بواسطة عامر فياض | ديسمبر 22, 2021 | العربية, مقالات
كنت أرمي كيس قمامة في إحدى الحاويات، ففاجئني طفل ظهر منها وكان ينبش في قمامتها. يغوص فيها لدرجة أنني لم أنتبه لوجوده، وكاد الكيس يرتطم برأسه. ذلك الطفل هو واحد من آلاف الفقراء والمعدمين الذين باتت الحاويات مصدر رزقهم الوحيد. فمن النادر اليوم أن ترى حاوية لا يوجد حولها أو في داخلها من ينبش في قمامتها بحثاً عما يمكن بيعه أو استخدامه أو حتى تناوله من بقايا الأطعمة، وقد أصبحت تلك الظاهرة مهنة شائعة غزت الشوارع ومجمعات القمامة بشكل كبير.
الأطفال أكبر ضحايا تلك المهنة
مع ساعات الصباح الأولى تنشط حركة الأطفال عند الحاويات بشكل كبير، وبالقرب من إحداها التقينا بالطفل حسن (15 عاماً) وأخويه الصغيرين وهم يزاولون عملهم اليومي. “نخرج من البيت عند الساعة الخامسة صباحاً لننبش في القمامة وننتقي منها بعض المواد التي يمكن بيعها (بلاستيك، كرتون، زجاج، معدن، نايلون، خشب وغير ذلك)، ثم نقوم بفرز كل نوعٍ منها ونضعه في كيسٍ خاص به”، يقول لنا حسن مضيفاً: “عند الساعة السابعة يعود أخوي إلى البيت ليستعدان للذهاب إلى المدرسة، فيما أتابع عملي حتى يأتي تاجر بسيارته ليشتري ما جمعناه من مواد، بعد أن يزنها “. ولا يقتصر عمل الأخوة الثلاثة على فترة الصباح بل يخرجون في الخامسة مساء، وأحيانا ترافقهم أمهم وأختهم الصغيرة، ليعملوا حتى التاسعة أو العاشرة ليلاً.
في أحد شوارع مدينة جرمانا استوقفني مشهد درامي مؤلم لطفل بعمر السادسة يقف داخل حاوية طافحة ويقوم برمي ما تحمله يداه الصغيرتان إلى الأرض ليفرز أخاه الأكبر ما يصلح منها للبيع. عند الاقتراب منهما يُسمع صراخ الأخ الأكبر الذي يحثُّ الأصغر على العمل بهمة ونشاط أكبر ويوبّخه لأنه يرمي بمواد لا حاجة لها. وعند سؤاله عن سبب اعتماده على الطفل في عمل كهذا يجيب: “هو خفيف الحركة ويستطيع القفز إلى داخل الحاوية بسهولة”. مضيفاً: “ليس هناك من يساعدني سواه فأبي مُقعَد لا يقوى على الحركة وأخويَّ يعملان في أحد المعامل لمدة عشر ساعات وأكثر، فيما تعمل أمي معظم الوقت في تنظيف البيوت”.
وفي مشهد آخر، قرب إحدى تجمعات الحاويات، أربع فتيات صغيرات ينهمكن في عمليات النبش وكأنها لعبة للأطفال، اللعبة الوحيدة التي يملكنها. الفتاتان الأكبر في الثانية عشر من العمر تقريباً ترتديان لثاماً لتخفيان وجهيهما خجلاً من المارة الذين اعتادوا وجودهن شبه الدائم في الشوارع، ورغم ذلك لم يخفِ اللثام تعابير عيونهن الطافحة بالقهر والوجع.
تمر الفتيات على عدة حاويات في أوقات متفرقة من النهار، مُحمَّلات بما جمعنه من أكياس، قد تفوقهن حجماً، يتنقلن بها لمسافات طويلة، حالهن كحال آلاف الأطفال الذين باتوا جزءاً من تفاصيل الشوارع التي تحاصرهم بنظرات الشفقة والدونية، وهم يعبرونها بأكياس بالية محمولة على الظهور أو بواسطة عربة مصنوعة من الخردة، كيفما اتفق وفي أحسن الأحوال، بواسطة دراجة. إلا أن الدراجة قد تُشَكِّل خطراً كبيراً على من يقودها كونها تُحمَّل عادة بأوزان ثقيلة وأحجام ضخمة من أكياس القمامة المعلَّقة على يمينها ويسارها، وهو ما يجعلها عرضة للسقوط بأي لحظة أو عرضة لأن تعرقل المارة أو تصدمها السيارات التي تعبر بجوارها.
مهنة عائلية
وبدل أن تخرج العائلات في سيران أو رحلة أو حتى زيارة ما، كما اعتادت فيما مضى، أصبح بعضها يخرج اليوم ليعبر أمام حاويات القمامة في محاولة بائسة لتأمين لقمة العيش المريرة. عائلة أبو أحمد مثلاً تعمل بشكل شبه يومي في أماكن مختلفة بتناغم كبير. الأولاد الثلاثة يغوصون في قلب الحاوية يُخرجون منها بعض المواد والأكياس الممتلئة مختلفة الأحجام وأبو أحمد ينتقي منها ما يصلح للبيع، يمزِّق الكراتين إلى أحجام صغيرة كي يسهل نقلها، يدوس العلب المعدنية والبلاستيكية بقدمه لكي يضغطها، ويكسِّر القطع الخشبية والبلاستيكية الكبيرة إلى أجزاء، فيما تقوم أم أحمد بلملمة تلك المواد وفرزها في أكياس وصناديق خاصة. وعند امتلائها يحملونها جميعهم إلى سيارة شخص معتمد يتعامل مع عدد من نابشي القمامة.
وعند سؤال أبو أحمد عن حجم الدخل الذي تجنيه العائلة من تلك المهنة يقول: ” نزاول المهنة منذ خمس سنوات، وقد تراجعت في العامين الأخيرين نتيجة فقر الناس، فالحاويات تعكس الواقع المعيشي المتردي الذي يعيشونه”. ويضيف: “نجني يومياً ما بين 15 إلى20 ألف ليرة (5 أو 6 دولارت) حيث نجمع بشكل تقريبي نحو 15 كيلو كرتون (سعر الكيلو 300 ليرة) و15 كيلو بلاستيك (الكيلو 500 ليرة) وحوالي أربعة أو خمسة كيلو من المعدن ( الكيلو بين 700 و1200 ليرة) بالإضافة لبعض المواد الأخرى”.
وتبقى عائلة أبو ضياء أفضل حالاً من عائلة أبو أحمد كونها تملك سيارة صغيرة بثلاث عجلات (طرطيرة)، تُمكّنها هي التي تعمل في الصباح وفي المساء من نقل ما تجمعه من مواد صالحة للبيع إلى بعض معامل البلاستيك والكرتون والزجاج في منطقتي صحنايا وسبينة.
إلى جانب ذلك، ومع قدوم الشتاء وغياب جميع وسائل التدفئة، تجمع العائلة في أكياس خاصة أية مواد يمكن إشعالها لتعود عليهم بالدفء كقطع الخشب والورق وأكياس الخيش والنايلون والأقمشة وغيرها.
بعد انتهاء عمل العائلة نجد السيارة طافحة بالأكياس، وقد عُلّقت على جانبيها أيضاً أكياس أخرى ذات أحجام كبيرة. تجلس أم ضياء إلى جوار زوجها، الذي يقود السيارة، وهي تحتضن طفلها الصغير، فيما يتعلق الأطفال الثلاثة الآخرين على الحواف الخلفية للسيارة بشكل بهلواني قد يعرّضهم للسقوط.
قمامة المطاعم والمقاهي كنز ثمين
بشكل يومي يذهب أبو حسان وولديه في ثلاث جولات إلى عدد من المطاعم لكي يأخذوا قمامتها مما يخفّف عن العمال عناء نقلها إلى الحاويات. يحمل الثلاثة ما يستطيعون حمله من أكياس ليضعونها عند أقرب حاوية ثم يقومون بإفراغها واستخراج ما يمكن بيعه من كرتون وبلاستيك وأكياس نايلون وفوارغ معدنية وزجاجية، بالإضافة لبقايا الخبز والسندويش والمعجنات التي يضعونها في أكياس خاصة لتباع إلى تجار الخبز اليابس. وإلى جانب ذلك يحظون أحياناً بما يمكن أكله من بقايا السندويش والوجبات. إذ لا يقتصر الأمر على ما يمكن بيعه فقمامة المطاعم باتت توفر طعاماً لعدد كبير من الفقراء. وحول هذا الموضوع يحدثنا صاحب مطعم للوجبات السريعة في منطقة الدويلعة: “كثير من الفقراء ينتظرون مواعيد نقل قمامة المطعم ليبدأوا على الفور بنبش محتوياتها وانتقاء ما يمكن تناوله، في مشهد مؤلم يُدمي القلب، ولكي نجنّبهم الإحساس بالغبن صرنا نجمع بقايا الطعام التي يتركها الزبائن داخل أكياس خاصة نقوم بوضعها أمام باب المطعم، وبمجرد أن يلمحونها يتهافتون عليها، وبذلك يحصلون على طعام نظيف قدر الإمكان”.
مهنة لا تخلو من الخلافات والمشاكل
هذه “المهنة” قد تخلق في أحيان كثيرة مشاكل وتوتّرات بين نابشي القمامة وخاصة الأطفال منهم. وقد تتطور إلى تبادل الشتائم والعراك في خلاف على تقاسم أماكن العمل وبشكل خاص في المناطق التي تسكنها الطبقة الثرية أو التي تكثر فيها المطاعم والمقاهي.
قبل أيام، وأثناء مساعدتي لصديقي في إعادة ترتيب منزله ونقل بعض الأشياء التي استغنى عنها إلى الحاوية، صادفنا أربعة أطفال يزاولون عملهم وحين رأوا ما نحمله (كتب تالفة، أوراق، كراتين والكثير من العبوات البلاستيكية والزجاجية وغير ذلك) تهافتوا علينا وكأننا نحمل كنزاً ثميناً فتشاجروا على تقاسمه، ما دفعنا لتوزيع تلك الأشياء بالتساوي عليهم.
الطفلان عمر (16 عاماً) وأخوه الذي يصغره بعامين وجدا حلاً مناسباً لتجنّب المشاكل التي قد تحدث مع مزاولي تلك المهنة فاختارا أن يسهرا حتى الفجر بشكل يومي بجانب إحدى تجمعات حاويات القمامة. يروي لنا عمر: “خلال الليل من النادر أن يمر نابشو القمامة على الحاويات وبالتالي ليس هناك من ينافسنا، لذا نغتنم فرصة النبش طوال الليل قبل أن تنشط حركتهم عند الفجر، وبذلك نجمع كميات جيدة من المواد الصالحة للبيع، حيث تكثر في الليل حركة رمي قمامة المنازل والمطاعم والمقاهي القريبة”.
وخلال جلوسهما الطويل، يلتحف الطفلان ببطانية صوفية بالية ويشعلان الخشب والكرتون ليحصلا على بعض الدفء، فيما يتسولان من المارة وسائقي السيارات ما تيسر من نقود أو طعام أو سجائر.
كثيرة هي الأضرار والمخاطر الصحية التي تسبّبها هذه “المهنة” نتيجة الاحتكاك الدائم مع بيئة غنية بالجراثيم قد تجعل أي جرحٍ يصيب نابش القمامة جرحاً مهدّداً للحياة، هذا إلى جانب الكثير من الأمراض الجلدية والهضمية أو التنفسية الناتجة عن استنشاق الروائح المتخمرة. لكن معظم مزاولي تلك المهنة لا يعيرون أي أهتمام لما ذكر رغم آلاف التحذيرات الطبية، بعد أن انعدمت لديهم كل مقومات الحياة، وبات الخوف من الموت جوعاً يطغى على الخوف من الموت مرضاً.
بواسطة ابراهيم حميدي | ديسمبر 20, 2021 | العربية, غير مصنف
بعيداً عن الشعارات الكبيرة، هناك مشروع يتمدد بصمت وهدوء عبر «الحدود». أنبوب يحمل الأصدقاء والأعداء عبر «الخطوط الحمراء». قطار يخترق «المحرمات». مشروع يختبر القواميس.
الحديث هنا عن أنبوب «الغاز العربي» من مصر إلى الأردن، وشبكة الكهرباء من الأردن إلى سوريا.
إلى الآن، الأمر مفهوم. لكنهما يعبران أيضاً إلى لبنان. لا مشكلة إلى الآن، لكن واقع الحال أن الأنبوب يحمل غازاً إسرائيلياً من “الاعتدال” إلى معقل «المقاومة». أيضاً، الكهرباء القادمة من الأردن منتجة بغاز إسرائيلي.
هذا اختراق أول. الثاني أنه نظرياً على الأقل عليه أن يخترق أحد «المحرمات» الأميركية، أي «قانون قيصر» الذي يفرض عقوبات قاسية على التعامل مع سوريا. هذا «العبور الحرام» تطلّب «استثناءات» من إدارة الرئيس جو بايدن، كانت قادرة على بعضها، ولم تكن قادرة على بعضها الآخر، طالما أن «الباب العالي»، أي الكونغرس، بالمرصاد.
جدل كثير أثير حول هذا المشروع لأسباب سياسية وجيوسياسية واقتصادية، وتنافس بين أميركا وإيران على «قلوب وعقول اللبنانيين والسوريين». وكان لا بد من فكّ شفرات كثيرة، سياسية وقانونية. فمصر والأردن يريدان المضي قدماً به، كلٌ لأسبابه. لكن لا بد من «غطاء قانوني أميركي». وجاءت رسالة خطية من واشنطن، لكنها لم تكن كافية كي تمدّ عمان والقاهرة شبكاتهما للغاز والكهرباء في الإقليم، مسترخيتين تحته. لم تجلب رسالة وزارة الخزانة الأميركية معها أجوبة شافية، بل طرحت أسئلة وتحذيرات بضرورة عدم التعامل مع أي شخصية أو كيان في سوريا مدرجين على عقوبات «قيصر» الأميركي، وضرورة عدم تقديم أموال إلى دمشق. «الضمانات الكافية» لم تصل. فما هو الحل؟
تنشر «الشرق الأوسط» اليوم خلاصات عن شبكات الغاز والكهرباء والأبعاد السياسية والاقتصادية لها، بناء على معلومات من مسؤولين إقليميين ومن دراسة لـ«معهد واشنطن للشرق الأدنى»، شارك فيها خبراء ومسؤولون سابقون، بينهم كاثرين بوير وبن فيشرمان وديفيد شينكر وأندرو تابلر، الذين عملوا في مجلس الأمن القومي والخارجية في إدارتي الرئيسين دونالد ترمب وباراك أوباما:
عودة الى الجذور
أدت الأزمات الاقتصادية والأمنية والإنسانية المعقدة في لبنان إلى ترنح البلاد على حافة الكارثة على مدى عامين، حيث أصبحت المواد الغذائية الأساسية باهظة الثمن. وفي خضم هذا الركود، أصبح انقطاع التيار الكهربائي أمراً معتاداً، وبات البلد «مشلولاً بسبب السياسات الضيقة وسوء الإدارة والفساد، التي تسببت جميعها في انهيار قيمة الليرة اللبنانية». وقد أدى الارتفاع المحلي المقابل في أسعار الوقود المستورد إلى الحد من وصول المستهلكين إليه، ثم إلى انهيار شبه كامل في توليد الكهرباء.
ومن أجل «سد فجوة الطاقة وكسب القلوب والعقول»، حسب البحث، أطلق «حزب الله» جهوداً لاستيراد الوقود الإيراني والمنتجات النفطية من سوريا، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة وحلفاءها العرب لعرض «خطة منافسة وأكثر تعقيداً بكثير، تتضمن تزويد لبنان بالكهرباء والغاز بصورة متزايدة عبر كابلات الكهرباء وأنابيب الغاز التي تمر عبر سوريا»، اعتقاداً بأن هذا الخيار «أكثر استدامة للبلاد والبيئة من خطة «حزب الله» – ولمنع اقتراب لبنان من حافة انهيار الدولة والابتعاد أكثر عن الفلك الإيراني».
خطة بعنصرين
تشتمل الخطة عنصرين رئيسيين: الأول يتعلق بالأردن الذي يقوم بتوليد ونقل الكهرباء الفائضة إلى لبنان عبر سوريا، والثاني يشمل إرسال الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب من مصر (وإسرائيل) إلى الأردن، ثم إلى سوريا، وبعدها إلى لبنان، لاستخدامه في محطات الطاقة. وأعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية الأردني عن الخطة بعد اجتماع عقده مع نظيريه اللبناني والسوري في 28 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث إن المكون الأول من الخطة سيوفر للبنان – نظرياً – 400 ميغاواط من الكهرباء يومياً (150 ميغاواط بين الساعة 12 صباحاً والساعة 6 صباحاً، و250 ميغاواط لبقية اليوم)، رغم أن تقريراً لاحقاً أشار إلى أن الأردن لن يوفر سوى 250 ميغاواط في اليوم. ويواجه لبنان حالياً نقصاً في الطاقة الكهربائية يقدر بـ1500 ميغاواط في اليوم. لذلك، لن تحل هذه الخطة الأزمة بالكامل، بل سوف تغطي ما بين 15 و30 في المائة من فجوة الطاقة الحالية، وتزيد إمدادات الكهرباء اليومية في لبنان بنسبة 35 إلى 60 في المائة.
ووفقاً للبيانات الواردة من الأردن، أنتجت المملكة فائضاً من الطاقة الكهربائية بلغ نحو 2800 غيغاواط/ساعة في عام 2020، وتحولت إلى أكثر من 300 ميغاواط في اليوم. وبالتالي، يمكن تحقيق الهدف المتمثل بـ400 ميغاواط في اليوم من خلال الفائض الأردني الحالي، استناداً إلى أرقام عام 2020، رغم أنه من المرجح أن تكون واردات الغاز إلى الأردن مطلوبة لتزويد المملكة بالقدرة الاحتياطية. من جانبهم، أشار مسؤولون سوريون إلى أن تكلفة إصلاح الخطوط في سوريا المتصلة بالشبكة الأردنية تصل إلى 5.5 مليون دولار.
غاز إسرائيل
لجعل هدف إنتاج 400 ميغاواط مستداماً، تشمل الخطة زيادة كميات الغاز من مصر إلى الأردن لتعويض الغاز الإسرائيلي الذي عادة ما يذهب إلى الأردن. وقالت الدراسة: «سيتم بعد ذلك تحويل الغاز الإسرائيلي إلى سوريا، نظراً للتوجه الحالي لخط أنابيب الغاز العربي، وهي شبكة إقليمية تمتد من شبه جزيرة سيناء المصرية، عبر الأردن، وعبر أجزاء من سوريا حتى شمال لبنان». ولا يزال من غير الواضح كيف سيتم تحويل الغاز باتجاه لبنان، بسبب الوضع المعقد لترابطات الغاز القائمة بين سوريا ولبنان. ولكن هناك صفقة يشاع أنها قد تشمل الغاز الإسرائيلي الذي يذهب إلى سوريا، في صفقة مقايضة للغاز السوري عبر الأنابيب إلى لبنان. ولا يزال عدد من التحديات التقنية واللوجيستية والسياسية التي تواجه هذه الترتيبات قائمة من دون حل.
شهد العقد الماضي العديد من التغيرات في صورة النفط والغاز والكهرباء في شرق البحر المتوسط. وتبقى مصر اللاعب الأكبر، حيث تم اكتشاف حقول كبيرة للنفط والغاز، وأخرى في مرحلة الإنتاج على اليابسة وفي البحر. لكن اكتشافات إسرائيل الخاصة بالغاز منحتها استقلالية الطاقة والفائض لتصدير الغاز الطبيعي إلى كل من الأردن ومصر. وكانت سوريا قبل الحرب الأهلية منتجاً كبيراً للنفط والغاز الطبيعي، مع قدرة محدودة للتصدير.
«خط الغاز العربي» شيد بالأساس لتصدير فائض الغاز المصري إلى الأردن وسوريا، مع خط فرعي إلى لبنان، واحتمال توسيع نطاقه إلى جنوب تركيا. ويبدو أن هذه هي البنية التحتية القائمة التي يمكن الآن استخدامها لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى الأردن وسوريا، ومن ثم إلى لبنان، في حين يستخدم الغاز المصري للاستهلاك المحلي، أو يصدر كغاز طبيعي مسال على ناقلات إلى وجهات مختلفة في جميع أنحاء العالم.
أسطورتان… وقرار
منذ بدء الحديث عن الصفقة، قيل إن الغاز «مصري المنشأ، لكن هذا الوصف مضلل وأسطورة. قد تدفع مصر ثمن الغاز في البداية، وبالتالي يمكن وصفها بأنها الجهة المالكة، لكن أغلب الغاز، أو كله، سوف ينشأ من حقل ليفياثان البحري في إسرائيل»، حسب الدراسة.
والأسطورة الثانية هي أن الغاز سيأتي عبر خط الغاز العربي، الذي تم تشغيله في الأساس في عام 2003، ويبدأ من مدينة العريش شمال سيناء، حيث تتقاطع الخطوط من مصر وإسرائيل. ووفقاً للخطة الأولية، فإن خط الأنابيب تبلغ طاقته السنوية حوالي 10 مليارات متر مكعب، وكان المقصود منه إمداد محطة توليد الطاقة في مدينة العقبة الأردنية وثلاث محطات لتوليد الطاقة في سوريا ومحطة لتوليد الطاقة في لبنان بالغاز. ومع ذلك، يقول مطلعون في مجال الصناعة إن «الغاز المتدفق إلى الأردن عبر خط الأنابيب مصدره إسرائيل، أو على الأقل مزيج من الغاز الإسرائيلي والمصري».
وعلى مدى العقدين الماضيين تقريباً، تسببت الأزمات السياسية في مصر وسوريا ولبنان في انقطاع تدفق الغاز، الأمر الذي أدى إلى إعادة النظر في «خط الغاز العربي». وكان أهم تغيير هو قرار الأردن الاعتماد على الغاز الإسرائيلي بدلاً من الغاز المصري. وقالت الدراسة: «منذ عام 2020، عندما بدأ إنتاج حقل ليفياثان في إسرائيل، تدفق الغاز الإسرائيلي بواقع 3 مليارات متر مكعب سنوياً عبر خط أنابيب يمر عبر إسرائيل، ويعبر إلى الأردن جنوب بحيرة طبرية مباشرة، قبل أن يتقاطع مع خط الغاز العربي. ومن هناك، يتدفق الغاز جنوباً على مسافة بضعة أميال إلى محطات الطاقة الأردنية شمال عمان».
وكانت مصادر أردنية قالت إن الغاز يتم إمداده عبر خط أنابيب منفصل عن خط الغاز العربي، يتجنب على ما يبدو تدفق الغاز الإسرائيلي عبر خط الغاز العربي. غير أن معدي الدراسة لم يؤكدوا الموقف الأردني.
كما أن الجانبين السوري واللبناني نفيا أن يكون الغاز إسرائيلياً. وقال الخبراء: «في النهاية، قد تتقبل سوريا فكرة مرور الغاز الإسرائيلي عبر أراضيها. ومن الناحية النظرية أيضاً، يمكن ضخ كميات إضافية من إسرائيل إلى خط الغاز العربي في شمال الأردن، حيث يذهب بعضها جنوباً إلى محطات الطاقة الأردنية، وبعضها يتجه شمالاً إلى سوريا. ولكن، لكي يكون هذا الترتيب تجارياً، يجب أن يكون قابلاً للتطبيق لمدة خمسة عشر عاماً تقريباً، في حين تقترح الخطة الحالية المزيد من الإصلاح قصير الأجل لمساعدة لبنان وجذب سوريا بعيداً عن إيران».
التمويل… ومصالح
تشير المناقشة العامة الحالية حول كيفية تغطية تكاليف الإصلاحات الضرورية ورفع طاقة خطوط النقل الأساسية إلى أن البنك الدولي قادر على توفير الأموال اللازمة. وحسب المعلومات، فإن روسيا ضغطت على أميركا لتحريك هذا الملف لدى البنك الدولي. لكن هذا يثير على الفور مسألة من يسدد ثمن الكهرباء في لبنان، حيث خلت خزانة الدولة، والمواطنون يعانون الضائقة المالية القاسية حالياً، ويتحملون أعباء دفع تكاليف اللوازم المنزلية حتى في أفضل الأوقات. ومن دون إجابات مُرضية على هذه الأسئلة، لن يكون لدى البنك الدولي التطمينات اللازمة بأن المشروع سوف يكون مجدياً من الناحية التجارية.
وتمتد مسألة التمويل أيضاً إلى دفع ثمن الغاز. وحسب الدراسة: «لن تقوم شركة شيفرون والشركات الإسرائيلية التي تملك حقوق الإنتاج الخاصة بحقل ليفياثان، بتوريد الغاز من دون سداد، وذلك في المقام الأول من مصر. ولن ترغب القاهرة في تمويل المستخدمين اللبنانيين المحليين الذين ليست لديهم نية تذكر، أو لا يريدون بتاتاً، سداد فواتير الكهرباء الخاصة بهم». وكان أفيد بأن البنك الدولي سيدفع ثمن الكهرباء المرسلة إلى الشمال أو الغاز الموجه إلى لبنان. لكن الدراسة تقول إنها «فكرة مستبعدة للغاية»، الأمر الذي يعزز فكرة تمويل عربي للمشروع، وأن هذا ضمن الاتصالات العربية مع دمشق وبيروت.
من وجهة نظر إسرائيل، تقول الدراسة إن الموافقة على تزويد سوريا ولبنان بهذا الإمداد من الغاز الإسرائيلي «ستكون بلا شك فائدة مشروطة أو مرجوة من حيث العلاقات السياسية». وتضيف: «من شأن ذلك المساعدة في منع انهيار الدولة، الذي من شأنه أن يفيد حزب الله وإيران». كما أن «التوغل الإيراني في جنوب سوريا يعني أن منطقة الحدود الثلاثية هي بالأساس منطقة قتال»، الأمر الذي يفسر الدعم العلني الروسي والضمني الغربي لتمدد روسيا جنوب سوريا. كما أن عجز لبنان وإسرائيل عن التوصل إلى حل وسط بشأن حدودهما البحرية المشتركة يرجع في الأساس إلى تضارب المطالبات باحتياطيات النفط والغاز.
ماذا عن سوريا؟
بعد مرور 11 عاماً من بدء الحرب في سوريا، يؤجج مزيج من الإنهاك والبراغماتية الاقتصادية نزعة متزايدة بين الدول العربية لإعادة تأهيل النظام السوري وتطبيع العلاقات مع دمشق. وورثت إدارة بايدن من سابقتها ما كان من نواح كثيرة يعد سياسة سورية طموحة، سعت إلى «الضغط على النظام وحلفائه لتبني تسوية تفاوضية للحرب». وكما قال السفير جيمس جيفري، الممثل الخاص للشؤون السورية، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي عام 2018: «لن تكون هناك مساعدات أميركية في إعادة إعمار سوريا، كما لن يكون هناك دعم أميركي لبلدان أخرى تساعد في هذا الأمر، في ظل غياب عملية سياسية ذات مصداقية في جنيف ضمن سياق عملية 2254 التي تؤدي بلا تغيير إلى دستور جديد، وانتخابات حرة ونزيهة تشرف عليها الأمم المتحدة، وانتقال سياسي يعكس إرادة الشعب السوري. وفي حين نحافظ على وجودنا في سوريا لضمان الهزيمة الدائمة لتنظيم داعش، فإننا ملتزمون أيضاً بالهدف الاستراتيجي المتمثل في انسحاب جميع القوات التي تقودها إيران من كامل الأراضي السورية».
وفي ظل هذه السياسة، لم تثبط الولايات المتحدة جهود إعادة إعمار سوريا فحسب، بل ثبطت أيضاً جهود العواصم عن إقامة علاقات دبلوماسية أوثق مع دمشق، في محاولة لإبقاء الرئيس السوري بشار الأسد معزولاً سياسياً.
وقد شكلت هذه التدابير، فضلاً عن مجموعة من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واستهدفت النظام، بما في ذلك التدابير المنصوص عليها في «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين»، والذي دخل حيز التنفيذ في يونيو (حزيران) 2020، جوهر الضغط غير العسكري ضد النظام السوري.
وقالت الدراسة: «ربما كانت سياسة الولايات المتحدة متماسكة، لكنها لم تكن ناجحة بصفة خاصة. لا شك أن الأسد ظل معزولاً إلى حد كبير خلال إدارة ترمب، لكن النظام، بدعم من روسيا، كان قادراً على تحمل الضغوط الدولية وتجميد أي تقدم ذي مغزى في تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254».
وركزت أغلب المشاركات الإقليمية الأخيرة مع دمشق على خطة الطاقة المدعومة من الولايات المتحدة في لبنان كبديل عن الإمداد الإيراني. فالخطتان المطروحتان، الأولى لنقل الكهرباء الأردنية عبر الأبراج السورية، والثانية لنقل الغاز المصري (أو الإسرائيلي) بواسطة خط أنابيب عبر الأردن وسوريا، ستفيدان دمشق اقتصادياً. ومع ذلك، فإن إدارة بايدن تدعم هذه المساعي، «بيد أن الرؤية التي تتمتع بها الأردن ومصر والإمارات بالنسبة إلى سوريا تتجاوز إلى حد كبير مناورة الطاقة في لبنان».
هجوم أردني
في الآونة الأخيرة، اتخذ الأردن بعض الخطوات الأكثر بروزاً للتطبيع مع سوريا، حيث استضاف العديد من الاجتماعات مع كبار المسؤولين السوريين، وجرى اتصال بين الرئيس الأسد والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي نقل وجهة نظره إلى الجمهور الغربي بأنه، لأسباب اقتصادية ولأسباب تتعلق بالموارد، لا يمكن للأردن أن يتجاهل جاره القريب، وأن اللاجئين السوريين في المملكة الهاشمية الذين يزيد عددهم عن 650 ألفاً يشكلون عبئاً خاصاً يتطلب تفاعلاً أكثر نشاطاً مع دمشق.
وفي حين أن بعض التفاعلات الرسمية بين عمان ودمشق كانت مخصصة للأمن، ركزت الغالبية العظمى منها على المسائل الاقتصادية. ولسبب وجيه. وبحسب البنك الدولي، بلغت البطالة في المملكة نحو 25 في المائة، مع ارتفاع البطالة بين الشباب إلى نسبة «غير مسبوقة» وغير قابلة للاستمرار، بلغت 50 في المائة. وفي الوقت نفسه، لا تزال المملكة تتعامل مع التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، حيث تقلص الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 1.5 في المائة في عام 2020.
بالنسبة للأردن، تشكل استعادة العلاقات الاقتصادية مع سوريا إمكانات اقتصادية كبيرة، سواء من حيث التجارة أو عبور السلع إلى تركيا وأوروبا. وحتى الآن، كان لإعادة فتح الحدود الأردنية مع سوريا تأثير محدود على التجارة. ومع استمرار فرض العقوبات الصارمة، أعرب رجال الأعمال الأردنيون عن عدم رغبتهم في استعادة العلاقات الاقتصادية لما قبل الحرب. ومع ذلك، يمكن أن يكون لإعادة إعمار سوريا في الأجلين المتوسط والطويل تأثير كبير على الأردن.
لكن جذر الدعوات لإعادة دمج سوريا هو سياسي أكثر منه اقتصادي، عبر عودة دمشق إلى «الحاضنة العربية»، لاعتقاد البعض أن هذا بمثابة تأكيد «العروبة» السورية، وإبعادها عن إيران «الفارسية». كما تندرج تركيا ضمن محرضات بعض الدول العربية على إعادة تأهيل الأسد. وفي اجتماع للجامعة العربية في مارس (آذار)، انتقد وزراء عرب بشدة تدخل تركيا في سوريا، ودعوا إلى انسحاب القوات التركية من البلاد. لكن الأيام الأخيرة بدأت تطرح أسئلة وعلامات استفهام حول قدرة دمشق على قطع علاقاتها بطهران بعد أكثر من 40 عاماً من الشراكة الاستراتيجية، في وقت تقيم دول عربية حوارات مع أنقرة.
وحتى الآن، لم تشر مصر أو الأردن إلى أن اهتمامهما بدعم مبادرة الطاقة التي تقودها الولايات المتحدة يرتبط بإحباط المزيد من التوغل الإيراني في بلاد الشام، لكنهما قدما دعما لخطة التصدير إلى لبنان عبر سوريا. وفي الصيف الماضي، تحدث الملك عبد الله عن تجنب حدوث «كارثة إنسانية» في لبنان يمكن أن تشعل أزمة لاجئين جديدة، في حين قال رئيس الوزراء الأردني إن المملكة سوف «تستجيب بكل ما في وسعها لإخواننا في لبنان». وعلى هذا المنوال، أعرب وزير البترول المصري طارق الملا في سبتمبر (أيلول) الماضي عن «حرص مصر على تخفيف أعباء الشعب اللبناني والمساهمة في دعم لبنان واستقراره».
أميركا والعقوبات
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن السؤال السياسي المباشر هو ما إذا كان يمكن نقل الكهرباء، وربما الغاز الطبيعي، عبر الأراضي السورية دون انتهاك العقوبات الأميركية على دمشق، بما في ذلك عقوبات «قانون قيصر». وتنتقل الكهرباء في جميع أنحاء المنطقة عن طريق مشروع الربط الكهربائي في البلدان الثمانية: الأردن، ومصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، والأراضي الفلسطينية، وليبيا، وتركيا. ولكن، بدلاً من استخدام خطوط نقل منفصلة، تضم هذه المجموعة ترابطاً بين الشبكات الوطنية. وقالت الدراسة: «تقوم شبكة الكهرباء السورية بتشغيل عدد كبير من المنشآت المدنية والأمنية في جميع أنحاء البلاد. لذلك، في حين أنه يمكن من الناحية النظرية تخصيص الكهرباء التي تدخل سوريا من الأردن للمستشفيات أو غيرها من المواقع الإنسانية على طول العمود الفقري الغربي من البلاد، لكن الشبكة تغذي بشكل مباشر عدداً لا يحصى من مرافق الاحتجاز التي استهدفها قانون قيصر نصاً وروحاً على حد سواء. كما أن شبكة الكهرباء السورية، تقوم بتشغيل القواعد الجوية والمروحيات التابعة للحكومة، فضلاً عن منشآت الأسلحة»، الأمر الذي يعني «خرقاً للعقوبات»، ما يعقد تفاصيل الصفقة حتى لو كان ممولها البنك الدولي أو عبر مقايضات عينية، إضافة إلى احتمال مساهمة مؤسسات حكومية سورية مثل شركة النفط المدرجة على قائمة العقوبات.
وبعيداً من ملف العقوبات، يبقى السؤال ما إذا كانت الفوائد التي تجنيها دمشق، مالية كانت أو غير مالية، تأتي ضمن مقايضة لـ«تحفيز النظام» على تقديم تنازلات بينها تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية «عبر الحدود» و«عبر الخطوط» من خلال قرار من مجلس الأمن بموجب تفاهم أميركي – روسي، رعاه مبعوثا الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن في جنيف ويعملان على تمديده في 10 من الشهر المقبل.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”
بواسطة منال صافي | ديسمبر 20, 2021 | العربية, غير مصنف
جمعتني الصدفة منذ بضعة أيام بصديق أيام الدراسة الجامعية وهو في طريقه إلى الإدارة العامة للهجرة والجوازات في دمشق لتجديد جواز سفره، فبادرت بسؤاله: “أين تنوي الرحيل والعالم كله أقفل أبوابه بوجهنا باستثناء الدول الفقيرة والمعدمة؟”. فأجاب وهو مزهو بنفسه: ” لا هناك طريق مضمون إلى أوروبا عن طريق ليبيا. يمكنني السفر عبر “أجنحة الشام ” من مطار دمشق إلى مطار بنغازي ومن هناك إلى طرابلس حيث ينتظرني أحد المهربين وهو سيتكفل بوصولي إلى ليبيا.
تابع صديقي أن صديقا مشتركا بيننا سافر بنفس الطريقة وهو حاليا في ايطاليا سعيدا مع عائلته، وان صديقا أخر سينطلق الأسبوع القادم بنفس الوجهة ، وبحرقة قلب تابع: “أوربا بأسرها لاتعني لي شيئا، ولكن أبحث عن مستقبل يشعر فيه أبنائي بالأمان والحياة الكريمة ففي هذه البلاد يبدو أن الأفق مسدودا على كافة الأصعدة ،والأمور تزداد تعقيدا يوما بعد يوم”.
ودعت صديقي على أمل أن يكون القادم أفضل.
عصة القبر
رغم توقف الحرب في أغلب المناطق السورية، لاتزال غالبية الناس يفكرون بالهجرة بحثا عن ظروف اقتصادية ومعيشية أفضل في ظل انعدام أبسط مقومات الحياة. يختارون ليبيا كجسر عبور إلى أوروبا، ذلك بسبب موقعها الجغرافي وقربها من القارة العجوز، كما شكل الصراع المسلح فيها وغياب القانون وضعف حراسة الشواطىء عامل جذب للمهربين لاستخدامها كنقطة انطلاق.
مصطفى شاب سوري من محافظة درعا وصل ليبيا بداية العام الحالي هربا من الخدمة الإلزامية، لكن لم يحالفه الحظ حتى الآن بالوصول إلى أوروبا. في المرة الأولى، عثر على سمسار للهجرة غير الشرعية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. وعده بضمان الوصول إلى أوروبا، لكن تم اصطياد المركب بمن فيه من قبل خفر السواحل، وتم الإفراج عنه بعد دفعه فدية بقيمة الف دولار اميركي.
رغم ذلك، لم يعلن توبته، بل اتصل بذويه في سوريا، مجددا وطلب منهم بيع السيارة العائدة ملكيتها لوالده ليعيد الكرة، مؤكدا لهم أن المهرب السابق “ابن حرام ” وأنه تعرف على أخر “يخاف الله”.
أما ليلى التي تعيش في ضواحي مدينة دمشق، ودعت أخاها منذ أشهر متوجها إلى أوروبا عبر ليبيا لكن أخباره انقطعت ولا تعلم حتى اللحظة هل هو في عداد الأموات أم الأحياء. تقول والألم بعتصر قلبها: “لا أخ لنا سواه. والدي توفي في الحرب، ووالدتي مريضة قلب، ونحن أربع بنات. بعد تخرجه من الجامعة عمل في إحدى الشركات ولكن الأجور المتدنية في البلاد لاتكفي لسد احتياجاتنا مع الارتفاع المخيف للأسعار، لذلك قرر الهجرة بحثا عن واقع معيشي أفضل له ولعائلته. حاولت الاتصال مع مهاجرين ولاجئين في ليبيا لأعرف عنه شيئا ولكن دون جدوى”.
مهرب 5 نجوم
” أبو بكر”، هو أسم مستعار لسوري الجنسية مقيم في ليبيا يصنف نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي كأحد أبرز المهربين في الساحة الليبية من حيث السعر المقبول وضمانات الوصول. يقول لـ “صالون سوريا”: “أتكفل بالمهاجر من لحظة وصوله لمطار بنغازي حيث يكون بانتظاره سائق ينقله سواء كان وحده أو مع عائلته، إلى طرابلس وعندما يكون الوقت مناسبا سيبحر المركب من مدينة زوارة التي تبعد عن العاصمة طرابلس حوالي 100 كلم ، ثم إلى ايطاليا وتستغرق الرحلة حوالي 12 ساعة في البحر وتكلفة الراكب 2500 دولار”.
لا يخلو حديث ” أبو بكر” من إطلاق تطمينات لجهة أنه لايغامر بالمهاجرين، فهو لن يسير المركب إن كان البحر هائجا حتى لو استدعى الأمر بقاء المهاجرين بضيافته لأشهر في طرابلس، موضحا أن مسافة الخطر تتراوح بين 3 و4 ساعات حيث يتمركز خفر السواحل وبعد اجتيازهم هذه المسافة سيكون المركب بأمان، مؤكدا أنه سيرافق الركاب حتى اجتيازهم منطقة الخطر وبأن في المركب سائقا ماهرا ومعه “جي بي اس ” وجهاز اتصال ثريا.
ومن باب الدعاية أكد أن بضيافته حاليا في طرابلس ثلاث عائلات سورية إضافة إلى شباب وأرامل وأطفال يريدون الهجرة، وهو بانتظار الوقت المناسب للانطلاق بهم. وفي نهاية الحديث أرسل فيديو لمهاجرين ادعى أنهم وصلوا بلد المقصد عن طريقه، مطالبا بحذفه بعد المشاهدة. ولدى السؤال إن كان يقوم بدفع رشاوى لخفر السواحل حتى يغض النظر عن المركب رفض الإجابة، باعتبار أن عمله كمهرب يقتضي السرية التامة حول خطط الهروب.
لا موسم للهجرة حاليا
جهاد البراغيثي، وهو سائق ليبي الجنسية، يقوم في كثير من الأحيان بإيصال قادمين من سوريا إلى طرابلس حيث الوجهة الرئيسية إلى “الفردوس الأوروبي”. يبدي استغرابه عن السبب الذي يدفع السوريين للموت المجاني بالبحار، تاركين حياتهم رهينة لسماسرة ومهربين رغم الكثير من التحذيرات والكوارث التي لحقت بمن سبقهم، مؤكدا انه كل من حاول السفر بشكل غير شرعي، إما لقي حتفه في البحر أو تم احتجازه من قبل خفر السواحل ومنهم من عاد لبلده أو استقر وعمل في ليبيا خاصة أصحاب الحرف والمهن الحرة وان نسبة قليلة ممن حالفهم الحظ ووصلوا إلى الشواطئ الأوروربية.
وأشار البراغيثي الى أن موسم الهجرة ينشط في الصيف وحاليا هناك خطورة كبيرة من البحر. ورغم ذلك يستمر المهربين بنشاطهم الدعائي للهجرة لان مايهمهم هو الحصول على المال غير أبهين بحياة البشر، ملمحا إلى أن من يخدع السوري هو أخوه السوري،ناصحا بأن ليبيا بلد يمكن العمل فيها وتأمين حياة كريمة لعائلة المهاجر دون أن يعرض حياته للمخاطرة فالأجور تتراوح بين 300 و500 دولار للعمال، بينما أصحاب الحرف يتقاضون مبالغ أكبر.
خيبة… ولاتوبة
لايتوقف المغتربون السوريون في ليبيا الذين هم على دراية تامة بخفايا الأمور من إطلاق التحذيرات لكل سوري يفكر بالسفر في رحلات المقامرة ومنهم سعيد درويش وهو صاحب مطعم يعيش منذ فترة طويلة في ليبيا. يقول: “نحن السوريين أصبحنا سلعة للبيع عن طريق سماسرة سوريين يعملون لصالح المهربين. نركب البحر وفي نهاية المطاف يتم تسليمنا لخفر السواحل الذين ينهالون علينا ضربا حتى ندفع لهم المال مقابل الإفراج عنا”. يتابع: “هناك سوريون يعملون بتهريب البشر قاموا بشراء مراكب بقيمة 30 ألف دولار للمركب الواحد وسعته حوالي 500 راكب وعلى سبيل المثال إذا كان المهرب يتقاضى من الراكب 2500 دولار ويعطي للسمسار500 دولار مايعني انه في كل نقلة يربح المهرب (صاحب المركب ) مليون دولار والسمسار250 ألف دولار ، وفي حال كان هناك أكثر من نقلة يقوم المهرب برمي المهاجرين على أقرب شاطئ أو يسلمهم لخفر السواحل بالتواطؤ المسبق بينهما، ويعود ليأخذ النقلة الثانية”، مؤكدا أن المهرب والسمسار لن يتوقفا عن الترويج للهجرة غير الشرعية لأن الأرباح تفوق الخيال، و لتستمر اللعبة يقوم خفر السواحل بغض النظر عن مركب واحد من بين 100 راكب، وعند الوصول إلى الشواطىء الايطالية يصورون الركاب على أنهم سعداء بالوصول والنجاة ويتم بث الفيديو عبر صفحات التواصل الاجتماعي للترويج وتشجيع الناس لارتكاب نفس الحماقة.
إحصاءات القهر
لاتوجد أرقام دقيقة للأعداد الحقيقية للمهاجرين السوريين الذين وصلوا فعليا إلى أوربا عبر ليبيا، غير أن وسائل إعلام تحدثت في أب (اغسطس) الماضي عن سبعة عشر سوريا لقوا حتفهم نتيجة غرق قارب لاجئين في البحر المتوسط أثناء توجهه من شواطئ ليبيا نحو الأراضي الإيطالية، وأن سبب الغرق هو الحمولة الزائدة، حيث كان على متن القارب الذي لا يتجاوز طوله الـ9 أمتار نحو 86 شخصاً لاجئاً ، واعترف المسؤولين عن الحادثة بتقاضيهم مبلغ 5آلاف يورو من كل شخص مقابل نقلهم تهريب من ليبيا إلى إيطاليا.
واستنكر المرصد الأورومتوسطي الممارسات غير الإنسانية التي ترتكبها السلطات الليبية بحق مئات من المهاجرين السوريين المحتجزين في سجونها، وبحسب المرصد، فإنّ قوات خفر السواحل الليبية ألقت القبض خلال الصيف الماضي 800 شاب سوري أثناء محاولتهم الهجرة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط انطلاقًا من الشواطئ الليبية، واقتادتهم إلى أربعة مراكز احتجاز في العاصمة طرابلس. وأشار المرصد أن محتجزين سابقون أبلغوا عن تعرّضهم لمعاملة مهينة شملت الضرب بأنابيب بلاستيكية، وعدم توفير طعام مناسب سواء من حيث الكمية أو الجودة، إضافة إلى توفير مياه غير صالحة للشرب ولمرتين يوميًا فقط. ويضطر المحتجزون لدفع مبالغ مالية تصل إلى أكثر من 1000 دولار أميركي، لقاء إخلاء سبيلهم عبر من يعرفون بـ”السماسرة” الذين يتلقون تلك الأموال باتفاق يبرم بينهم وبين مدراء السجون ومراكز الاحتجاز.
سارعت للاتصال بصديقي الذي تدور برأسه الفكرة، لأحدثه بما جمعته من معلومات حول مخاطر الهجرة إلى “الفردوس الأوروبي” عبر ليبيا، محاولة إقناعه بالعدول عن الفكرة…لعل هناك احتمال مستقبل أفضل في هذه البلاد.
.
بواسطة محمد الواوي | ديسمبر 17, 2021 | العربية, غير مصنف
يبحث أحمد عن منزل للإيجار ضمن الأحياء العشوائية في منطقة “المزة 86” منذ أكثر من عام، لكن محاولاته للحصول على شقة مفروشة وبسعر مناسب باءت بالفشل، بعد أن ارتفعت الإيجار الشهرية بما يفوق قدرته على تحملها، على الرغم أن الشاب ذي السبعة والعشرين ربيعاً يجني “دخلاً جيداً” من عمله في القطاع الخاص.
ويرغب أحمد بهذه المنطقة، كما يذكر لـ”صالون سوريا”، لتمتعها بخدمات أفضل من مناطق الريف الدمشقي نسبياً، بخاصة عدد ساعات التغذية الكهربائية، وقربها جغرافياً من مكان عمله في مركز المدينة.
بعد مرور 10 سنوات على الحرب، قفزت إيجارات المنازل إلى مستو قياسي جديد، في ظل تضخم جامح عام في الأسعار، وتدهور في سعر صرف الليرة السورية أمام سلة العملات الأجنبية وازدياد نسبة الفقر بين المواطنين.
وتضاعفت بدلات الإيجار هذا العام مقارنة بالعام الفائت في المناطق السورية المختلفة، ووصلت إيجارات المنازل في منطقة “الشيخ سعد” بالمزة جنوب دمشق إلى أكثر من 600 ألف ل.س شهرياً (الدولار الاميركي يساوي ثلاثة الاف ليرة)، مع صعوبة في توفر شقق الإيجار نتيجة الاكتظاظ السكاني. وتراوحت البدلات في الأحياء العشوائية لمنطقة المزة ما بين 200 و600 ألف ل.س شهرياً بحسب مساحة المنزل وإكسائه.
وتتفاوت الأسعار بشكل حاد ما بين منطقة وأخرى؛ إذ يقترب بدل الإيجار للشقة المفروشة وذات الإكساء الجيد في المزة – فيلات غربية وفي تنظيم كفرسوسة من حدود 30 و40 مليون ل.س سنوياً.
وفي منطقة جرمانا بريف دمشق -ذات الكثافة السكانية المرتفعة- يبدأ الإيجار من 150 ألف ل.س للشقق غير المفروشة وذات الإكساء البسيط؛ بينما يبلغ إيجار منزل مفروش مؤلف من غرفتين وصالون ما بين 350 و700 ألف ل.س.
وفي عام 2014 فرضت السلطات السورية شرط الموافقة الأمنية المسبقة لإبرام عقود الإيجار، وغالباً ما يستغرق استخراجها وقتاً، وربما تأتي النتيجة بالرفض في حالات كثيرة، إلا أن وزارة الداخلية أصدرت قراراً في عام 2018 تضمن إجراء تعديلات على عقود الإيجار ومنها إلغاء الموافقة الأمنية، على أن يسجل المسـتأجر وصاحب العقار العقد في الوحدة الإدارية المختصة أو في “مركز خدمة المواطن” المخول تسجيل عقود الإيجار.
وصدر في آذار (مارس) الماضي القانون رقم 15 لعام 2021 الخاص بضريبة البيوع العقارية، والتي تُحدَد بمعدل من القيمة الرائجة استناداً إلى الوصف المالي للعقار، وصرّح وزير المالية كنان ياغي لـوكالة الانباء السورية الرسمية (سانا) في وقت سابق أن قانون البيوع العقارية الجديد يهدف إلى تحقيق العدالة ما أمكن بين المكلفين، ومعالجة التهرب الضريبي في مجال بيع وشراء وتأجير العقارات الذي يؤدي الى فوات المنفعة والإيرادات على الخزينة العامة للدولة؛ بينما ربط خبراء اقتصاديون ارتفاع بدلات الإيجار وأسعار العقارات عموماً بالقانون سابق الذكر والضرائب الجديدة الواردة فيه التي لم تكن موجودة سابقاً؛ إذ تضمنت الفقرة ب من المادة 16 الآتي:
ب- استثناء من الأحكام الناظمة لضريبة دخل الأرباح الحقيقية تخضع العقارات السكنية المؤجرة للسوريين وغير السوريين وفق أحكام القانون رقم /10/ لعام 2006 والقانون رقم /20/ لعام 2015 لضريبة دخل بمعدل (5%) خمسة بالمئة من بدل الإيجار السنوي الوارد في عقد الإيجار، على ألا تقل ضريبة الدخل عن /0,0003/ ثلاثة بالعشرة آلاف من القيمة الرائجة للعقار المؤجر، وتزاد القيمة الرائجة للوحدة العقارية السكنية المشار إليها بنسبة (25%) خمسة وعشرين بالمئة في حال تأجيره مفروشاً.
لكن مدير عام “هيئة الضرائب والرسوم” منذر ونوس استبعد في تصريح سابق لصحيفة “الوطن” المحلية، مساهمة الضريبة الجديدة برفع قيم الإيجارات، موضحاً أن معدل الضريبة للعقارات السكنية هي 5 بالمئة من بدل الإيجار السنوي المصرح عنه في العقد، بمعنى أنه في حال كانت أجرة المنزل 100 ألف ليرة سورية شهرياً، فالضريبة على الإيجار هي 5 آلاف ليرة فقط شهرياً تحصل بشكل سنوي، يتحملها المؤجر لكون القانون ألزمه بدفع الضريبة عند تأجير العقار والحصول منه على الإيراد.
وقدّر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث في جلسة لمجلس الأمن الدولي الأربعاء 27 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي أعداد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بأكثر من 90% من إجمالي عدد سكان البلاد، يضطر كثير منهم إلى اتخاذ خيارات صعبة للغاية لتغطية نفقاتهم.
يبدي أحمد تخوفه من ارتفاع تكاليف المعيشة، وبخاصة السكن، بعد أن أصبح استئجار منزل لائق في أحياء العاصمة المنظمة يسيراً لطبقة صغيرة من المواطنين السوريين فقط.
بواسطة حمد المحاميد | ديسمبر 16, 2021 | العربية, مقالات
رغم مرور سنوات على استعادة الحكومة السورية سيطرتها على غوطتي دمشق الشرقية والغربية، فأن المشهد في الغوطتين المعروفتين قبل الأحداث بأنهما جنتان من جنان الأرض لاتساع البساتين الخضراء فيهما وجمال أشجارهما المتنوعة ومياههما الوفيرة، لا يزال كالح السواد من دون ظهور ملامح أي تحسن، إذ تحولت المساحات الخضراء إلى قفار، ومشهد الدمار والركام والبيوت المتهالكة والطرقات السيئة يطغى على مدنهما وسط انعدام شبه تام لأبسط مقومات العيش.
وتمتد الغوطة الغربية من ربوة دمشق غربا وجنوبا وتحيط حيي المزة وكفر سوسة في دمشق ببساط اخضر، وتضم العديد من المدن والبلدات والقرى، أبرزها داريا ومعضمية الشام والكسوة وصحنايا والأشرفية وسبينة ووادي العجم والهيجانة ويمر بها نهر الأعوج، وتشتهر بكافة أشجار الفاكهة والبساتين والمروج وزراعة مختلف أنواع الخضار.
مدينة العنب
وتعد مدينة داريا أكبر مدن الغوطة الغربية وعرفت خلال الأحداث بـ«أيقونة الثورة»، وتقع على بعد 8 كلم جنوب العاصمة دمشق، وتبلغ مساحتها 120 كلم مربع، وكان معظم سكانها يعملون بالزراعة، وأطلق عليها كثيرون «مدينة العنب» لشهرتها بزراعة جميع أنواعه، وتعرف أيضا بـ«مدينة المتنزهات»، وقد استعاد الجيش النظامي السيطرة عليها في آب (أغسطس) 2016، بعدما سيطرت فصائل المعارضة المسلحة عليها لنحو أربع سنوات، وذلك اثر حملة عسكرية مسعورة شنها ضدها أسفرت عن تهجير نحو ألفي شخص من مقاتلي المعارضة وعائلاتهم نحو الشمال السوري، ومقتل 2712 شخصاً، بحسب فريق التوثيق في داريا، إضافة إلى دمار نسبة كبيرة من المباني السكنية والبنى التحيتية والمزارع والمنتزهات والمعامل.
وبخلاف ما تقوله الحكومة منذ زمن بعيد بعودة الحياة الطبيعية إلى مناطق المدينة كافة، فإن المشهد على أرض الواقع في داخلها يؤكد عكس ما تروجه الحكومة، إذ لا تزال أكوام الركام موجودة على جانبي طريق مدخلها الشمالي على أوتوستراد المتحلق الجنوبي وأغلب المباني على الجانبين مدمرة ومجرف الكثير منها، وحركة السيارات والمارة ضعيفة.
المشهد في مدخل المدينة الشرقي المتفرع عن أوتوستراد دمشق – عمان الدولية يبدو أفضل قليلا عما هو عليه في المدخل الشمالي، إذ أن هناك حركة أكثر للسيارات والمارة في بداية الطريق المؤدية إلى وسط المدينة ويصل طولها ما بين 3 و4 كيلومترات وتتموضع عليها حواجز عدة للجيش والقوى الأمنية.
وتشاهد في هذه المنطقة الممتدة من بداية الطريق وحتى منتصفها تقريباً عدد من المحال التجارية وقد عاودت نشاطها، مع وجود حركة للمارة وإن كانت خجولة، كما يلاحظ أن معظم الأبنية سليمة ومأهولة وقد طال الدمار عدد قليل منها، على حين لا تزال معظم المنتزهات ومزارع العنب والفواكه الأخرى التي كانت موجودة على جانبي الطريق خلف المحال التجارية والأبنية، غارقة بالدمار، بينما يقتصر مشهد الخَضار على بقع صغيرة للغاية مزروعة ببعض الخضراوات، بعد أن كانت المنطقة يضرب بها المثل كمنطقة للتنزه ويؤمها الآلاف، خصوصاً في أيام العطل الرسمية للترويح عن النفس، بسبب جمال مزارعها ومتنزهاتها.
في وسط المدينة عند “دوار الباسل”، حيث نصبت عناصر الجيش النظامي حاجزاً ضخماً، وتتفرع منه طرقات رئيسية تؤدي إلى أحياء عدة في المدينة، منها النكاشات والشاميات وشريدي، يبدو حجم الدمار أقل من الموجود في طريق المدخل الشمالي، وكثير من الأبنية الطابقية لا تزال قائمة، لكنها أُعيدت إلى ما قبل مرحلة الإكساء (على العظم) من جراء عمليات النهب و«التعفيش»، مع وجود شقق مسكونة في عدد من الأبنية، لكنها قليلة جداً؛ الأمر الذي دل عليه رؤية ملابس منشورة على بعض الشرفات.
وتبدو حركة المارة في شوارع المنطقة التي تم فتحها بشكل جزئي ضعيفة، وتقتصر على عدد قليل من الشباب وكبار السن من الرجال والنساء، ويقول رجل خمسيني لـ”صالون سوريا” بحذر وهو يسير في الطريق بسبب انتشار العناصر الأمنية والمخبرين: «العيشة هون صعبة جدا. لأنو مافي كهربا ولا مي ولا سرافيس ولا تلفونات ولا تغطية موبايل، ويلي بصعّب العيشة أكثر أنو مافي ناس»، ويلفت إلى أن عائلات كثيرة عادت إلى بيوتها عندما سمحت الحكومة بذلك ولكن معظم تلك العائلات «هربت لأنو ما بينعاش هون، وبقيت بعض العائلات وعائلتي منها، لأننا ما بنقدر ندفع ايجارات». ويشير إلى معاناة مريرة للكثير من العائلات عندما تريد الذهاب إلى مدينة دمشق بسبب عدم وجود وسائل نقل عامة، ويضيف «الواحد لما بدوا يروح بيهكل هم من قبل بنهار وبالزور بدبر حالوا مع سيارة طالعة أو سوزوكي أو ميتور (دراجة نارية) ».
وبعدما كانت المنطقة قبل اندلاع الأحداث مركزاً تجارياً كبيراً، تبدو الحركة التجارية فيها شبه معدومة؛ فمعظم المحال التجارية (الأثاث المنزلي، العصرونيات، المأكولات الجاهزة، والعصائر والسوبر ماركات..) دمرت واجهاتها ونهبت محتوياتها، على حين عدد قليل منها لا يزال مغلقا، بينما أقدم بعض أصحاب السوبر ماركات وهم يعدون على أصابع اليد على ترميم محالهم وإعادة افتتاحها.
ويؤكد أحد أصحاب المحال المغلقة لـ«صالون سوريا»، أنه لا يفكر نهائيا بالعودة وإعادة افتتاح محله، ويقول، «طالما ما في ناس بالبلد، لماذا أعود؟، لمن سأبيع البضاعة؟، هل اتركها واتفرج عليها»؟، ويضيف «العودة ستكون كلها خسارة بخسارة، وكل من عادوا وافتتحوا محالهم يؤكدون أنهم ما بيطلعوا باليوم حق غدا العيلة. هذا إذا ما كانوا عم يخسروا لأنو الألبان والأجبان وكثير من المواد بدها تبريد وما في كهربا، وأكيد عم يخرب كتير منها وبيكبوها».
في منطقة أحياء الخليج شمال غرب درايا والتي كانت تشتهر بمزارعها الجميلة، وخصوصاً منها العنب، لا يزال الدمار يطغى عليها وهي خالية من البشر والشجر، وسط معلومات من كثير ممن كانوا يسكنون فيها، بأن السلطات تمنع منعاً باتاً الأهالي من العودة إليها، ولا حتى زيارتها للاطلاع على ما آلت إليه أوضاع منازلهم وأراضيهم الزراعية.
رئة دمشق
لا يختلف المشهد كثيرا في الغوطة الشرقية التي كانت قبل الحرب رئة دمشق و”متنزه” الدمشقيين والسوريين عموما وتقدر مساحتها بنحو 110كم مربع، وتمتد نحو الشرق والجنوب محيطة مدينة دمشق ببساط أخضر وتشتهر بكثافة أشجار الفواكه وتنوعها وزراعة مختلف أنواع الخضروات.
وتضم الغوطة الشرقية التي استعاد الجيش النظامي السيطرة عليها في عام 2018 بعد حملة عسكرية خلفت مئات القتلى ودمار وتهجير معظم سكانها الذين كان عددهم قبل الحرب أكثر من مليوني نسمة، العديد من المدن والبلدات والقرى منها دوما التي تعد مركزها الرئيسي، وعربين وسقبا وزملكا وجرمانا والمليحة وعقربا وحزّة وكفربطنا.
التطبيل والتزمير منذ زمن بعيد من قبل الحكومة بعودة الأهالي إلى مدن وبلدات وقرى الغوطة الشرقية، وأنها تعمل على إعادة الخدمات الأساسية إليها، ينفيه حديث كثيرون من أهالي المنطقة، ويقول احدهم لـ«صالون سوريا»، إن «كل ما تقوله الحكومة غير موجود على الأرض. الدمار والركام مازال موجودا في معظم المناطق، والناس الموجودة، منهم لم يخرجوا من بيوتهم أصلا، وهناك من عاد ليستر نفسه في ظل الغلاء الكبير، ولكن عدد من عادوا ليس كما تزعم الحكومة بأنه كبير». ويضيف «الناس الموجودة في الغوطة تعيش في بيوت متداعية، وما تم فتحه من طرقات في أغلبه جرى بجهود الأهالي على نفقتهم، وشبكات المياه والصرف الصحي لم يجر إصلاحها والكهرباء معدومة فكل يوم نراها ساعة أو نص ساعة وأغلب الأيام نراها ساعة كل يومين أو ثلاثة، والناس عايفة حالا فهي ما بتقدر تشترك بالمولدات الضخمة، ومع انعدام الكهرباء تنعدم المياه وخليها لله».
مواطن أخر من مناطق الغوطة الشرقية، وبعدما يؤكد لـ«صالون سوريا»، أن الناس أُصيبت بعقدة نفسية من جراء الانقطاع المتواصل للكهرباء وعدم توفر الماء والمواصلات، يقول، «بعد المغرب كثيرون لا يجرؤون على الخروج من منازلهم، فقد يقتل المرء ولا أحد يدري به مع تزايد عصابات السرقة والنهب وذلك يحصل رغم الانتشار الكبير لحواجز الجيش والأمن وعناصرهما في معظم المناطق»، بينما تتحسر سيدة من أهالي الغوطة الشرقية في حديثها لـ«صالون سوريا» على «أيام زمان (قبل الحرب) لما كانت الغوطة تعج بالناس من كل سوريا لتروّح عن نفسها بين البساتين وبين الشجر وجنب المي، أما اليوم يا حسرتي تعا شوف لا ظل بساتين ولا ظل شجر ولا ظل مي. كلو راح بالحرب».
وبينما يؤكد كثير من أهالي الغوطة الشرقية الذين يأتون إلى دمشق أنهم يجبرون على دفع إتاوات عند خروجهم وحين عودتهم، يتحدث بعضهم عن استيلاء على منازل كثير من المهجرين .