ببلدان العالم، بالإضافة إلى أن لا مصلحة لأي جهة رسمية من حجب معلومات مهمة كهذه عن الشعب ومحاولة تضليله، وتوضح وجهة نظرها: “لا أعتقد أن وزارة الصحة والإعلام تخفيان وجود إصابات لاسيما أن الأمر يتم بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية التي تُعتبر جهة حيادية وغير منحازة”، لتختتم الشابة بالقول: “آمل حقاً أن لا يدخل الوباء إلى بلدي ويحمينا الله، يكفينا همومنا ومصائبنا التي لا تنتهي.”

دور منصات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في التهويل

لا شك أن هناك جانب إيجابي لتطويع ماكينة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتوتير في خدمة الشعوب ومساهمتهما في زيادة وعيهم إزاء مواضيع معينة وكيفية التعامل معها بدقة، لكن أيضاً هناك جانب سلبي من حيث التمادي في دور هذه الوسائل الإعلامية بالإسراف في رسم ونشر هذه  الصورة حد المغالاة والتهويل. يؤكد إياد الذي يعتقد بضلوع الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في تضخيم فيروس كورونا والتعاطي معه بصورة مبالغة أن “الاستخدام الزاخم بدون وعي مدرك لوسائل التواصل الاجتماعي وتجنيدها في تصوير أدق تفاصيل الحياة ومشاركتها للجميع يساهم بشكل كبير في زيادة حجم الأمور وإعطائها مساحة أكبر من حجمها الطبيعي، فكلما قل التعامل مع قضية معينة انخفضت أهميتها ودرجة انتشارها والعكس صحيح، لكنني لا أنكر خطورة الفيروس وضرورة التعامل معه بحذر والتصدي له.”

دعابات الكورونا “شر البلية ما يُضحك”

يطلق باسل دعابة من وحي فيروس “كورونا” المستجد في أرجاء   صالون الحلاقة الرجاليةلتتردد صدى ضحكات الحاضرين، فيما يستمر السوريين في تبادل الرسائل فيما بينهم على أجهزة الهواتف الخليوية عن نكات “الكورونا” كوسيلة  دفاعية جماعية في وجه الفيروس وتحجيمه قدر المستطاع؛ فلا يمكن أن تفلت جائحة الكورونا التي اجتاحت العالم بأسره من ألسنة السوريين وسخريتهم المعهودة ومهارتهم العالية بتحويل الألم والمصائب إلى مادة دسمة  للتندر وإطلاق الدعابات في إشارة واقعية ومؤلمة في آن معاً إلى تجاوز المواطن السوري لشتى أنواع المحن والويلات في غضون 9 سنوات من الكوارث الحياتية التي حلت عليه خلال سنوات الحرب.

الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين

الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين

الخطر الجديد الذي يُهدد دول العالم كلها، يبدو أنه سيكون أكثر خطورة في سوريا المنكوبة جراء تعرض بعض مدنها لدمار كبير، وغياب أو ترهل البنية التحتية الطبية، واكتظاظ المهجرين\ات في مخيمات للنازحين\ات داخلياً أو مخيمات لللاجئين في دول مجاورة.

 ونظراً لغياب الشفافية في قضية مصيرية كهذه، في وقت تبدو الشفافية ضرورة قصوى من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ومواجهة هذا الوباء،  يحاول موقع ”صالون سوريا“  تسليط الضوء على ردود فعل السوريين وآليات مقاومتهم، وما الذي يمكن أن يعولوا عليه في هذه “الحرب الجديدة”. ويستطلع من الميدان، آراء سوريين من خلفيات مختلفة وفي مدن مختلفة بحثاً عن حقيقة ما يجري على صعيد تفشي الوباء والإجراءات القائمة للحد من انتشاره، بالإضافة إلى مخاوف السوريين\ات.

 ستنشر المواد الواردة تباعاً وتفعل روابطها:

كورونا في سوريا، ومسرح اللامعقول

كورونا، حرب جديدة في دمشق

السويداء وكورونا واحتمالات المجهول المرعبة

حملة في إدلب لمنع كارثة كورونا

القامشلي تواجه كورونا بشوارع خاوية من إيقاع الحياة

كورونا في اللاذقية

فقراء دمشق لا يمتلكون حتى خيار الخوف من كورونا

فلسطينيو سورية على وقع جائحة كورونا يصرخون: يا وحدنا

الطب البديل :علاجات تزدهر في زمن الكورونا

أطفال اللاجئين والحجْر المزدوج

العنف غير المعلن في زمن الكورونا

كيف يواجه أطفال سوريا الكورونا؟

يوميات الحجر السوري: بعض الابتلاء الأسري!

مخترع سوريّ يبتكر نقالة معزولة للحماية من نقل عدوى كورونا

عيد الفطر في سوريا زمن الكورونا: فرحة مقننة

الحكومة تضع الكرة في ملعب الشعب: النجاة فردية!

كيف يؤثر وباء كورونا نفسياً واجتماعياً على السوريين

سوريا على حافة المجاعة

كورونا وطلاب الشهادات الثانوية العامة والإعدادية

حوامل سوريات في زمن الكورونا: مزيج من الفزع والفرح

إنجازات “التربية”: حفلة “ردح” وتصريحات فارغة

ما طرأ على الحياة اليومية للطبقة الوسطى في دمشق

ما طرأ على الحياة اليومية للطبقة الوسطى في دمشق

لا يجمع بين أفراد الطبقة الوسطى في دمشق مستوى الدخل الشهري ولا أنماط الحياة العامة واليومية فقط، بل يتعدى الأمر إلى تشابه فعلي بنوع المواد المستهلكة وبأسمائها، لابل وبأسماء المحال التجارية والمخازن والمتاجر التي يشترون حاجياتهم منها، وأحيانا تتشابك المصالح ويحتدم التشابه لتتقاسم بعض العائلات مساعدة منزلية واحدة تقسم أيام عملها ما بين تلك العائلات أو سائق خدمة واحد يقود سيارة العائلة أثناء غياب الزوج أو مرضه.

منذ شهور خلت ومن منتصف شهر آب لعام 2019 قررت أميمة التوقف عن شراء القهوة من ماركة خلدون الشهيرة، والتي تعرف بأنها الماركة صاحبة السعر الأعلى للقهوة في دمشق، وتدرجت الأسعار من سبعة آلاف إلى تسعة، لتصل إلى أحد عشر ألفاً في شهر آب، فقررت أميمة التوقف عن شرائها. ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة فقد أخفت هذا الخبر عن صديقاتها اللواتي اكتشفن تبدل نوع القهوة في بيت أميمة، إلى أن تجرأت وفي شهر تشرين الأول على إعلان خبر هذا التبدل ولكن بعد أن سبقتها إلى إعلانه صديقات مقربات لم يترددن أبداً بالتوقف عن الشراء وبالإعلان عن ذلك أيضاً. سعر كيلة القهوة من ماركة خلدون اليوم بخمسة عشر ألفاً، لم يعد الموضوع طرفة للتندر ولا مناسبة للتذمر من الغلاء المستفحل، بل بات كل تفصيل يومي مدعاة لتأكيد العجز المتحصل من ضعف قيمة الدخل الشرائية وارتفاع قيمة المشتريات والمواد الأساسية.

في بيت هند مشكلة أخرى، أخيراً قررت اللجوء إلى مستوصف المواساة الخيري لمتابعة العلاج الدائم لوالدتها المصابة بالقدم السكرية والتي تحتاج عناية ومتابعة لصيقتين، لم تعد العائلة قادرة على دفع قيمتها لدى الطبيب المختص في عيادته الخاصة لارتفاع قيمة المعاينة وأدوات الجراحة الصغرى التي يجريها لأصابع والدتها بشكل شبه دوري، عدا عن كلفة العناية المنزلية المرتفعة من شاش ومراهم ومحاليل خاصة بالمغاطس الطبية اللازمة.

والحقيقة أن مستوصف المواساة يقدم خدماته مأجورة ولكن بهامش رمزي، عدا عن تخفيضات تشمل كل تفاصيل العلاج من تصوير شعاعي وتحاليل ومداخلات جراحية صغرى ومتابعة دورية مثل قياس الضغط وزرق الحقن والتبديل على الجروح ومعالجة الكسور والرضوض وسواها.

هند أستاذة جامعية، وقد افتتحت منذ عشرة أعوام معهداً للتدريب والتأهيل ولمساعدة الأطفال الذين يواجهون صعوبات في التعلم، مضطرة لخسارة وقتها في المعهد لمرافقة أمها المريضة لمستوصف الجمعية، لأن الانتظار طويل لكثافة عدد المرضى المحتاجين للمراجعة، هذا عدا عن عجزها عن تأمين ممرض إسعاف من المركز القريب لارتفاع كلفة نفقات العلاج فيه، رغم ارتفاع واردها الشهري من التدريس بالجامعة ومن وارد المعهد الخاص بها، تقول هند الحال ضاقت جداً وبات كل تدبير ولو كان حبة دواء إضافية فوق طاقتنا على تحمله.

كل شيء قد تبدل، حتى حجم كيس الخضار، كل مادة  تشترى حسب الحاجة المحددة لها، البصل بالكيلو والفليفلة بالوقية والخبيزة بالجرزة وكذلك الشمندر واللفت أو البطاطا. أما الفواكه فهي إن توفرت وبكميات أقل من المعتاد، لكنها تقبع بعيداً عن أعين الزوار، حبات قليلة لأفراد العائلة فقط، تؤكل بالتناوب اليومي لكل نوع. التفاح بستمائة ليرة والبرتقال بثلاثمائة ليرة والكريفون كذلك والبوملي بثلاثمائة وخمسون والبندورة تتراوح أسعارها ما بين الخمسمائة والستمائة ليرة. أما الموز وخاصة البلدي والذي انخفض سعره نسبياً وصل فيها إلى ستمائة وخمسون ليرة، فقد بات يشترى أسبوعياً ولمرة واحدة بواقع كيلو غرام واحد لا أكثر، بينما كان حاضراً يومياً على مائدة العائلة وعلى مرمى نظر الجميع بمن فيهم الضيوف.

رنا مهندسة وزوجة طبيب، اختصرت حجم مشترياتها من اللحوم بعد وصول سعر كيلو لحم العجل إلى عشرة آلاف ليرة، عائلتها مكونة من ستة أفراد، ولديها ولدان شابان بعمر العشرين، وهو عمر يستهلك الشباب فيه ويرغبون بتناول اللحوم ويفضلونها على كافة أنواع الطعام خاصة الطبخ التقليدي، لكنها الآن استبدلت وجبات اللحوم الحمراء بوجبة واحدة أسبوعياً ومن لحم الدجاج. كما أنها طلبت من ابنها التوقف بصورة نهائية عن تناول الطن مرتين أسبوعياً بعد التدريب الرياضي حسب نصيحة المدرب، لأن علبة الطن الواحدة تضاعف ثمنها إلى ما يقارب الضعف ونصف والضعفين لبعض الأنواع المخزنة بالماء بدلاً من الزيت والتي توصف للرياضيين أو للذين يتبعون برامج حمية خاصة.

بالأمس صادفت جارتي في السرفيس!! لم أتردد في سؤالها عن سبب وجودها فيه، فأجابت: “مشواري قريب ولا داعٍ لتشغيل السيارة وهدر البنزين”، ودخلت وأدخلتني معها في زحمة الشكوى من عدم كفاية البنزين على السعر الرسمي واستحالة توفر سيولة لتغطية كلفة البنزين الحر وعن الارتفاع المهول لأسعار قطع التبديل وكلفة التصليحات والرسوم والضرائب. شعرتُ وكأنها تزيح عن صدرها جبلاً هائل الحجم فقط لتجيب عن سؤال صغير جداً وطبيعي جداً، لكن يبدو أن الأحوال غير طبيعية وأن القهر يتفاقم ويحتاج مجرد سؤال ليسيل كقيح تخزن في كتلة صغيرة على طرف الخد، لكنها خدرت كامل الوجه والرأس وسرى الخدر  بالأطراف وصولاً إلى الأعصاب والعقل.

يمكن القول أن الطبقة الوسطى هي الأسر التي لها أكثر من دخلين شهريين ثابتين وأحد هذه المداخيل حكماً هو لدخل خارج وظائف الدولة، هو إما عمل خاص مثل عيادة أو ترجمة أو لوحات فنية أو معمل صغير أو ورشة موزاييك أو فضة أو ورشة إصلاح سيارات أو دكتور جامعة ويعطي دروساً إضافية أو خاصة أو لصيدلانية أو لخياط ماهر أو صاحب محل لبيع الملابس أو لبيع أو تصليح المشغولات اليدوية. الطبقة الوسطى التي تحتاج اليوم وبصورة وسطية لمبلغ يفوق الستمائة الف ليرة لتعيش في حدودها الدنيا، وليس كما كانت تعيش منذ فترة قريبة جداً لا تتجاوز الشهور الستة. هذا عدا عن كلفة السيارات وأقساط الجامعات وبالتحديد الخاصة منها وكلفة المداواة والعلاج وكلفة المسؤوليات العائلية تجاه الأهل. وهذا طبعاً لا يعني تشغيل الشوفاجات التي بات وجودها في البيوت مجرد ديكور يوحي بالصقيع ويستجلب الحسرة والشعور بالعجز لعدم إمكانية تشغيلها ولو بربع طاقتها التي كانت سابقاً، خاصة مع وصول سعر ليتر المازوت الحر إلى أربعمائة ليرة عدا عن حالات الغش الكثيرة التي يتناقلها السوريون يومياً. مع الإشارة إلى أن كمية الوقود الذي تحتاجه عملية التدفئة بواسطة الشوفاج ضمن البيوت السكنية هي أربعة ليترات في الساعة، أي بكلفة ألف وستمائة ليرة للساعة الواحدة قيمة المازوت فقط .

تراجع نمط إنفاق الطبقة المتوسطة ليتعدى الإنفاق الغذائي ليصل إلى المظهر المجتمعي، فقد تقلصت الدعوات العائلية على الغداء أو العشاء أيام العطل والأعياد وإن تمت وبقيت على تواترها القديم لكن مكونات الدعوة تقلصت وتضاءلت جداً أنواع الوجبات وعددها وقلت مكوناتها من اللحوم والفواكه والحلويات، كما خفت درجة التزاور بدرجة كبيرة جداً ولم تعد الزيارات الأسبوعية طقساً تفصيلياً من حياة أفراد الطبقة المتوسطة. ويبدو من اللافت ذكره هو الاستنكاف الطوعي في مظهره العام تعذراً بضيق الوقت أو سوء الأحوال العامة والقسري في مضمونه الفعلي عن قضاء العطل في الأماكن السياحية مثل البحر والقرى الجبلية، لارتفاع كلفتها وارتفاع كلفة النقل للوصول إليها وغياب أي واقع ادخاري يسمح بإنفاق السيولة الموجودة للضرورة كما يعلنون، والذي يتحول كل إنفاق خارج نطاق الضرورة إلى هدر يهدد بالعجز، لأنه يتجاوز فعلاً القدرة الحقيقة للأفراد بسبب غياب السيولة وضغط الحاجات اليومية الملّحة.

وكما هي التراتبية مثبتة واقعياً لأسماء المحال والمخازن التي تتوافق مع كل طبقة وكأنها جزء من كينونتها، يتخلى أفراد الطبقة الوسطى مكرهين عن خياراتهم الأم، نحو خيارات كانوا ينعتونها بالشعبية، كأن يلجؤوا لشراء القهوة ذات الآلاف التسعة للكيلو الواحد أو يوسعوا مروحة التخفيضات فتصير قهوتهم المفضلة هي المشتراة من سوق الحميدية أو من البزورية أو من الأحياء الشعبية مثل العمارة وسوق العتيق والمزة جبل. وفي عبارات مهدئة يعلنون: كم كانوا مبذرين عندما اعتادوا على قهوة فلان باهظة الثمن، بينما حان الوقت لاكتشاف أن النكهة والجودة ليستا حكرا على اسم الماركة أو المحل أو مخزن البيع، وكمن يُداري خيبته بالنكران.

عصف الغلاء بحيوات السوريين وبمقدرات عيشهم، وتهاوت الطبقات أو ربما هوت بفعل فاعل ليأخذ مكانها أشخاص جدد يتعثرون في اكتساب صفات الطبقة الوسطى ودرجات أفرادها العلمية العالية وأنماط سلوكهم الحضارية. أفراد اغتنوا بغمضة عين وامتلكوا ما كانوا لا يتخيلون امتلاكه، فأثروا على حساب الجميع وبدأوا بإزاحة الجميع عن طريق سطوتهم وتسلطهم وتفردهم بالمال وبالسوق وبالقانون وبالمجتمع، ركبوا الحرب كسفينة تجميع لغلال لم يجمعوها ولم يتعبوا بصنعها أصلاُ، ولكن الحقيقة أن الحيتان ليسوا وحدهم المسؤولين عن انحسار الطبقة الوسطى، بل تحضر عوامل إضافية بنيوية واقتصادية وإدارية ترتبط بنمو مضطرد للفساد وبعجز مضطرد عن إدارة الأزمة المستفحلة الناتجة عن هشاشة اقتصادية بالغة وعن انسحاب إجرائي عن بذل أية جهود ترمم ما يمكن ترميمه وتحافظ على ما زال الحفاظ عليه ممكناُ.

كل شيء بات عرضة للاهتراء. كل شيء ضاق حتى ضاع.