تدريباتنا

لعلني محظوظة: ذكرياتي مع الخوف السوري والحدود

by | Apr 6, 2021

ثمة مواقف لا يمكن نسيانها وقد تبقى مطمورة في الذاكرة لسنوات لكنك تشعر أنها تزداد ثقلاً وضغطاً على أعصابك وترغب أن (تبق البحصة) كما يقولون.

عندما كنت أعيش في سوريا، كنتُ أسافر كثيراً إلى بيروت لأنني أطبع كتبي فيها ولأنني أعشق بيروت ولدي صداقات كثيرة هناك. وكنتُ أسافر من حدود العريضة (الحدود السورية اللبنانية بين اللاذقية وطرطوس أي الساحل السوري والحدود اللبنانية). وذات يوم كنت مسافرة إلى بيروت حيث كان لدي موعد مع السفارة الفرنسية لتقديم طلب فيزا إلى فرنسا لزيارة أهلي (كلهم في باريس)، وبصعوبة بالغة حصلت على الموعد (كان قد رُفض لي طلب سابقاً)، وككل سوري كنت أشعر بالرعب ما أن يصل التاكسي السوري الذي يضم الركاب إلى حاجز الأمن السياسي قبل الحدود بأمتار قليلة، كان الحاجز يسمى حاجز أبو (ع)، وكان السيد (ع) يُروع السوريين السائقين والركاب، وكل فترة يتحفنا بقرار لا نعلم سببه وهل هو قرار أصدرته الحكومة أن للسيد (ع) مطلق الصلاحيات لإصدار القرارات التي يريد دون أية محاسبة أو حتى محاولة للفهم. كان يوماً شتائياً من عام 2013 وكنت وحدي مع السائق (في ظروف المأساة السورية لم يكن أحد يسافر إلى لبنان إلا لموعد مع طبيب أو موعد مع سفارة، ولكن السائق اللطيف لم يقبل أن يأخذ مني مبلغاً كبيراً ارتضى أن أدفع أجرة راكبين فقط، وأخذ يشكو بأن سفرياته إلى بيروت قليلة جداً، ووصلنا حاجز الأمن السياسي المُرعب ورغم إيهام نفسي أنني متماسكة ولا مبالية ولست خائفة؛ فما أن طلب السائق هويتي وأعطيته إياها واتجه إلى المبنى شديد البؤس للأمن السياسي، حيث يحتشد باقي السائقين وهم يحملون هويات الركاب، ويدخل كل بدوره إلى المبنى حيث يستقبله عدة عناصر أحدهم جالس على كرسي وأمامه طاولة عتيقة ودفتر كبير جداً يسجل فيه اسم صاحب الهوية وكل المعلومات في الهوية. وجدتني أسحب سيجارة من علبة دخان السائق وأبدأ التدخين (وأنا لا أطيق التدخين). لجمت عقلي الذي سخر وأشفق علي ليثبت لي كم أنا خائفة. فالخوف السوري هو خوفٌ خام نرضعه مع حليب أمهاتنا. نُروع أطفالنا بقصص معتقلي الرأي الذين قضى بعضهم سنوات طويلة في السجون وبعضهم قُتل.

غاب السائق طويلاً في مبنى الأمن العسكري وبدأت دقات قلبي تتسارع ونزلت من السيارة وأردت دخول المبنى فمنعني عنصر موظف أن أدخل. وأطل السائق بوجه مكفهر مذعور وقال لي: “آسف دكتورة ممنوع تسافري إلى بيروت.” صُعقت وسألته: “لماذا؟” اعتقدت أن أحد كتبة التقارير كتب بي تقريراً، لكن السائق أخبرني أن كل السيارات التي ستسافر عن طريق العريضة ممنوعة من عبور الحدود وأن ثمة قراراً أصدره السيد (ع) بأن عليهم العودة من حيث أتوا وإن لم يعجبهم القرار يمكنهم السفر عن طريق معبر الدبوسية (أي المعبر الحدودي بين حمص ولبنان)! وتساءلت لماذا إذلال الناس بهذه الطريقة وهم من سكان الساحل، ولم عليهم إضاعة ساعات من وقتهم ومالهم حتى يصلوا إلى حمص ومعبر الدبوسية! لا يمكنك أن تسأل أبداً في سوريا خاصة المسؤول عن الأمن السياسي، ولا أعرف كيف امتلكت شجاعة التهور وخطفت هويتي من يد السائق وقلت له سأقابل السيد (ع)، فرجاني ألا أفعل وأن هذا خطر علي، لكنني كنت كالصاروخ مندفعة تجاهه. ورغم أن عدة عناصر من الأمن حاولوا منعي إلا أنني أصريت أن أقابله واقتحمت غرفته شديدة البؤس المؤلفة من أريكة عتيقة ومكتب صغير. كان لدى السيد (ع) عدد من الزوار الرجال، وكان منهمكاً في سحق عدة بيضات مسلوقات في رغيف خبز ووضع شرائح البندورة فوقها، وخلف مكتبه كانت صورة الرئيس تحتل الحائط. جلست قبل أن يقول لي “اجلسي”، ونظر إلي بدهشة وقال غاضباً: “خير!” شرحتُ له أن لدي موعداً مهماً في السفارة الفرنسية. فقال: “ألم يقل لك السائق ممنوع السفر ألم تفهمي الكلام هل أعيده ثانية!” وجدتني بحالة من الارتباك والتشوش الذهني ولا أدري ما الذي دفعني لأخرج بطاقتي بأنني اختصاصية في طب العيون ووضعتها على مكتبه دون أن أنطق كلمة واحدة. وفيما هو يمضغ سندويشة البيض، أمعن النظر في بطاقتي وأجفلت حين انتفض واقفاً وقال وهو يبتسم لي: “عيني ربك، عيني ربك أنت طبيبة عيون مثل السيد الرئيس.” ومسح يده اليمنى بقميصه ومزق قصاصة ورق من دفتر أمامه وكتب أنه مسموح لي بالسفر إلى لبنان وأعطاني القصاصة، لكنه أصر أن أشرب فنجان قهوة، وخفت أن يتراجع عن رأيه فقبلت دعوته تحت الإصرار. كنتُ أمسك فنجان القهوة بيد مرتعشة رغماً عني وباليد الأخرى أطبق بكل عزيمة وقوة على قصاصة الورق التي تسمح لي بالسفر إلى لبنان، وأثناء حديثنا اكتشفتُ أنه يتكلم الفرنسية بطلاقة رائعة، وأخبرني أنه قضى سنوات في فرنسا وأنه أحب فرنسية لكنها ماتت بالسرطان ويفكر أن يكتب قصة حبه العظيمة.

لم يصدق السائق أنني نجحتُ بإقناع من تتقصف الفرائص رعباً لمجرد ذكر اسمه السيد (ع) بالسماح بسفري لبيروت. وسألني: “شو عملتي دكتورة، كل السيارات لم تمر وكلها عادت من حيث أتت، فماذا فعلت؟”. أخبرته: “لم أفعل شيء لكن أنا محظوظة.” أصر السائق وسأل: “كيف يعني محظوظة؟” قلت له: “لا تكثر من الأسئلة لنعبر الحدود بسرعة لو سمحت.” ولاحظتُ أن السائق صار ينظر إلى بارتياب وحذر ولم يعد ينطق حرفاً. ورغم أني أسافر معه دوماً إلا أن السائق صار يخشاني، ربما لاعتقاده أنني أعمل مع أجهزة الأمن ومع السيد (ع).

هذه الحادثة التي أردت التقليل من قيمتها ودفنها عميقاً في ذاكرتي لطالما أيقظتني ليلاً لأسترد تلك اللقطة اللامعقولة (عيني ربك أنت طبيبة عيون مثل السيد الرئيس). وكنتُ أحس بألم وخزي وأنا أستعيدها وأتساءل أين العدالة! صحيح أنني فرحتُ عندما سمح لي السيد (ع) بالعبور إلى لبنان، لكن كان فرحي مجللاً بالخزي وأنا أرى العديد من السيارات ممنوعة من العبور وتعود أدراجها. السيد (ع) الذي يعرف الجميع أنه بقي لأشهر يمنع كل سوري من إدلب من دخول لبنان لأن أخاه استشهد في إدلب. السيد (ع) الذي كان يتلقى أفخم الهدايا من السائقين.

فرحنا نحن السوريين له طعم الحزن والقهر. الخوف السوري حالة تستحق الدراسة النفسية العميقة. أظن أنني محظوظة لأنني كنت محتارة بين اختصاصين، الطب النفسي وطب العيون، ولم أعلم أن اختياري لطب العيون سيكون كخاتم سليمان.

مواضيع ذات صلة

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص...

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

مواضيع أخرى

سأختار المضحك فقط

سأختار المضحك فقط

لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي...

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته - كما يروي هو - بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل...

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد. يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف...

تدريباتنا