تدريباتنا

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

by | Apr 10, 2024

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي “عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟”، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: “بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد”، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا لقلّة ثقافة السوريّ، بل لانشغاله بدوره في طوابير الانتظار التي لا تنتهي.

ولأنّ الأمور في الحرب لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بسبب ترابطية عجائبية فأين طاف بها الساقي تنسكب خمراً غير مكتمل التعتيق في كؤوس تظلّ فارغةً لا تملؤها إلّا جماعية الهموم، ومنها بيت القصيدة الثاني، “أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ… فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ”. أليس من فيض المعقول أنّ هؤلاء الأحبة هم الذين تفرغ منهم البلد تباعاً، أهلها وأناسها، شبابها وشاباتها، وأليس من الأغرب أن ينتهي في كل حديثٍ مع سوريٍّ ندمه أنّه لم يهاجر، أو اشتياقه لمهاجر ربما لن يعود؟

حين جاء العيد

انتهى رمضان بكل ما حمله من مواجع لآلاف الأسر التي صامت وأفطرت على شوربة العدس وبعض الخضار بأفضل الأحوال، تفاوتت وجبات تلك العائلات، ولكنّ الجامع بينها أنّ موائد الشهر على فقرها أرهقتهم، وكذا ساروا يوماً بيومٍ حتى جاء العيد وقد يبدو غريباً أنّ شعباً لا ينتظر عيداً.

لذلك أسبابٌ من السهل معرفتها دون الحاجة لمراكز دراسات تقرأ في الحال اليومي لهؤلاء الناس، وإن بدا الحال مغرقاً في الكآبة فهل هناك فرحٌ مقرونٌ بقهر يبدأ بجودة رغيف الخبز ولا ينتهي بأشهر انتظار أسطوانة الغاز وبينهما صلاةٌ موحدة: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.

معضلة مركّبة

وجد الآباء والأمهات أنفسهم قبل هذا العيد أمام معضلة مركبة أكثر مما كانت عليه قبل عامين، وقبل عام، وحتى قبل شهر، من ارتفاع أسعار لا يعرف التوقف، ارتفاع جعلهم عاجزين عن تحقيق أشهر طقس مرتبط بالعيد، وهو شراء ملابس لأطفالهم.

بحسرةٍ يتحدث المهندس جاد سلامة عن عدم تمكنه من شراء ملابس لأطفاله الثلاثة بسبب ما لقيه من ارتفاع كبير في أسعارها، حتى تلك الشعبية منها، مبدياً قلّة حيلته واستسلامه أمام عجزه عن اجتراح حلول لأمرٍ إن بدا رفاهية للكبار المدركين، ولكنّه مبعث فرحٍ تامٍ للأطفال الصغار الذين لا يعرفون من رمضان سوى أنّ نهايته مقرونةٌ بعيدٍ يعمّ فيه الفرح وتنتشر الألعاب ويرتدون فيه الملابس الجديدة.

يشرح جاد الوضع: “تكلفة ملابس كل طفل بين 400 و600 ألف ليرة سورية، أليست هذه كارثة! من أين سأجيئ بذلك الرقم المهول الذي يعادل خمسة أضعاف راتبي الشهري ثمناً لملابس ثلاثة أطفال من أدنى حقوقهم أن يرتدوا ثياباً جديدة ويحتفلوا بالعيد ويشعروا بروحانيته وطقوسه؟”

مشكلة جماعية

لم يكن الحال أفضل بالنسبة لكثر آخرين سألناهم عن شراء ملابس العيد لأطفالهم، فمثلاً اكتفت أم مازن (ربّة منزل) بالقول: “لا حول ولا قوة إلّا بالله، حتى بهجة العيد صارت مفقودة، كيف سنشرح لأطفالنا ما نمرّ به وكيف أنّنا مرغمون على ارتداء ذات الملابس حتى تهترئ!”

بدوره يسأل مجيب راشد وهو موظف آخر بعد جولة مستفيضة بالأسواق لذات الغرض عن دور الرقابة والتموين في ضبط الأسعار التي تقفز من شهر لآخر بقوله: “ألم ينخفض سعر الدولار كثيراً وحافظ على ثباته منذ شهرين على الأقل فلماذا ترتفع الأسعار بين يوم وآخر!، سألت عن سعر ملابس لطفلتي في نفس المحل وبفارق يومين اختلف السعر”.

سوق الفقراء للأثرياء

بدا الأمر أكثر غرابةً عند زيارة سوق البالة الكبير في دمشق (سوق الإطفائية)، هناك حيث جنّت الأسعار مرّة واحدة على ما قاله زائرون للسوق بقصد الشراء، أو على الأقل محاولة الشراء من سوق الفقراء، ليتضح أنّ الأسعار قفزت فجأة إلى الضعف على الأقل.

برر صاحب أحد المحال هذا الارتفاع نتيجة قلّة البضائع ومنع استيرادها والاضطرار للحصول عليها تهريباً من لبنان غالباً وبالدولار وبطرق صعبة ومكلفة جداً، وأكمل يقول: “ارتفاع الأسعار هذا طبيعي بعد موسم كامل من الكساد في المبيعات”.

وبصورة وسطية تتراوح أسعار الجينزات كمثال بين مئة ومئتي ألف ليرة سورية، وبعض الأحذية وصلت إلى 600 ألف ليرة، أما الكنزات فمتوسط سعرها 60 ألف ليرة، والفساتين كان من الصعب حصر أسعارها لشدة تفاوتها بين محل وآخر بغرابة شديدة توحي بأنّ السوق فجأة تحول لأثرياء العاصمة نابذاً فقراءها.

“شعرت أنني في سوق الصالحية ولست في سوق الفقراء، الأسواق جميعها تلفظنا، كيف يعيش أولئك الباعة دون مبيعٍ!” هذا ما قاله أحد الزائرين للسوق والذي كان يتحدث ممسكاً بحذاء “مستعمل” يتفحصه بعينيه ويكرر سؤاله للبائع: “هل فعلاً سعره 500 ألف؟”

مصائب قوم

جنون الأسواق ذلك أفضى لنشاط في عمل الخياطين بحسب رئيس جمعية الخياطة توفيق الحاج علي الذي أشار في تصريحات لموقع محلي أن “إقبال الناس على إصلاح الملابس أو تصغيرها سببه ارتفاع أسعار الجديدة بشكل مضاعف عن العام الماضي وهذا أدى إلى تزايد الإقبال على تدوير الملابس القديمة لدى الخياطين بنسبة تتجاوز 40%، في ظل تدني القدرة الشرائية لدى الأهالي، وتالياً يعتبر هذا الحل تدبيراً اقتصادياً في ظل عدم قدرة 60% من الأسر لشراء الملابس الجديدة”.

ليس واضحاً كيف حسم رئيس الجمعية أمر الأرقام بدقة، فإن كانت فقط 60 بالمئة من الأسر لم تستطع شراء ملابس جديدة لأولادها فهذا أمرٌ سيء ولكنّه غير كارثي تماماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شمولية دراسات الأمم المتحدة التي تؤكد أنّ 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وهذا المؤشر يعني عدم قدرتهم على تأمين الطعام بصورة متواصلة.

مكرهٌ أخاك لا بطل

وبمعزلٍ عن لغة الأرقام الجافة إلا أنّه ثمّة وقائع لا يمكن تجاهلها وهي فعلاً تؤكد نشاطاً في عمل الخياطين استناداً لتمكنهم من تقديم أسعار منافسة للسوق على صعيد الإصلاح والحياكة والترميم وهذا ما شرحه الخياط معاذ جبلاوي.

يقول معاذ: “الناس يعلمون أنّهم لن يحصلوا على أفضل خامة ملابس لدينا، ولكنّهم ببساطة سيحصلون على مجرد كساءٍ، على قساوة التعبير ولكن هذا هو الحال، لأنّهم لو أرادوا تفصيل ملابس من خامة ثقيلة فسيكون سعرها ينافس أفضل بضائع السوق”.

ويضيف: “ما يدفعه الزبون لدينا هو قروش أمام ما سيدفعه في السوق، لأنّه أساساً يعتمد على الترميم وإعادة استخدام المستخدم أساساً”.

ومن ناحيته يشرح عبّاس غانم وهو خياط آخر الأمر من وجهة نظره: “الأمر ليس مرتبطاً بالتفصيل، فالزبائن تأتي لتعيد ترميم القديم وتضييق ملابس الأخ الأكبر ومنحها للأصغر وهكذا، لا، الانتعاش ليس توصيفاً دقيقاً، هو إقبال متزايد نعم، ولكن له ظروفه التي لا تحقق ما يستحقه المواطن ولا تغنينا في الأرباح.”

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

أسفار تدمير غزَّة

أسفار تدمير غزَّة

ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذه الوحشّيّة الرهيبة التي تتصف بها الحرب التي يشنّها الصهاينة على غزَّة غير مبالين بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ؟ ويدفعنا إلى هذا التساؤل وضوح أنَّ ردّة...

الرواية وقضايا النساء

الرواية وقضايا النساء

كانت المرأة حاضرة دوما في الأدب والفن عبر التاريخ ولا شك أن ما عانته من معاملة الجنس الأدنى الملوث بدمه والمرتبط بالخطيئة الأولى والطرد من الجنة وارتباط الإغواء بجسدها والمتع الدنيوية المرفوضة دينياً، سيترك صداه في الإنتاج الأدبي والفني سواء العالمي أو العربي، الذي...

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم. "خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون...

تدريباتنا