نساء دمشق يهربن الى حمام السوق

نساء دمشق يهربن الى حمام السوق

تقطع سهيلة مسافة 38 كيلومترا في الباص كي “تظفر” بحمام ساخن “خرافي” حسب وصفها. فالسيدة الأربعينية كانت تكتفي خلال الشهرين الماضيين بسكب بضع طاسات من مياه فاترة تُسخنها على عجل. تقول لـ “صالون سوريا” :”لا نرى الكهرباء إلا ساعتين خلال اليوم، لا تكفي لتسخين المياه، ترانا نهرول في أرجاء المنزل لإنجاز الأعمال المرتبطة بالكهرباء كشحن الهواتف الذكية والبطارية والغسالة والبراد. أما الحمام، فأصبح عند الضرورة القصوى”، تتابع: “جئت إلى هنا كي أنظف جسدي جيدا، وأزيل الأوساخ المتراكمة عليه، التكييس والتلييف هنا ممتاز، قضيت ساعة ونصف في الحمام تحت المياه الساخنة، لم أحظى بهكذا حمام منذ أشهر طويلة”.

برد في جسدي
أما ضحى، فتنتظر بفارغ الصبر حلول فصل الصيف، إذ باتت الشابة الجامعية تنفق معظم مصروفها الشخصي على أجور دخولية حمام السوق. تقول لـ “صالون سوريا” :”لا توجد أي وسيلة في بيتنا لتسخين المياه، الكهرباء مقطوعة والمازوت إما مفقود أو غالي الثمن، آتي إلى هنا كل أسبوع تقريباً، تكلفني حوالي 9 آلاف ليرة سورية كل مرة، لينتهي الشتاء بسرعة، في الصيف ندبر أمورنا ونستحم بماء فاتر”.
وتنتهز أم خالد فرصة زيارتها لمنزل أهلها الواقع في الشام القديمة لقصد حمامات السوق، فالاشتراك بنظام الأمبيرات في بيتها في عين ترما (ريف دمشق) لا يكفي لإزالة الانتفاخ في قدميها المتشكل بفعل البرد. تروي لـ “صالون سوريا”:” نكاد لا نرى الكهرباء، اشتركنا بنظام الأمبير لكنها مكلفة جدا، ندفع 2500 للكيلو الواحد، أي حوالي 100 ألاف شهريا، تصلح لإشعال التلفاز وأضواء الإنارة، أما الحمام فنخصص له يوم الخميس، ونستعين بكيسين حطب وجفت الزيتون التي يصل سعرهما إلى 25 ألف ليرة، بينما نستخدم مياه الآبار لغسيل الملابس وأعمال التنظيف الأخرى”، تتابع حديثها “تورمت قدماي ولم أعد أستطيع المشي عليهما، توجهت إلى الطبيب الذي عزا السبب بوجود كميات كبيرة من البرد مخزنة في جسدي لتستقر في ساقاي، ونصحني بمغطس ساخن جداً ومساج لإخراجهما من جسدي”.
وفتح باب حمام السوق ذراعيه لخلود بعد أن كان مغلقاً بسبب أعمال الصيانة، فقد مضى شهر كامل على آخر حمام حظيت به. فالمرأة كانت تتبع طريقة التيمم بالكحول مستخدمة الفوط والماء الفاتر لتنظيف جسدها. تقول ضاحكة مع نبرة لا تخلو من التهكم على الواقع الذي تعيشه: “صار لي شهر مو متحممة، منيح زوجي مسافر، لكان طلقني، عم اتحمم بالكحول، بحط كمية على منشفة ومي فاترة وبمسح جسمي، وبغسل تيابي بمي باردة أو فاترة حسب جية الكهرباء”.

بالرغم من أن أزمة الكهرباء والمياه توحد مصاب السوريين، لكن دائما ما تكون هذه المصائب ذا فائدة عند بعض المستفادين، فخلال الشهرين الماضيين ازدهرت حركة حمام السوق وازداد عدد زواره. تقول مديرة أحد حمامات دمشق القديمة فضلت عدم الكشف عن اسمها :”تسببت أزمة انقطاع المياه والكهرباء والمازوت في الآونة الأخيرة بازدياد مريدي حمام السوق، خاصة في أيام العطل، حيث يأتينا يومياً ما لا يقل عن45 زبونة من مختلف المناطق وأحياناً ضيوف من بقية المحافظات جاؤوا لزيارة أقاربهم في العاصمة. جميعهم يشتكون من قلة المياه وانعدام الكهرباء جاؤوا التماساً للدفء والنظافة والراحة”، تتابع كلامها “الناس مستعدة لقطع كيلومترات طويلة لتحظى بحمام هانئ وقد تتغاطى عن الأجرة التي تصل إلى8آلاف ونصف، بالنهاية الناس بدا تتحمم وتنظف حالها إذا ماعندا مي”.
جاءت تاليا إلى حمام السوق برفقة صديقاتها اللواتي اصطحبن الشابة القادمة من اللاذقية في زيارة إلى العاصمة، بعد أن اكتشفت أن وضع الكهرباء ليس بأفضل من مدينتها. تقول لـ “صالون سوريا”: “جئت إلى الشام في إجازة لمدة أسبوع، تمت استضافتي من صديقاتي في منزلهن بباب شرقي، لكن لا كهرباء هنا، فقررنا الاستحمام لأن لا سبيل لتسخين المياه”، فيما تأتي الشقيقتان لجين ورشا، مرة أسبوعياً إلى حمام السوق للاستحمام أولاً، ولتوفير كلفة تعبئة خزان مياه منزلهن ثانياً. تقول احداهن لـ “صالون سوريا” :” مياه مدينة جرمانا مرتبطة بالمضخات المرتبطة بدورها بالتيار الكهربائي، وكنتيجة حتمية تظل المياه مقطوعة طالما الكهرباء مقطوعة، ندفع 35 ألف ليرة مقابل تعبئة 5 براميل، تكفي فقط للغسيل والجلي والطبخ، أما الاستحمام فيجب الانتظار حتى ساعات الليل المتأخرة إذا ما حالفنا الحظ بالكهرباء”، تختمان كلامهما باستهجان:” لم يبق سوى الأكسجين لم ندفع ثمنه”.
في المقابل، قررت “أم عدنان” إحضار ابنتها إلى حمام السوق تجنباً لوقوع مشاجرات مع كنتها التي أصبحت تتزايد في الفترة الأخيرة، تقول:” لا تكف زوجة ابني عن الشجار والتلاسن مع ابنتي على خلفية من سيستحم أولاً ، ليتحول المنزل إلى ساحة معركة طاحنة عن استحقاقية الدخول أولا إلى الحمام، ويبدأن بالصراخ والاتهامات المتبادلة بالتسبب ببرودة المياه”.

“حبة بركة” على سفوح قاسيون

“حبة بركة” على سفوح قاسيون

بقع مبعثرة من ضوء الشمس، تغطي أحجار اللبون العتيقة على امتداد شارع يفيض عن رواده، وتزاحمهم “بسطاته” على خطواتهم، حيث لا بد للعابر فيه من أن يجتاز مسالك صعبة، حفرتها أقدام المارة وعربات الباعة.
من جامع الركنية إلى جادة العفيف، يمتد سوق “الشيخ محيي الدين” على سفح قاسيون في قلب دمشق، مذ أنشئ في القرن التاسع عشر حين كانت البضائع تفترش الأرض أيام الجمع فقط، لبيعها للمصلين الخارجين من الجوامع ولشهرته ورخص أسعاره تحول إلى سوق دائم وإن حافظ على اسمه “سوق الجمعة”.
تتباين الروايات حول أصل تسمية السوق، فالبعض ينسب التسمية لشيخ الصوفية محيي الدين بن عربي، فيما ينسبه آخرون للقاضي محي الدين بن زكي الدمشقي. وبين بن عربي وبن زكي، يترنح الفقراء على جدران الجوامع الممتدة على طول السوق بانتظار “رزقتهم” من النذور والحسنات.
يطلق على السوق أيضاً اسم “سوق البركة” نسبة إلى الزيادة الطفيفة التي كان بائعو السوق يضيفونها على الميزان ويقولون للزبون هذه “حبة بركة”، وهذه الغرامات القليلة الزائدة التي يضيفونها على كفة الميزان كانت تسعد الزبون وتشعره بالثقة بهذا السوق، كما أسماه البعض سوق “النواعير” نسبة إلى “الناعورة” الأثرية القديمة المقامة على نهر “يزيد”، وهي الأولى التي صممت للاستفادة منها في توليد الطاقة.
يستقبل السوق رواده – باختلاف طبقاتهم الاجتماعية – بمحلات الألبسة النسائية التي عرفت قبل الحرب باسم محلات الـ 350 ليرة سورية، حيث كانت تباع أي قطعة فيها بسعر 350 ليرة، ثم تليها محلات بيع الأدوات الكهربائية التي قد تدفع المارة للارتياب بسبب تزاحمها بمحاذاة بعضها دون تأثر أي منها “برزقة الآخر”.
وبين ازدحام المارة، تتنافس بسطات الخضار والفواكه الطازجة مع كل من “التكية السليمية”، “البيمارستان القيمري” و”المدرسة العمرية” على استحواذ اهتمام رواد السوق، دون أن تقلل أي منها أهمية الأخرى.
تمتزد المشربيات البديعة المطلة على الشارع مع صوت الآذان المنبعث من جامع “عبد الغني النابلسي”، فيما تحاذيه حوالي 300 مدرسة تؤرخ للعصرين الأيوبي والمملوكي، ومن أهم الأوابد الأثرية في السوق جامع “الحنابلة” الذي يعود تاريخ بنائه إلى العام 598 هجري، ويعد الجامع الأقدم بعد المسجد الأموي، إلى جانب “التكايا” التي أقيمت في العصر الأيوبي، وعدد من البيوت القديمة المتميزة بطرازها العتيق.
ومن خمسينيات القرن الماضي حتى الآن، لا يمكن للمارة تجنب رائحة الفول والحمص التي يعبق بها السوق من محل “بوز الجدي” المتخصص ببيع الفول والحمص، والذي استبدلت طاولته الرخامية الزرقاء اليوم أطباق الحمص المسلوق وبخار أواني الفول الممزوج برائحة الطحينة والمخلل، بطباخ كهربائي لا ينال من الحظ والكهرباء ما يكفي لإعداد طبق “مسبّحة”!
تتداخل متاجر الملبوسات النسيجية والجاهزة والداخلية والنسائية وألبسة الأطفال ومحلات الأحذية والقرطاسية والسلع الاستهلاكية بكافة أنواعها مع محلات البن والمكسرات والعطارة والبهارات ومحلات الأدوات المنزلية والصمديات، لتشكل مزيجاً ساحراً مع المحال القديمة للحرف التي شبه اندثرت مثل “المبيض” الذي يقوم بتبييض الطناجر النحاسية، و”البوابيري” مصلح بوابير الكاز، والقباقيبي من يصنع القباقيب الخشبية ويصلحها.
هنا يعم ما تبقى من البركة على الجميع، بدءاً من قطط الشوارع التي لا يهشّها أحد عن محلات القصابين، إلى أطباق “الحبوب” من القمح المطبوخ التي توزع على الجوعى من العابرين، وليس انتهاءً بمناهل مياه السبيل التي يروى المارة عطشهم بها.
وإذا أتيحت الفرصة للمرء بأن يمعن النظر في الوجوه بين الزحام، سيشهد في هذا المكان ولادة الأشياء: خيوط الصباح الأولى، الأحرف الأولى لصوت الآذان، براعم الخضار والفواكه على البسطات، بسمات تعلو وجوه الأطفال، والبركة!

سوريا الجديدة و «تجربة» كوريا الشمالية

سوريا الجديدة و «تجربة» كوريا الشمالية

سفير كوريا الشمالية في دمشق مون جونغ نام، زار وزيراً في الحكومة السورية، كي يشرح له «تجربة جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية في تجاوز الحصار المفروض عليها وترقية معيشة الشعب الكوري في ظل الضغوطات» الغربية على بيونغ يانغ، حسب ما جاء في بيان رسمي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن فعلاً أن تنسخ دمشق، الخاضعة لـعقوبات غربية، تجربة بيونغ يانغ في مواجهة «الحصار»؟
الجواب المباشر والفوري: لا، لأسباب كثيرة.
بداية، لا بد من الإشارة إلى المفارقة المتمثلة في أن «عرض» سفير كوريا الشمالية، لم يقدم إلى وزير يمثل حزب «البعث» الذي يريد تعميم تجربة الحزب في «الأمة العربية» أو وزير شيوعي سواء كان صيني الهوى أو سوفياتي المرجعية، بل إلى وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم، العائد من الولايات المتحدة إلى سوريا، مبشراً بنقل «التجربة الليبرالية» الأميركية و«مشروع الإصلاح» إلى سوريا، سياسياً وتقنياً واقتصادياً.
سالم، حسب السيرة الذاتية المعروفة والموثقة في موقع الوزارة، درس في سويسرا، وليس في جامعات الكتلة الشرقية «السوفياتية». ثم عاد إلى دمشق مديراً عاماً لـ«مركز آبل للكومبيوتر» وليس قيادياً حزبيا. ساهم مع باسل الأسد في تأسيس «الجمعية المعلوماتية» وليس توسيع الحلقات «البعثية»، قبل سفره إلى الولايات المتحدة للعمل في مقر شركة «مايكروسوفت». عاد ثانية إلى سوريا، وقدم نفسه على أنه كان «مستشاراً لبيل غيتس» وبات مستشاراً في القصر الرئاسي ومقرباً من الرئيس بشار الأسد، ثم عمل وزيراً للاتصالات في 2006.
في ضوء هذه «السيرة»، يمكن قراءة مدى جدية «ترحيب» الوزير سالم بـ«مبادرة السفير الكوري بدمشق لتقديم نتائج التجربة الكورية والتي حسنت الواقع المعيشي في كوريا، وعرض تبادل الخبرات بين البلدين»، إذ أنه كان بين مستشارين كثر قدموا قبل سنوات للقصر سلسلة أفكار ومبادرات للتخلص من آثار «الكورنة الشمالية» في «النظام السوري». بل كان من المبشرين والمرحبين بالإقلاع عن «إشارات شمولية» تخلت عنها دمشق قبل عقدين، مثل خلع لباس «الكاكي» من المدارس الأولية، وإخراج «العسكرة» ونظام التدريب العسكري من المدارس العليا والجامعات، خصوصاً أنه سليل أسرة دمشقية كانت فخورة بأنها أرسلت خبراء نسيج إلى كوريا في بداية عقد الخمسينات، كي تنقل تجربتها الاقتصادية إلى آسيا.
تلك «الإشارات الشمولية» يعتقد إلى حد كبير أن الرئيس حافظ الأسد استوحى جوهرها قبل عقود متأثراً من تجربة يونغ يانغ، في عهد «القائد المؤسس» كيم إل سونغ الذي عرف أيضاً بـ«القائد العزيز»، وورثه ابنه كيم جونغ حتى 2011، ليخلفه كيم جونغ أون الزعيم الحالي. ومشياً على التجربة الكورية، سمي الرئيس حافظ الأسد في الخطاب الرسمي بـ«القائد المؤسس» بدلاً من «القائد الخالد».
خلال عقد خلع «الكاكي» الكوري واختبار العلاقات مع أوروبا وأميركا، ابتعدت دمشق عن بيونغ يانغ في بداية الألفية. لكن سرعان ما عادت الحرارة، العسكرية والسياسية والأمنية، إلى العلاقة بين الرئيسين بشار الأسد وكيم جونغ أون، إلى حد أنهما تبادلا في العام الماضي 12 رسالة، كان بينها «تهنئة» من الرئيس الكوري الشمالي بعد الانتخابات الرئاسية في منتصف 2021، بعدما رفعت في إحدى ساحات دمشق حديقة ورود تكريما لـ«القائد الكبير» الحاكم في بيونغ يانغ. كما استقبل الأسد مرات، مبعوث الزعيم الكوري، وزير الخارجية ري يونغ هو.
لعل الشيء الجامع حالياً بين البلدين هو العقوبات. لكن واقع سوريا مختلف كلياً عن كوريا الشمالية المحكومة بنظام شمولي حديدي القبضة والأيديولوجيا يبسط سلطته على حصته من شبه الجزيرة الكورية من هدنة الخمسينات، فيما باتت الجغرافيا السورية مقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ تنتشر على أرضها خمسة جيوش أجنبية وتتجاور في مساحاتها القواعد العسكرية للحلفاء والأعداء، وتزدحم في سمائها طائرات دول أجنبية عديدة بدعوة من «الحكومة الشرعية» أو دونها، إضافة إلى مشكلات النزوح واللجوء والفقر والفساد وأثرياء الحرب وفقدان العصب الأيديولوجي.
هناك تأثيرات كثيرة تركتها كوريا الشمالية في هيكلية النظام السياسي و«الحلقة الضيقة» والتجارب العسكرية في سوريا. لكن لا يمكن القول أن «النظام السوري» هو نسخة طبق الأصل عن كوريا الشمالية، من حيث الإمكانات الاقتصادية والانسجام الهيكلي والعصبية الشخصية والتنظيم الحزبي وحصص الأكسجين، والمحيط الإقليمي.
عليه، يغدو الحديث عن نسخ «نموذج كوريا الشمالية» غير جدي، كما هو الحال – عدم الجدية – في بداية الألفية لدى كثرة الحديث عن نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» ونقل «التجربة الصينية»، التي أقرت في المؤتمر العام لـ«البعث». وقتذاك، كان لزاماً انتظار مرور بضع سنوات ليقتنع مستشارون وصناع قرار بأن سوريا ليست الصين، لا بنظامها السياسي ولا قدراتها الاقتصادية ولا إطارها الجيوسياسي… ولا حجمها. ينطبق الأمر ذاته، لدى ارتفاع أصوات تقول بإمكان نسخ «التجربة الكوبية» أو «التجربة الإيرانية».
واقع الحال أن سوريا الجديدة، خلطة تحتوي تطعيمات من نماذج كثيرة. في مكان ما، لم يتغير أي شيء في الهيكلية وآلية القرار. وفي مساحات أخرى، تغير الكثير وتقلصت مساحات وتآكلت أخرى. فغدت «التجربة السورية»، فريدة وعصية على التقليد أو النسخ من تجارب أخرى.

قوات بيلاروسية الى سوريا بقرار روسي

قوات بيلاروسية الى سوريا بقرار روسي

كشفت الحكومة الروسية أمس، عن وضع مشروع اتفاقية تنظم إرسال قوات بيلاروسية إلى سوريا، وكلف رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين وزارتي الدفاع والخارجية الروسية بالتفاوض والتوقيع على الاتفاقية مع الجانب البيلاروسي.
وتم نشر مشروع الاتفاقية الموقع في 3 فبراير (شباط) على المنصة الإلكترونية للحكومة الروسية أمس، لكن اللافت في الوثيقة أنها استندت إلى اتفاقات ثنائية موقعة بين موسكو ومينسك، بينما لم تشر إلى موقف سوريا من إرسال قوات إلى أراضيها، إلا عبر إشارة واهية عن أن «دمشق طلبت في وقت سابق انخراط قوات بيلاروسية في مهام إنسانية».
ويفتح هذا على سؤال حول مدى قانونية توقيع اتفاقية روسية بيلاروسية لإرسال قوات إلى بلد ثالث، علماً بأن الاتفاقية التي تنظم وجود القوات الروسية في سوريا والتي أبرمت في نهاية أغسطس (آب) 2015 لم تتضمن بنداً يمنح موسكو الحق في زج قوات أجنبية، فضلاً عن غرابة الموقف لأن موسكو التي تطالب بإلحاح في الفترة الأخيرة بانسحاب القوات الأجنبية من سوريا، تعمل من جانب آخر على زج قوات جارتها المقربة في الصراع السوري.
وبدا أن توقيت وشكل الاتفاقية يعكس مجدداً مساعي لربط المواجهة الروسية مع الغرب، مع الوضع في سوريا، خصوصاً أن بيلاروسيا تقف إلى جانب موسكو عسكرياً في الاستعداد لـ«مواجهة تحديات جديدة».
ورغم أن الاتفاقية بنسختها الأولى، نصت على إرسال 200 عسكري فقط، لكن هذا العدد يمكن زيادته وفقاً لأحد بنود الاتفاقية باتفاق الطرفين، فضلاً عن أن الأهم بالنسبة إلى موسكو ليس العدد بل رمزية «وجود الحلفاء إلى جانبها في سوريا».
لكن اللافت أن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو سعى أمس، إلى التقليل من أهمية التطور من خلال نفي صحة المعلومات عن نيته إرسال قوات إلى سوريا، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام تطور مماثل محتمل، إذ قال إن القيادة السورية طلبت منه سابقاً إرسال طواقم طبية تابعة للجيش، مشيراً إلى استعداده لتلبية الطلب «عندما تنتهي الظروف الوبائية الحالية». وهنا نص الاتفاق، حسب ترجمة «الشرق الأوسط» من اللغة الروسية:

اتفاقية
بين حكومتي روسيا الاتحادية وجمهورية بيلاروسيا
حول التعاون في مجال تقديم المساعدات الإنسانية في الجمهورية العربية السورية
بالاستناد إلى مبادئ القانون الدولي، والاتفاقات الدولية وقوانين البلدين ومعاهدة الصداقة بين روسيا وبيلاروسيا الموقعة عام 1995 واتفاق التعاون العسكري الموقع في 1997 واتفاق تأسيس دولة الاتحاد المبرم في 1999، ومع الأخذ في الاعتبار أن الجمهورية العربية السورية، كانت قد طلبت من القيادة البيلاروسية إرسال قوات عسكرية بيلاروسية إلى سوريا للمشاركة في مهام إنسانية، فإن الطرفين اتفقا على التالي:
المادة الأولى:

  • الاتفاقية الحالية تنظم المسائل المتعلقة بإرسال وحدات من القوات العسكرية البيلاروسية للعمل إلى جانب القوات الروسية لتحقيق المهام المتعلقة بتقديم المساعدات الإنسانية على أراضي الجمهورية العربية السورية.
  • القوات العسكرية البيلاروسية تنخرط في تنفيذ مهام إنسانية فقط بعيداً عن مناطق العمليات القتالية.
  • خلال وجودها في سوريا تتمركز القوات البيلاروسية في أماكن انتشار القوات الجوية الروسية.
    المادة الثانية:
    المفاهيم الأساسية المستخدمة لتنفيذ الاتفاقية:
  • القوات العسكرية البيلاروسية: وحدات عسكرية وخبراء ومستشارون من مواطني جمهورية بيلاروسيا يشاركون في عمليات إنسانية في سوريا.
  • النشاط العسكري السياسي: رزمة من المهام المتفق عليها، والمرتبطة في أهدافها، وتشمل كل التحركات والخدمات الموجهة لرعاية القوات البيلاروسية خلال عملها في سوريا وضمان أداء رفيع مستوى وحماية كاملة.
  • الأسلحة والتقنيات القتالية والذخائر: مجموعة من الطرازات المختلفة من الأسلحة والمعدات ووسائل استخدام التقنيات القتالية والذخائر وغيرها من الأدوات التقنية المستخدمة لتسليح القوات البيلاروسية وأداء مهامها.
  • الوسائط المادية: المواد والمستلزمات الضرورية لعمل القوات البيلاروسية ويدخل فيها الوقود والمواد الغذائية والمتعلقات الشخصية اللازمة للعسكريين، وأيضاً كل المتعلقات الأخرى المطلوبة لتنفيذ مهامهم.
  • الخدمات الطبية: رزمة الإجراءات والخدمات الموجهة لضمان حصول الوحدات البيلاروسية على رعاية طبية كاملة.
  • المنشآت المخصصة للاستخدام المشترك: أماكن الإقامة والتمركز والانتشار ونقاط إدارة القوات ومراكز الدفاع الجوي والمطارات وميادين التدريب وكل المنشآت الأخرى التي تستخدمها القوات الجوية السورية وتتمركز فيها.
  • القوات الجوية الروسية: تشمل التشكيلات العسكرية الروسية والأسلحة والمعدات والتقنيات المختلفة والمنشآت التي تستخدمها ومرافق الحياة المختلفة بما فيها على صعيد الترفيه، والاحتياطات المادية من المستلزمات الضرورية.
  • الخدمات التقنية: كل الخدمات الموجهة إلى تعزيز ودعم القدرات القتالية للقوات وطرازات الأسلحة والمعدات الأخرى. ورزمة التدابير الأخرى الموجهة لضمان عمل القوات مثل وسائط النقل وتلبية الحاجات الأخرى الضرورية.
    المادة الثالثة:
  • الطرفان صاحبا التفويض الحكومي في تنفيذ هذه الاتفاقية هما:
    وزارة الدفاع في روسيا الاتحادية.
    وزارة الدفاع في جمهورية بيلاروسيا.
  • يقوم الطرف الذي يجري أي تغيير في الجهة صاحبة التفويض في تنفيذ الاتفاقية بإبلاغ الطرف الثاني خطياً.
  • الطرفان صاحبا التفويض يقرران آليات التعاون بين قوات البلدين في سوريا.
    المادة الرابعة:
  • لتنفيذ نشاطها في أداء المهام الإنسانية في سوريا ترسل بيلاروسيا وحدة عسكرية مكونة من 200 شخص.
  • تحديد تعداد القوات العاملة في سوريا وهيكلها ومهامها، يتم إقراره من جانب الجهة صاحبة التفويض في جمهورية بيلاروسيا.
  • خلال وجود القوات البيلاروسية في سوريا تخضع ميدانياً لإمرة المركز الروسي للمصالحة بين الأطراف المتحاربة، مع بقائها تحت أمرة الجهة البيلاروسية صاحبة التفويض.
  • تنسحب على القوات البيلاروسية، القيود والتدابير المفروضة على القوات الروسية العاملة في سوريا، لجهة عدم إدخال أو إخراج معدات أو وسائل اتصال أو تقنيات أو ذخائر أو معدات أخرى، فضلاً عن عدم تداول أي من الصور أو مقاطع الفيديو أو البرامج الرقمية القادرة على تحديد المواقع.
    المادة الخامسة:
  • تتحمل روسيا كافة نفقات القوات البيلاروسية من دون مقابل، وتلتزم بتقديم وسائل المعيشة والغذاء والخدمات الطبية والمتطلبات الأخرى المرتبطة بوجود القوات وعملها بما في ذلك مسائل الترجمة إلى العربية، وكذلك ضمان حصول القوات البيلاروسية على المعلومات حول الوضع العسكري والسياسي العام في سوريا والوضع الميداني في مناطق تأدية المهام.
  • كما تقدم روسيا من دون مقابل كل وسائل النقل والخدمات اللوجيستية الأخرى.
  • تتحمل المسؤولية كذلك من دون مقابل عن إجلاء القوات البيلاروسية في حال تعرضت حياة الجنود للخطر.
  • تتحمل روسيا كل النفقات المتعلقة بتقديم الأسلحة والمعدات اللازمة لعمل الوحدات البيلاروسية، وتقدم إليهم كذلك مجاناً مجالات استخدام كل المنشآت المتعلقة بضرورات أداء مهامهم على المستوى المطلوب.
    المادة السادسة:
  • روسيا بناءً على طلب من بيلاروسيا تتحمل من دون مقابل إعداد القوات البيلاروسية قبل إرسالها إلى سوريا.
  • بيلاروسيا من جانبها تتحمل مسؤولية إنجاز التدابير الطبية والفحوصات اللازمة لإرسال القوات.
    المادة السابعة:
  • العسكريون البيلاروسيون يرتدون ملابسهم العسكرية وشارات رتبهم وفقاً لقوانين الجيش البيلاروسي.
  • العسكريون البيلاروسيون يحق لهم الاحتفاظ وحمل الأسلحة واستخدامها في مناطق تواجدهم الدائمة وفقاً لاتفاق ينظمه الطرفان صاحبا التفويض لتنفيذ هذه الاتفاقية.
    المادة الثامنة:
  • أي معلومات يتم الحصول عليها في إطار تنفيذ هذه الاتفاقية تستخدم حصراً لأهداف تنفيذها، والمعلومات التي يحصل عليها أحد الطرفين خلال أداء المهام المشتركة لا يمكنه استخدامها للأضرار بالطرف الآخر.
  • ينظم الجانبان بشكل أحادي أو مشترك خلال تلبية المهام الثنائية مستوى سرية المعلومات التي قد يتم الحصول عليها خلال تنفيذ هذه الاتفاقية أو بنتيجتها.
  • الطرف الذي يحصل على معلومات ذات طابع سري يتولى المحافظة على سريتها والتعامل معها وفقاً للآليات التي تنظمها وزارتا الدفاع في البلدين.
  • المعلومات ذات الطابع السري يتم توثيق تبادلها بين الطرفين خطياً.
  • يلتزم كل طرف بعدم نقل أي معلومات ذات طابع سري إلى طرف ثالث من دون اتفاق مسبق وخطي مع الطرف الثاني.
  • نظام تبادل المعلومات السرية وحمايتها يتم على أساس الاتفاق الحكومي المبرم بين روسيا وبيلاروسيا في 2003 والاتفاقية الموقعة بين وزارتي دفاع البلدين في 2009 حول تنظيم واستخدام العقود والاتفاقات السرية.
    المادة التاسعة:
  • في مسائل المرجعيات القانونية يستند الطرفان إلى الاتفاقات الحكومية الموقعة مع حكومة الجمهورية العربية السورية.
  • القوات البيلاروسية مثلها مثل القوات الروسية العاملة في سوريا تخضع لقوانين بلادها عند ارتكاب أي جرائم أو مخالفات على أراضي الجمهورية العربية السورية.
    المادة العاشرة:
    إذا تسبب أي طرف بخسائر للطرف الآخر خلال تنفيذ بنود هذه الاتفاقية يتم إجراء مفاوضات على مستوى الخبراء للتحديد آليات التعويض، ويجري وضع بروتوكول خطي يحدد نتيجة المفاوضات.
    المادة 11:
    كل التباينات أو الاختلافات التي قد تظهر في فهم أو تفسير بنود هذه الاتفاقية تحل عبر محادثات ثنائية، ولا يمكن أن تنقل أي شكاوى أو مطالبات تتعلق بهذه الاتفاقية إلى أي طرف ثالث أو هيكلية دولية.
    المادة 12:
    يمكن إدخال تعديل أو إضافة على بنود هذه الاتفاقية عبر وضع بروتوكول إضافي ملحق بها.
    المادة 13:
  • هذه الاتفاقية لا سقف زمنياً محدداً لها. وتدخل حيز التنفيذ بعد تبادل إشعار خطي من الطرفين بإنجاز الخطوات القانونية الخاصة بالمصادقة عليها لدى كل طرف.
  • يمكن لأي من الطرفين إنهاء العمل بالاتفاقية عبر إرسال إشعار خطي بذلك إلى الطرف الآخر قبل 6 شهور على موعد إنهاء العمل بها.
  • وضعت الاتفاقية من نسختين كلتاهما باللغة الروسية ولهما نفس القوة القانونية.

التوقيع:
عن حكومة روسيا الاتحادية.
عن حكومة جمهورية بيلاروسيا

  • نقلا عن “الشرق الأوسط”
بائعات الخبز في دمشق

بائعات الخبز في دمشق

لا يمكن الادعاء أنّ البحث عن الفتيات، صغيرات أو كبيرات، بائعات الخبز بالأمر الصعب والمعقد. الأمر لا يتطلب إلّا جولة في السيارة على أفران العاصمة السورية دمشق، أو ببساطة يمكن تحديد خط سير الباحث عن الفتيات وقصصهنّ بالمرور على فرن باب توما، ثم “أفران ابن العميد” في برزة، فـ “فرن الشيخ السعد”، وثم إلى “الأفران الاحتياطية” في نهاية أوتوستراد المزة. وهذه الأفران ليست إلّا عينة يتطابق معها حال عشرات الأفران في العاصمة وريفها.
في النهار أو الليل، المشهد هو ذاته. لا تتغير مواعيد تواجد الباعة الغلابة، إلا بحسب الوقت الذي سيخبز فيه الفرن الخبز، وبمطلق الأحوال هذا لا يعني أنّ هذه المهنة المستجدة هي حكر على الأطفال والنساء. فالرجال، وهم كثر، ينتشرون مع النساء والأطفال على الأرصفة، في الشوارع، ونواصي الطرق، وجميعهم لا يخبئون أنفسهم، فعملهم يقتضي وقوفهم في أمكنة مكشوفة، لعرض بضاعتهم، وبضاعتهم تلك، قوت السوريين وموضع رفاهيتهم الذي لم يحرموا منه، حتى الآن، على الأقل.

مريم الخائفة
تقف مريم، وهو اسم مستعار لفتاة ستصل عامها الثامن عشر في منتصف العام الجاري بحسب ما قالته لـ “صالون سوريا” إثر محادثة قصيرة نسبية، قضتها الفتاة تتلفت حولها خائفةً. نسألها عن السبب، وتجيب باختصار يحمل ما يحمله من الخوف: “ولاد الحرام كتار!”. يبدو الجواب معقداً على بساطته، ترفض أن تشرح، تقول فقط إنّها غير مرتاحة ولا سعيدة، “ألف نعمة البيع بالنهار، بالليل بتشوف العجب، بتشوف ناس ع حقيقتن”، تستخدم مريم ذات الأجوبة المختصرة، وترفض بعد كل جواب أن توضح ما قصدته، تباغتنا بسؤال: “بدك تشتري ولا تتسلى؟”.
شرحت لها أسباب أسئلته، لم تعر أي انتباه للحديث، تبدو كمن لم يفهم الغاية من أساسها، “شوف لقلك، من كم يوم، إجا شب بالليل بسيارتو، ضل ياخد ويعطي معي ربع ساعة وما اشترى مني، بتعرف شو بدو، قلي: تروحي معي تعمليلي عشا بالبيت وبعطيك 10 آلاف، أي أنا فقيرة، وعم اشتغل غصب عني، بس أنا ماني بنت وسخة، مو يعني إذا عم بيع خبز بالشوارع إني بنت مو منيحة، لأ، أنا كلني شرف وبوزعو ع كل الدنيا، هاد واحد من كتار بيجو ليتسلوا ويقلولي روحي معنا، أي شفت قدام عيني بنات طلعوا بسيارات، شفت بنت عمرا ما وصل 15 سنة عم تبيع بالشيخ سعد طلعت مع سيارة وقفت حدها لتشتري خبز، الله أعلم وين راحت معو وشو صار بعدها، أنا أصلا ما بعرفها لأسأل عنها، وما كان فيي امنعها، أنا شو دخلني؟، أنا بدي مين يحميني”، تختم مريم حديثها: “مرة تانية بسألك بدك تشتري ولا تتركني أعرف بيع؟”.
لا يمكن تصوير ما يحصل من انتشار هؤلاء الباعة إلا بالسر، هذا بديهي، هم مضطرون وغير راضين عما يفعلونه، ولكنّها الحاجة، هذا ما أجمع عليه كثر من الباعة الذين حادثهم “صالون سوريا”، لذا كان لا بد في مكان من اللجوء للطريقة التقليدية في تصوير الأفلام التوثيقية الشائكة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأخلاقيات المهنية التي تحتم تغطية أوجه الأشخاص الظاهرين، فالمهم هو توثيق الحالة، لا فضح احتياجات الناس، وهذا متفق عليه في الحد الأدنى من العمل في التحقيقات الصحفية، وعلى خلاف هذا العرف يمضي البعض غير آبهٍ بعرض الوجوه، مستغلاً حاجة هؤلاء الغلابة الذين لا يملكون تلفازاً ولا يتابعون باهتمام مواقع وصفحات الأخبار على شاشة هاتفهم الصغير، هذا إن امتلكوه أصلا، وفي الإطار وبرغم أنّه من البديهي ف”صالون سوريا” متمسكٌ باحترام خصوصية هؤلاء الناس.

سوريا المظلمة
في تمام الثانية ليلاً كانت تقف علا ذات الثلاثة عشر عاماً في “حي الشيخ سعد” الدمشقي قرب فرن الحي. تحمل بيديها أربع ربطات خبز، تعرضهنّ للبيع دفعةً واحدة، صمت مطبق في الشارع، صمتٌ يخرقه أحياناً مرور سيارات عابرة في تلك الساعة المتأخرة من ليل العاصمة التي باتت تغفو باكراً على أوجاع سكانها الذين صاروا في عام الحرب هذا ينامون جياعاً، الأمر لا يندرج في إطار المبالغة الكلامية، فأولئك الذي يلتحفون السماء ويفترشون الأرصفة، صاروا كثراً، أيضاً لحظهم لن يتطلب الكثير من البحث، الشوارع فيها ما فيها من فقر وبرد ومرض وتعب، أهل يصدق عاقل أنّ هذي البلاد ستصل يوماً تمتلئ مجامع القمامة فيها بأشخاص باحثين عن لقمة عيش؟، وبالنباشين أيضا؟ً، أولئك الذين يتسيدون جانباً خاصاً من سوريا المظلمة.
أما عن علا ذات الربطات الأربع، فلا تبدو عليها ملامح “التعتير”، تبدو الفتاة أنّها بمكان ما تنحدر من طبقة عادية الفقر، وهذا أمر آخر، فالفقر صار درجات، منه المدقع ومنه الذي لا زال يناضل أناسه لئلا يطحنهم.
صغيرةٌ علا على هذه المهمة الشاقة، هذا أول ما يتبادر للذهن، تقول ل “صالون سوريا”: “أنا عم اشتغل ببيع الخبز لأسند عيلتي، صرلي أكتر من سنة بهالشغلة، أبي عاجز، وأمي بتشتغل بشطف الدراج، وأمورنا الحمد لله أحسن من غيرنا”.
ليكسب “صالون سوريا” أطول وقت من الحوار معها، اشترى منها الخبز، رفضت أن تبيع ربطة واحدة، تصرّ أنّ البيع كل ربطتين معاً وفي كيس واحد، وبفضول البحث عن القصة خلف كل هذا، تبين أنّ الكيس فيه اثني عشر رغيفاً فقط، فيما يفترض أن يكون فيه أربعة عشر رغيفاً، وحين سؤالها، ضحكت: “كيف بدها توفي لكن إذا بدي بيعك نظامي؟”، علماً أنّ الصغيرة تقاضت مبلغ ألفي ليرة مقابل الربطتين الناقصتين، أي بربح إجمالي يساوي ألفاً وخمسمئة ليرة سورية، لذا تبدو هذه التجارة مربحة، وهذا يدلل على استمرار هؤلاء الباعة بعملهم.

التحرش المرّكب
اتفق “صالون سوريا” مع أحد الأشخاص الثقة أن يأخذ دور الشخص الذي سيعرض مشواراً على إحدى هاته الفتيات، بعد أن اجتمعت العديد من الخيوط والمؤشرات حول أنّ هذا الأمر ذاته، صار مثار سمسرة وخبرة لفتيات عدة، وفعلاً نجحت القصة من أول محاولة، توقف الشخص الذي سنسميه سامر بسيارته قرب فتاة لا تبدو عليها علامات البلوغ، تبين لاحقاً أنّ عمرها خمسة عشر عاماً.
إذن، توقف السائق قربها، حادثها من نافذة السيارة: “مرحبا، قديه عم تبيعي الخبز؟”، بهذه الطريقة بدأ الحوار ثم طال وامتد لقرابة خمس دقائق، واختصاراً للقصة، طلبت الفتاة فوق ثمن الخبز خمسة آلاف ليرة سورية لتذهب معه مشواراً في السيارة فقط، أعطاها سامر المبلغ المطلوب، لتقول له: “انطرني دقيقة وبرجع بس لخبر رفيقتي”، ورحلت الصغيرة بعكس اتجاه السيارة، ولم تعد، كان هذا متوقعاً، ف “صالون سوريا”، استمع للعديد من الروايات التي تتطابق مع ما حصل، أنّ فتيات كثر صاروا يطلبون مبالغ مقابل الذهاب مع سائق السيارة، بعد تقاضيهم المال سلفاً، منهنّ من تهرب، وأخريات يصعدن فعلاً، وغيرهنّ يزجرن المفاوض وقد يصرخن عليه.

ليسوا شحاذين
على المقلب الآخر ثمة من يبيع الخبز بثمن أكثر رحمة، وبمصداقية ونزاهة أعلى، فتيات دون السن القانوني، وأطفال صغار دون العاشرة، يمكن لحظهمّ أكثرّ من الفتيات، الطفل علي ذو الثمانية أعوام يبيع كل ربطتين ب1400 ليرة، وحين يحاول أحد الزبائن أن يترك له مبلغاً إضافياً يرفض بشدة، لوهلة يبدو هذا الطفل رجلاً كبيراً، ومثله حالات كثيرة، يكتفون بالبيع لجني لقمة عيشهم لا أكثر ولا أقل، بيد أنّ ما بين الحالتين ما بينهما، هي ظاهرة غامضة ومكشوفة في آن، بين لقمة شريفة وبين تجارة رابحة، تنقسم نفوس وأخلاق هؤلاء الباعة، إلّا أنّه بالمحصلة ثمة شيء أكبر بكثير من كل هذا، الأكبر هو الضحية، والضحية سوري، اعتاد يوماً أن يعيش عزيزا، أما اليوم فالسبل قد ضاقت، يكفي أن نقول أنّ صناعياً من حلب وتاجراً من حمص افتتحوا بسطات على الأرصفة بعد أن كانوا أصحاب معامل قبل عام 2011.
.