الحل في سوريا هو ثورة ثقافية

الحل في سوريا هو ثورة ثقافية

-I-

ما يجري في سوريا الآن (ثورة مصنَّعة)، بدأتْ متقَنة ومحبوكة بشكل ذكي للغاية. ولا يمكن النظر إليها كحدث منفصل عن التغيرات العالمية: صعود قوى جديدة وانهيار قوى عملاقة تعجز عن استنهاض ذاتي داخلي لاقتصاداتها المتهاوية، فكان لا بدّ لهذه القوى الثانية من زعزعة أطراف الإمبراطوريات الناشئة بادئةً بالأطراف وليس بالمراكز، لأسباب تتعلق بارتباط كلٍّ من الاقتصادين. ولأسمِّ الأشياء بأسمائها: ليست الرأسمالية العالمية التقليدية، وعلى رأسها أميركا، في أزمة بقدر ما هي في حالة انهيار، ولا يسعها القيام بحروب عسكرية ضد غريمها الصيني المتنامي، على الأقلّ الآن، بسبب زواج اقتصاداتها بهذا الاقتصاد الصيني ومديونيتها له بسبعة آلاف مليار دولار على شكل سندات خزينة. إذاً لا بدّ من تقليص المسافة بين النّموّين (أميركا -9% والمؤشر إلى نزول، والصين +13 % والمؤشر إلى صعود) –ولتكن (الحرب) بشكل غير مباشر، وبأرخص الأكلاف: إحراج اقتصاديات وزعزعة نمو الإمبراطورية الصاعدة عن طريق تجييش الأكثريات في مجتمعات الأطراف، وليكن الممر السوري/ العراقي/ الإيراني إحدى هذه المحاولات، مع الأخذ بالاعتبار أن الخلقة العراقية في هذا الممر ليست جديرة بالذكر لأنها قد تحولت إلىدولة فاشلةبطبيعة الحال.

نعود إلى الأكلاف: استخدام الإسلام السنّي كمطية سهلة ورخيصة ووضعه في مواجهة الإسلام الشيعي والأقلياتِ التي يرى معظمها أن لا فائدة ترتجى من وراء المواجهة المباشرة، ولو كانت سلمية، مع نظام فاسد في بنيته الذاتية وفي تبعيته، لأسباب جيوسياسية معروفة، للشمال الصاعد. وترى، كما يرى الكثيرون أن الإصلاح البطيء، التراكمي، هو الحل الذي يجنب البلاد الدم والخراب.

لم يدرك أحد هذين العاملينالقدَرَين الرئيسين: النظام الذي يمتلك البلاد بجيشها واقتصادها، والتصاقه العضوي الذي تكرس منذ أكثر من نصف قرن بروسيا والصين، وبالتالي استحالة انفكاكه عنه ولو كلّف ذلك تهشيم كلّ شيء. وليس أدل على ذلك من أن أول فيتو صيني في التاريخ كان لصالح سوريا، وأن روسيا تستميت الآن في حماية النظام السوري.

مع (تحريك) كوريا الشمالية، قد تتغير المعادلات ويفقد إغلاق الممر السوري/ الإيراني أهميته، فمعظم الولايات الأميركية باتت تحت مرمى الصواريخ الكورية الآن، وبالتالي ستربح روسيا الحرب، ولا بأس من إعطاء الشركات الأميركية بعض المكاسب النفطية والاستثمارات في إعادة الإعمار.

-II-

لا بد من التغيير في بنية النظام الفاسد القائم الآن، أو تغييره. ويبدو أن (قدر) سوريا الجيوسياسي سيأتي بنسخة تكاد تكون مطابقة للنظام القائم. لذلك فإن (الثورة) البديلة للإسلام معطوب الرأس والقلب هي (ثورة ثقافية) تعمل على تفكيك المقدس السلفي وفصله عن الدولة وإنجاز مشروع علماني مكتمل يكون فاتحة عدالة اجتماعية، وإطلاق الحريات دون شروط، وإغلاق السجون السياسية مع تفعيل القضاء المدني المنفصل عن المؤسسة الحاكمة، وترسيخ ثقافة القانون وفكرة أن النظام، ورأسه، هم موظفون لخدمة الشعب السوري وليس ملاكاً لمزرعة وأقنان.

-III-

كلّ شيء يشير إلى أن البلاد تسير نحو الحلّ. ويبدو أن هذه الحرب هي حرب وجود أو لا وجود بالنسبة للأطراف المعنية، وهي: النظام السوري وإيران وروسيا والصين. أكتب هذه العبارة وأنا أسمع الآن الأصوات المكتومة الدائمة للصواريخ الروسية التي تخرج من القطع الحربية البحرية باتجاه مواقع المعارضة المسلحة في الداخل، ما يشير إلى أن أميركا قد سحبت يدها من القضية السورية لصالح الدول آنفة الذكر، وأن المعارضة (أو المعارَضات) المسلحة قد انحصرت في جيوب تتضاءل يوماً إثر آخر. ربما كان بعض ثمنِ انسحاب أميركا الاعتراف بنفوذ لها في إقليم كردي، والتخلي عن شطر من إدلب متاخم لتركيا، كجائزة ترضية.

-IV-

قلتُ أعلاه إن الحل هو ثورة ثقافية. ولن يقيض لهذه الثورة النجاح ما لم تطحْ بثقافة المحسوبيات وتتجاوز المؤسسات الثقافية الرسمية البيروقراطية. هناك مطلب إلغاء الرقابة، والسماح بصحافة حرة، ودعوة المثقفين السوريين للعودة من منافيهم الإجبارية أو الاختيارية ليقولوا ويكتبوا كما يفعلون الآن في تلك المنافي.

على المثقف أن يكون صوتَ ضميره وضمير شعبه، وليس زلمة سلطة فصامية فاسدة.

-V-

العدالة الاجتماعية، تفعيل القضاء النزيه، إلغاء المحسوبيات والمحاصصات الطائفية، الزواج المدني، بناء مؤسسة جيش وطني يُنصَّبُ قادته وضباطه على أساس الجدارة لا على أساس الطائفة أو العشيرة.

ومع الإقلاع في مشروع علمنة ومدننة المجتمع السوري، ووضع المقدس الديني على طاولة البحث، سيُمنى الفكر الديني برمته بالخسارة بالتأكيد، ما يفسح المجال أمام الجيل الجديد لأن يختار شريك حياته دون الأخذ بالاعتبار منبت وطائفة هذا الشريك.

-VI-

رؤياي قاتمة بعض الشيء.

سيبقى الجرح الطائفي ينز صديدَه إلى أمد طويل. ربما يتخامد مفعوله رويداً رويداً مع (أريحية) اقتصادية ينعم بها الشعب السوري مع عودة انتعاش هذا الاقتصاد والبدء باستثمار النفط الموعود.

ستبقى الأحزاب القومية التي أخرجت من أرحامها الفاشية، مع تغيير طفيف في الأسماء والواجهات. وسيبقى المعارض الوطني مقصىً إذا تجاوز الخطين الأحمرين: النظام، والواقع الجيوسياسي للبلاد.

ما يلطف هذه الرؤيا، إيماني بأن شعب حضارة الـ 7000 سنة لا يمكن خصيه، أو وقف روحه الخلاقة بطبيعتها عن إعادة بعث نفسه من الرماد، ليطير من جديد نحو آفاق الإبداع في العلم والفن.

الشعب السوري هو طائر الفينيق القادم.

الخروج من عقدة الأكثرية والأقليات

الخروج من عقدة الأكثرية والأقليات

-I-

لا يخفي المشهد الحالي في سورية أبعاده، وإلى حد كبير مآلاته المتوقعة، فهو احتلال من جيوش جنسيات متعددة، الواضح أن النظام متحالف مع بعض أطرافه تحالفا عضوياً، يحاول أن ينتزع لنفسه البقاء على أكبر قدر من مساحة سورية، ولو كان مجرد منتدب عليها، فالاحتلالات لا تسمح بأكثر. بالنسبة لما يزيد عنها، يراهن النظام على الوقت وتغير الظروف الدولية، بعدما استعاد قدرته على الإيحاء بأنه اجتاز مرحلة الخطر نهائيا، وحان الوقت ليضع اللمسات الأخيرة لسورية الأسد؛ دولة متجانسة. أما عن مدتها فيأمل أن تكون أبدية بموجب حق التوريث. ليس في هذا التشخيص مبالغة، النظام يعمل جاهدا على زرعه في رؤوس السوريين، أشبه بقدر لا منجاة لهم منه.  

ما دام السوريون مغيبين عن طاولة المفاوضات، فالأمور السيئة، تتجه نحو الأسوأ؛ الطاولة لن تكون سوى طاولة مساومات حول حصص النفوذ. يديرها الروس بموافقة الأمريكان، أو عدم موافقتهم، سيتولون توزيع الحصص آخذين بعين الاعتبار مصالح كل دولة وما بذلته من جهد في عدم سقوط النظام، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، سواء كان بميليشياتها، أو تحالفها سراً أو علناً، وربما بدعمها أو بصمتها. والاتجاه الراهن ينحو إلى ألا يكون للسوريين وجود فعلي على الطاولة لئلا يتعقد الحل.

يستحيل استعادة سورية إلا إذا كان للسوريين الدور الأكبر في تقرير مصير بلدهم، وان تكون لهم الكلمة الأولى والأخيرة في رسم مستقبله. ولا يمكن تمرير هذا الحل إلا برفع أيدي الدول الأجنبية عن سورية، وألا يكون لهذا النظام مكان سوى قاعات المحاكم الدولية الجنائية.  

أما الادعاء بأن السوريين عاجزون عن تولي أمورهم، فعجزهم ليس إلا منعهم عن ممارسة حقوقهم السياسية منذ ما يقارب خمسة عقود.   

-II-

إذا كان هناك حل، فلا شك أن يعي السوريون الدروس المؤلمة للسنوات الست الأخيرة، إضافة إلى ما قبلها؛ السنوات الأربعين من حكم الأسد الأب والأبن. فالبقاء الذي سعى إليه كلاهما أظهر انه استمر بجيش عقائدي من دون أية عقيدة سوى الدفاع عن الأسرة الحاكمة ضد الشعب، والأجهزة الأمنية التي كانت أدوات للقمع والابتزاز والقتل، والاستعانة بشبيحة النهب.

رأيي أن الحل ليس غائباً عن أذهان السوريين، ثمة شبه إجماع على مجتمع مدني ودولة القانون، تقوم على أسس من العدالة والمساواة، تحفظ لهم حياتهم وممتلكاتهم وأديانهم من التعدي عليها.

-III-

إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، وهو المتوقع، فلا استقرار، والانفجار أو الانفجارات قادمة لا محالة. الجرائم القديمة أضيفت إليها جرائم جديدة، تعتبر الأسوأ في تاريخ العالم: نحو مليون شهيد (دونما تمييز بين ضحايا المعارضة والموالاة، كلهم سوريون)، وما يزيد عن ستة ملايين نازح ومشرد ولاجئ، وخراب شامل (حتى لو استثنينا شوارع وأحياء بعض المدن مع باراتها ومطاعمها ودور اللهو العامرة، والمعارض المفبركةالخ).

إنها جرائم يجب المحاسبة عليها، لا أن تبقى معلقة، أو يجري تزويرها. مأساة حماه انتظرت ثلاثين عاما حتى تفجرت. أما المأساة السورية الحالية، فلن تنتظر طويلاً الحل العادل الذي لن يأتي تلقائياً. لذلك المستقبل مفتوح على حرب عصابات، والصوملة، أوأفغانستانسورية.  حرب ستدوم عشرات السنين ما دام وقودها متوافراً؛ المظالم والسلاح.

إن فرض حل قسري تغيب عنه العدالة، لن يمر إلا بإغفال المسبب الأكبر لهذه المآسي التي طالت شعبا بأسره. ما جرى لا يمكن لفلفته بأوامر، ولو كانت دولية.

-IV-

لم تقدم الأغلبية من المثقفين شيئا جيداً للربيع الذي صنعه الناس وحدهم، سوى هذا اللغو المتواصل منذ بداياته حتى انقلابه إلى جحيم.  كانوا مشتتين ومشرذمين ينشدون الأمان، فقادهم إلى تأييد النظام. كان الصمت أجدى.

ما يجب قوله هو، قبل أن يسهم المثقف بتحرير شعبه، عليه التحرر من التبعية، تبعية الدول والأحزاب والشعاراتولذلك لم يكن دفاعه عن مواقفه المخاتلة، إلا بالتذرع بعلمانية مطاطة، والإسلام السياسي، واليسار المريض، والقوميات المتشنجة، والإيديولوجيات المغلقة، ودعاوى مكافحة الإرهاب باستراتيجيات تفوقه إرهاباً يدفع أثمانها المدنيون.

السؤال: هل نريد سورية موحدة، سورية من دون دكتاتور؟ عدا هذا تعتيم على قضية الوطن. الإجابة عنه تكون بالتفكير جذرياً بعدم إيجاد المبررات لنظام قام على الانقلاب، أوصلنا الى الدكتاتورية ومسلسل التوريث وعبادة الرئيس، وإرهاب الدولة، وحرب أهلية وطائفية، كانت حرب إبادة، استعين بها بالميليشيات الدينية والمذهبية بإطلاق، دونما استثناء.

لا يمكن لمثقف ان يقدم لسورية شيئاً إن لم يقلع عن التبرير، والتذرع بالحياد، وادعاء التأمل والتنظير، والاختباء وراء الإنسانية بينما البشر يذبحون أمام عينيه. لا بد من اتخاذ موقف واضح، إن التحرر من ارتباطاته المنفعية ومخاوفه، ليست بتسويغ التعذيب والقتل بدعوي الأمن والأمان، ولا الحذاقة في كونه معارضاً وموالياً في آن واحد، كل هذا في النهاية ليس إلا خيانة للثقافة والبشر.

المثقف اليوم  أحوج ما يكون إلى الضمير.  

-V-

إذا اردنا معرفة منشأ التشنج الطائفي، فلنذهب إلى التاريخ، فهو حافل بمظلوميات السنة والشيعة والعلويين والإسماعيليين، والمسيحيينمظالم أصبحت في عهدة التاريخ، وحده يفصل فيها، ولن يكون بعثها على الأرض إلا لاستغلالها، بعدما أصبحت ملكاً لتاريخ لا يمكن التنصل منه، مهما يكن فهو تاريخنا، لسنا مسؤولين عنه جزائياً، ولا التطوع لحمل أعبائه الثقيلة المتوهمة. بالتالي لماذا يكون حاضرنا، أو يرسم مستقبلنا؟

المشكلة الطائفية موجودة هنا في داخلنا، وهناك من يستثمرها. يستفيد منها النظام بالتخويف من الأكثرية السنيةبتعاضد تحالف الأقليات، والميليشيات المذهبية لإشعال الفتنة. يتعيش كلاهما على مظلوميات تاريخية بابتداع مظلوميات جديدة، هي وصفة مضمونة لحرب أهلية تقوم على الذبح والتهجير.

على هذا الأساس، لا يمكن استبعاد أي فئة من السوريين من مستقبل سورية، بدعوي أنها أقلية، أو أكثرية يستحسن تهجيرها لتتساوي مع غيرها. إن وجود أي دين أو مذهب، ليس مرتبطاً بطائفيته ولا بتعداده، بقدر ما هو جزء لا يتجزأ من البلد.

سورية موحدة لن تكون بلا طوائف ولا بإلغائها أو التعتيم عليها، أو طمسها، وإنما بالخروج من عقدة الأكثرية والأقليات، والتذرع بالمظالم لارتكاب أبشع الجرائم. إن النظر إلى المختلف طائفيا على أنه الآخر، يوقعنا في أسر طائفية تحجب ما يجمعنا معاً وهو أننا بشر، لدينا انتماءات مفروضة علينا، أحدها الطائفة، لكنها لا تحدد أصدقاءنا ولا أعداءنا، ولا تؤثر في خياراتنا.

-VI-

المشكلة الكبرى أن انتزاع سورية من السوريين يلغي آفاق الحل، ولا يضع تصوراً قابل للحياة. وحتى إذا تجاوزنا الواقع السياسي المهلهل، والاحتلالات الناشئة عنه، واردنا اجتراح تصور ما، فنحن مضطرون الى تأمل الحاضر. المحبط، انه لا يبشر بتسوية تسمح لنا بالانتقال الى مستقبل لا يعيد الماضي، فالأوضاع الحالية تكرس تكراره. هذه الوصفة المريرة، يستحيل التكيف معها إلا باستبعادها كلية.

التفكير بسورية أخرى، هي سورية التي أردناها دائماً، قد تبدو اليوم أشبه بحلم، دولة ديمقراطية علمانية، يسود فيها القانون، لكن يجب ان نجعلها أمراً واقعاً، نعمل له ونسعى اليه. لذلك لا بديل عن متابعة الثورة السلمية، الحل الوحيد لسورية المستقبل.

المجتمع الدولي شارك في تدمير سوريا

المجتمع الدولي شارك في تدمير سوريا

-I-

ما جرى في سوريا ثورة بكل معنى الكلمة، والأحداث الدموية التالية ليوم 15 آذار 2011 والمستمرة حتى اليوم تؤكد ذلك ولا تنفيه، بل إن كل ما جرى دليل على أن الثورة تأخرت ما لا يقل عن ثلاثين سنة.

أكثر من ذلك، كل أحداث عام 2017، وما يبدو أنه تحول جذري في موازين القوى، وبوادر انتصار النظام الأسدي وحلفائه، هو دليل على أحقية الثورة حتى لو استبق بعضنا الأحداث وقرر أن الثورة هُزِمت.

صحيح أن وقائع ما بعد سيطرة النظام الأسدي على حلب في نهاية العام الماضي أثبتت أن هذه الثورة يتيمة، ومستحيلة، لكنها بدأت ثورة شعبية، بغض النظر عن عدم الإجماع عليها من كامل المجتمع السوري، وعدم الإجماع على تمثيل المعارضة للثورة. وساهم إصرار النظام الأسدي على الحل الأمني منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة، واتهامها بالطائفية، بتأجيج الغضب الشعبي على النظام الأمني، خاصة مع الأداء الإعلامي الهزلي، والفشل حتى في إدارة العمليات الحربية ضد مجموعات متفرقة من الفصائل المسلحة؛ كل ذلك دليل جديد على أن سوريا كانت تستحق دائماً نظام حكم، وقيادة، أفضل من المافيا التي ظلت تبيع الشعب السوري شعارات طوال 41 سنة منذ 1970 حتى 2011، فيما تعتقل أصحاب الرأي، وتوزع المكاسب والمحسوبيات على المؤيدين لها، وتقبض الأتاوات من رجال الأعمال السوريين، والرشاوى من رجال الأعمال العرب، وغير العرب، في سلسلة فساد لم تعد أي معالجة تفيد في لجمها.

لكن لابد من الاعتراف بذكاء النظام، ومهارته في إدارة معركة الشر، وشيطنة الثائرين عليه، حين صنع ظاهرة داعش والنصرة، وبدأ بتصديرها إلى العالم الغربي، قبل أنصاره، لوضعهم أمام خيارين: إما داعش أو أخواتها، أو بقاء النظام، في ترجمة حرفية لما أطلقه شبيحته منذ الأيام الأولى للثورة الأسد أو لا أحد.”

أما عن الوضع الحالي، أو الوقائع على الأرض، ومع اقتراب الثورة من إتمام سنتها السابعة، فلا يوجد ما يثير التفاؤل، على الرغم من تحجيم قوة المعارضة العسكرية إلى درجات دنيا، والسعي إلى سوق مؤسسات: الائتلاف المعارض، والهيئة العليا للمفاوضات، إلى التسليم ببقاء النظام حتى عام 2021، مع إمكانية ترشيح بشار الأسد لفترة رئاسية جديدة، والاعتراف بدستور 2012. هذا يعني أن الآلام التي عاناها السوريون كانت بلا ثمن، وأن تحطيم المجتمع السوري بالطريقة التي تم فيها سيعني أن النظام الأسدي سيحكم إلى الأبد، بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس بالمجاز الذي حاولت ثورة الشعب السوري تحطيمه.

-II-

من الصعب توقع حسم عسكري لأي من طرفي الحرب على سوريا، فلا النظام وحلفاؤه في إمكانهم استطاعوا حسم المعركة عسكرياً، ولا المعارضات بشقيها المدني والعسكري قادرة على ذلك.

هذا يعني أن الحل سياسي برعاية روسية أمريكية بالضرورة تبدأ بإجبار الطرفين على إيقاف القتال. وفي ما يتعلق بروسيا، عليها إجبار النظام الأسدي على سلوك طريق الحل السياسي، وليس كمناورات لكسب الوقت كما فعل في اجتماعات جنيف منذ صيف 2012. أما المعارضة فلا تحتاج إلى إقناع بجدوى الحل السياسي، بعد أن أدركت استحالة حسم القتال لمصلحتها منذ خسارتها معركة حلب أواخر عام 2016، خاصة اليوم بعد تجفيف مصادر الدعم المالي والعسكري عنها.

لكن الحل الأكثر عدالة لمستقبل ما تبقى من السوريين هو تشكيل مجلس رئاسي مهمته تشكيل لجنة لكتابة دستور موقت للبلاد، والإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة. يليها حوار وطني شامل غايته المحافظة على وحدة البلاد، إن كان بصيغة فيدرالية، أو لا مركزية إدارية.

لكن ذلك لا يكون إلا بإيقاف الحرب أولاً، وتيسير عودة النازحين، وما أمكن من اللاجئين، وتقديم كل ما يلزم لهم من مساعدات في بيئة خالية من السلاح، ومن الشبيحة، ومن الميليشيات.

-III-

الحل يبدأ بإيقاف الحرب، بع اتفاق سياسي على جدول زمني لإزاحة النظام بكل رموزه من حكم سوريا. يلي ذلك ترتيبات لسحب سلاح الميليشيات من الطرفين، كبداية لاستقرار قد يستغرق سنوات قبل أن ينسى السوريون تفاصيل الحرب، وقبل أن تختفي آثارها من عيونهم ونفوسهم.

لكن هذا الأمر لن يسمح النظام بمروره دون ضغط روسي أمريكي عليه.

ولأن النظام يريد تصديق أنه انتصر على الفصائل المسلحة، متناسياً الدور الروسي الأمريكي في الضغط على الفصائل، وسحب تسليحها للقبول بـمناطق تخفيف التصعيد، ينبغي على موسكو وواشنطن إعادة النظام إلى الواقع، خاصة أن ظاهرة تنظيم داعش، كـدولة، في آخر فصولها، وبعدما تكشفت أوراق ارتباط النظام بداعش بوضوح بعد ترحيل أكثر من 300 من عناصره باتفاق بين حزب اللهوالتنظيم السلفي القاعدي، وعبور هؤلاء العناصر غرب سوريا إلى شرقها تحت نظر وسمع النظام، وحليفه الروسي، وحليفه الإيراني، بل وانضمام 113 من هؤلاء إلى ميليشيات النظام بشرط ألا يقاتلوا في ديرالزور. هذه النقطة الأخيرة تعني أن هؤلاء مستعدون فقط لقتال فصائل الجيش الحر، وربما جبهة النصرة، كما كان يفعل داعش منذ ظهور في سوريا قادماً من العراق عام 2013.

ولأن النظام لا يقبل سوى بـنصر كامل، واستسلام المعارضة دون قيد أو شرط، وربما محاكمة المعارضة بتهمة الخيانة، فإن الوضع مرشح للتفجر لشهور أو سنوات، كون المعارضة لا تنوي الاستسلام، وتقاوم الآن الإملاءات السعودية للتسليم ببقاء الأسد، فضلاً عن مقاومة الجيش الحر للإملاءات الأمريكية، وغرفة موكبالانسحاب إلى الأردن وتسليم المناطق التي يسيطرون عليها لقوات النظام الأسدي والميليشيات الداعمة له.

ورقة داعش في يد النظام لم تحترق كلياً، بدليل أن المدن التي دمرتها غارات طيران التحالف ومدفعية قوات سوريا الديموقراطيةأصبحت خالية من داعش، بل من جثث عناصر التنظيم، ولا يوجد لدى قسدأسرى من داعش. هذا يعني أن عناصر داعش غيروا مقرات إقاماتهم في انتظار أوامر النظام، في حال رغبت روسيا أو أمريكا، أو كليهما، فرض حل سياسي يزيح النظام من حكم سوريا، وعندها سيلقي النظام بوصفته السحرية في وجه أمريكا وروسيا، وهو على استعداد لمحاربة إرهاب داعش لألف سنة قادمة على أن يتخلى عن مزرعته السورية.

-IV-

اصطف المثقفون السوريون في أغلبهم بين مؤيد ومعارض، على عكس فئة وازنة من السوريين التي اختارت الصمت.

ومعيار الاصطفاف هنا أخلاقي أولاً، دون أن ننفي وجود جانب سياسي لدى بعض المثقفين من الطرفين. أخلاقياً، لا شك أن المثقفين الذين اختاروا الثورة ولم يغيروا من موقفهم تبعاً لتسلسل الوقائع الدموية هم الذين فازوا، على عكس مثقفين غيروا موقفهم من الثورة بحجة التسلح، على الرغم من أن وحشية النظام أعطتهم مئات الفرص كي يراجعوا موقفهم الأخلاقي.

سياسياً، ليس في يد المثقف المعارض، أو المؤيد، أن يفعل شيئاً. وربما عليه ألا يفعل شيئاً في السياسة، وأن يقتصر دوره النقدي على تقديم شهادته الأخلاقية والإنسانية تجاه البلاد، والناس، ومستقبل الأجيال الصغيرة. السوريون طالبوا بكرامتهم، كشعار وحيد لثورتهم،  وكخطوة في اتجاه الديموقراطية، وحكم القانون الذي يساوي بين كل السوريين، فهل يبرر هذا الطلب قتل أكثر من نصف مليون سوري، وجرح أكثر من مليون، ومعاناة أكثر من 750 ألفاً من إعاقات دائمة، واعتقال أكثر من 300 ألف سوري، ومقتل عشرات آلاف المعتقلين تحت التعذيب، وتشريد أكثر من 12 مليون بين نازح ولاجئ. مآسي هذه الفئات جميعاً جرى أغلبها على يد النظام الأسدي. والمثقفون في الجهتين يعلمون بذلك، لكن فئة من المثقفين المنحازين للنظام تصمت عن إطلاق إدانة أخلاقية ضد النظام، ربما لأن الإدانة الأخلاقية تستتبع إدانة سياسية، ومطالبة بمحاكمة المجرم على جريمته، وهذا ما يحاول هؤلاء تجنب التورط فيه.

-V-

على الرغم من كل الدم الذي دفعه السوريون، وتدمير جزء كبير من البنية التحتية للبلاد، وخروج أكثر من خمسة ملايين طفل من المدارس منذ أكثر من ست سنوات، لا أعتقد أن المشكلة بين السوريين، بل بين فئة من السوريين والنظام الأسدي، الذي اختطف الدولة والمجتمع السوريين ورهنهما لمصلحة عائلة تريد احتكار السياسة والاقتصاد إلى الأبد.

واليوم، لم يتغير شيء عن 2011 وما قبل في ما يتعلق بالعلة السورية، كون النظام لا يزال يسيطر على العاصمة، ويتقدم بدعم حلفائه، وتخاذل حلفاء المعارضة، ولن يتغير شيء مادام النظام يجد الدعم الروسي غير المحدود. أما السوريون، في المعارضة والموالاة، والفئة الصامتة، فلن يجدوا الوقت للتلاقي ومحو الأحقاد ما دام النظام، بمخابراته، ودساتيره التي تفرق بين السوريين، وممارساته التي تعطل الدساتير التي يفصلها على مقاس الرئيس وعائلته.

لكن بزوال النظام الأسدي، ومحاسبته على جرائمه، سيلتقي الناس، ويتم وضع دستور مدني مرحلي، ثم دائم، وتتم محاسبة مرتكبي جرائم الحرب من الطرفين. ولا أشك أن التسامح سيسود، بصفته حقاً وخياراً فردياً، على الرغم من تخوف بعض السوريين من انتقامات فردية قد تحصل دون أن تشكل قاعدة.

-VI-

أخطر ما قد ينتج عن تأجيل العملية السياسية في سوريا هو استقرار قسم كبير من اللاجئين في أوروبا، ودول الجوار، ودول عربية، وهذا هو الأرجح. بالطبع، قد نستثني سكان المخيمات، وخاصة في لبنان والأردن، فهؤلاء سيعودون خلال وقت قصير بعد وقف إطلاق نار حقيقي.

ومصدر هذا الخطر، في رأيي، أن إعادة الإعمار لا معنى لها دون عودة السوريين، وكل حديث عن مؤتمرات للمانحين لإعادة الإعمار غير مجدية دون مشاركة أصحاب المصلحة في الإعمار. أما الإعمار الذي يتولاه فساد الداخل والخارج، كما جرى في العراق، وفي أفغانستان، فسيبتلع كل المليارات، إن أتت، من خلال دورة فساد ستسير في قنوات سرية يعلمها المجتمع الدوليلأنه شارك في تدمير سوريا، وسيطالب بحصته من أموال المانحين، وسيأخذها على شكل مقاولات لن تتم، وبالتالي لن تصل تلك الأموال إلى النازحين أو اللاجئين، هذا إذا قرروا العودة أصلاً.

المثقفون انحازوا لهذه الطائفة أو تلك

المثقفون انحازوا لهذه الطائفة أو تلك

-I-

كلما نظرتُ إلى ما يجري في سورية الآن يُخيل لي أنني أشاهد كابوساً فظيعاً، فيلم رعب وأكشن طويلاً.. مع هذا أعتقد أننا قد تخطينا ما هو الأسوأ في هذه الحرب نحو السيء وهذا ضمن الظروف الحالية أمر جيد نوعاً ما.

أعتقد أن الاستعمار مطلع القرن الماضي اشتغل بذكاء على إرباك هذه المنطقة لزمن طويل منذ تقسيمها بشكل غير منطقي، والتلاعب بحدودها، دول تم ابتكارها من خلال شخوطة أقلام على أوراق الخرائط مراعاة لمصالح دولية ذات أبعاد اقتصادية بالدرجة الأولى، وخلق كيان سرطاني (اسرائيل) مع ظهور النفط ونهاية الحرب العالمية الثانية، ووضع مجموعة ألغام تنفجر تواً في هذه الدول (ألغام دينية وقومية وجغرافية، ويمكن مائية أيضاً)، ثم وأد الديمقراطيات الأولى في هذه الدول، وتمكين العسكر عليها، والأحزاب الشمولية ذات العقلية الإلغائيةالخ مما أدى بنا لنصل إلى دول دونما ديمقراطية ومواطنة ومجتمعات متقدمة.. مهددة بأي لحظة تاريخية بالانهيار (كدول وكمجتمعات).

– II-

حالياً وبالدرجة الأولى على المدى القصير: يجب العمل على إيقاف إطلاق النار بشكلٍ نهائي وذلك من خلال قيام الجهات الخارجية المعنية بالحرب بالضغط على النظام والفصائل المسلحة، وثم مساعدة كل الأماكن المنكوبة وإعمارها وعودة أهلها لها.

على المدى البعيد، إخراج كل الأجانب من سوريا، ثم مرحلة انتقالية يتم خلالها انتقال السلطة وتداولها عبر انتخابات ديمقراطية، تقوم على أسس المواطنة وعلمانية الدولة وفصل الدين عن الدولة ضمن دستور جديد حديث يحترم كل أطياف المجتمع.

-III-

لا أعتقد أنه سوف يحدث أسوء مما حدث، أظن أن المرحلة الأسوأ قد مرتْ، من الوارد أن تظل الأوضاع سيئة لكن الأسوأ قد مضى.

-IV-

أعتقد أنه في الحروب لا يمكن للمثقف أوللثقافة عموماً لعب دور مهم، الأدوار الأهم هنا تكون للأسلحة والمسلحين من كافة الأطرافالخ.

وأظن أن عدم وجود دور فعال إيجابي للمثقف وللثقافة في وجه الحرب، يظل أفضل من الدور السلبي الذي برز مع بداية الحرب وخلالها كان يعلو ويعلو، دور سلبي لمثقفين كثر، عجزوا لأسباب عدة من الانحياز لبرنامج وطني ديمقراطي ينقذ البلد، قولاً وسلوكاً وتفكيراً، وإنما ــ بدور سلبي غريب ــ انحازوا لهذه الطائفة أو تلك.

عموماً، الثقافة تلعب دوراً مهماً في المجتمعات المستقرة، أعتقد حالياً أننا نحتاج لمؤتمر واسع للمثقفين السوريين من كل البلاد، من أولئك الذين لم ينحازوا للديكتاتورية، وأولئك الذين لم يشاهدوا في الفصائل المتطرفة حركات تحرر أو خلاص أو حرية.

-V-

هذا الأمر لا يمكن أن يتم دون إيقاف الحرب، ودون انتقال تدريجي للسلطة، ودون لجم كل الفصائل المتطرفة.. إن عبرنا كل هذه المعوقات يمكن العمل على بناء مجتمع جديد تسوده ثقافة التسامح من كل الأطراف التي تأذت من الحرب من هذه الطائفة أو تلك، من هذه القومية أو تلك، تماماً كتجربة جنوب أفريقيا، التي أوصلتها ثقافة التسامح لأن تصبح في مدة زمنية متواضعة لأن تكون أحد أكثر دول العالم تقدماً، بعد حرب وديكتاتورية عانتْ منها طويلاً.

-VI-

لا أستطيع أن أجزم بشكل نهائي كيف سوف يكون مستقبل سوريا، لا يقين لدى أحد في هذا الأمر، يمكن التقسيم، من الوارد كونفدراليةالخ.

يمكن للواحد هنا أن يتمنى فقط..

أنا أتمنى بعد كل هذا النزيف والخراب والدمار والتشرد والآلام والعذابات، أن نصل إلى دولة سورية تعوض إنسانها و مجتمعها عن كل ما مر به من كوارث في هذه السنوات السوداء القليلة.. تعويض بأن تنهض به وترتقي فيه بكل المجالات، دولة سيدة نفسها، ومجتمع سيد نفسه، وإنسان سيد نفسه.

العائدون إلى الرقة ينفضون الغبار عن مدينتهم… الغريبة

العائدون إلى الرقة ينفضون الغبار عن مدينتهم… الغريبة

“يجهز علي الحمد (42 سنة) وزوجته أميرة أغراضهما القليلة المتناثرة في خيمتهما بمخيم عين عيسى الواقع على بعد 50 كيلومتراً، شمال غربي مدينة الرقة. العائلة الصغيرة المؤلفة من أب وأم وثلاث بنات قررت أخيراً العودة إلى منزلها في حي المشلب، بعد سماعهم نبأ السماح بعودة المدنيين بُعيد تنظيفه من الألغام.

رافقت صحيفة «الشرق الأوسط» رحلة عائلة علي. وأثناء نقل الحقائب إلى السيارة الخاصة التي أقلتهم إلى الرقة، كانت دقات قلوبهم تسبقهم إلى طريق العودة، تاركين وراءهم ذكريات النزوح القاسية في المخيم الذي قضوا فيه قرابة ستة أشهر بانتظار هذه اللحظة، وينقل علي مشاعره المختلطة بالقول: «شعور فرح ممزوج بالخوف، قطعنا رحلنا طويلة حتى هربنا من نيران الحرب، أما اليوم أخشى أن تكون تلك النيران طالت منزلي».

في الطريق، وعندما وصلوا إلى مدخل الرقة الشرقي، أوقفتهم نقطة تفتيش تابعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، ودققت في الأسماء والهويات ليسمح لهم بعدها بالعبور إلى حي المشلب الذي يُعتبر علي واحداً من سكانه، ويضيف: «سمعنا أن سكان الأحياء المسموح لهم بالعودة هم المشلب والطيار والجزرة، أما باقي المناطق يُمنع دخولها لأن فرق نزع الألغام لم تنتهِ بعدُ من عملها».

في الطريق بدت أطراف الرقة أقل تضرراً. المعارك التي استمرت نحو أربعة أشهر بين يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) العام الحالي، تركزت في مركز المدينة، أما حي المشلب الواقع في الجهة الشرقية للرقة كان من بين أول الأحياء التي تحررت من قبضة تنظيم «داعش»، على يد «قوات سوريا الديمقراطية»، بدعم وغطاء جوي من طيران التحالف الدولي بقيادة أميركا، الأمر الذي بعث تفاؤلاً عند علي وزوجته.

في مدخل الحي ارتسمت علامات الراحة على وجوههم، بعد مشاهدة كثير من المنازل والمحال التجارية التي سلمت من القصف ولم تتعرض للدمار، وكان عدد صغير من الأطفال يتراكضون في ساحة الحي، يمشي بجوارهم عدد من المدنيين الذين انشغلوا بتفقد ممتلكاتهم.

وصلت العائلة إلى المنزل وعند إدخال المفتاح في قفل الباب لم تصدق المشهد، فقد نجا المنزل من القصف، والشارع لم يتضرر كثيراً، ويصف علي لحظات فرحه قائلاً: «الحمد لله البيت على حاله، زجاج الشباك والأبواب تعرض للكسر جراء ضغط الانفجارات، لكن كل شيء على ما يرام»، فيما نقلت زوجته أميرة أنها لا تعطي فرحتها لأحد، وقالت ودموع الفرح تنهمر من عينيها: «كان حلماً أن نرجع للبيت، وإنّ شاء الله كل أهالي الرقة يرجعون بسلام وأمان».

طمأنينة وأمان!

عاد المئات من المدنيين إلى أحياء الرقة بعد الانتهاء من عمليات نزع الألغام وتمشيط المنازل والمحال التجارية، ليكونوا أول دفعة من السكان العائدين إلى المدينة، وبحسب مجلس الرقة المدني يُقدر عدد العائدين بنحو 4 آلاف شخص غالبيتهم من المشلب.

وعلى غرار علي، ينتظر النازحون في مخيم عين عيسى أن يتمكنوا من العودة إلى مدينتهم في أقرب وقت ممكن، وأكد جلال العياف مدير مخيم عين عيسى، أنّ «عشرات من نازحي الرقة يعودون يومياً إلى مناطقهم، بالأخص المناطق الواقعة في محيط الرقة والمزارع المجاورة».

وتمكنت «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم قوات عربية وكردية ومسيحية في 17 أكتوبر، من طرد عناصر تنظيم «داعش» المتشدد من الرقة إلى بادية الفرات والمناطق الحدودية مع العراق.

وعبر كثير من أبناء حي المشلب عن فرحة مشوبة بالحذر، لأن إعادة الاستقرار والأمن إلى المناطق التي تخرج عن سيطرة «داعش» ونشر الطمأنينة والسلام بين الأهالي، تتوقف إلى حد بعيد على انضباط قوات الأمن الداخلي من جهة، ومدى قدرتها على الدفاع عن هذه المناطق من جهة ثانية، إلى جانب وجود إدارة مدنية تحظى بقبول أبنائها.

وتسلم مجلس الرقة المدني وجهاز الأمن الداخلي، في 20 من الشهر الحالي، إدارة المشلب إلى جانب حي الجزرة والطيار رسمياً من «قوات سوريا الديمقراطية»، ولدى لقائها مع صحيفة «الشرق الأوسط»، قالت المهندسة ليلى مصطفى رئيسة المجلس، إنّ «القوات ومنذ إعلان تحرير الرقة الشهر الماضي من التنظيم الإرهابي، تعهدت بتسليمها لمجلس الرقة المدني، وسوف تتحمل قوات الأمن الداخلي مسؤولية الحفاظ على الأمن العام وإعادة الطمأنينة بين الأهالي».

وبحسب رئيسة المجلس، «قامت لجنة الخدمات بأولى أعمالها في حي المشلب والجزرة والطيار، من خلال تنظيف وإزالة السواتر الترابية ورفع الأنقاض والقمامة المتراكمة في الشوارع ليتم نقلها إلى خارج المدينة في مكان مخصص لها».

وتتوقع ليلى مصطفى أن يتطلب تنظيف الرقة وإعادة إعمارها جهوداً ضخمة، وشهوراً عدة قبل أن تعود الحياة الطبيعية إلى شوارعها.

بدوره، أشار عمر علوش رئيس لجنة العلاقات في مجلس الرقة المدني، إلى أن المجلس يعمل خلال الفترة المقبلة على إعادة هيكليته من خلال تشكيل مجلسين: مجلس تشريعي وثانٍ تنفيذي لإدارة الرقة، وأوضح: «منذ بداية تشكيل المجلس بشهر أبريل (نيسان) الماضي، ورد في البيان التأسيسي أنه ستتم إعادة هيكلة المجلس بعد تحرير الرقة، لأن القسم الأكبر من أهالي المدينة لم يشاركوا في التأسيس كونها كانت محتلة من قبل تنظيم داعش المتطرف».

مهمات وتحديات

قدم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، إلى مجلس الرقة المدني آليات ثقيلة على أربع دفعات بلغ عددها حتى اليوم نحو 50 سيارة وصهريجاً لنقل مياه الشرب، بهدف بدء العمل داخل شوارع الرقة وإزالة أكوام الركام من جميع أحياء المدينة وتنظيفها، الأمر الذي سيُسهِم في تسريع عودة الأهالي إلى منازلهم.

ويشرح المحامي إبراهيم الحسن رئيس لجنة إعادة الإعمار في مجلس الرقة، عمل اللجنة، وأنها نقوم حالياً بتأهيل البنية التحتية من شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، ويقول: «عندما يتم الانتهاء من هذه الأحياء الثلاثة سيتم نقل جميع الآليات إلى مركز المدينة لتنظيف الشوارع التي انتهت فيها عمليات إزالة الألغام ليصار إلى عودة المدنيين إليها». وتقوم خطة المجلس المدني على فتح الشوارع الرئيسية وعددها 23 شارعاً، ثم الانتقال إلى المداخل الخارجية وعددها 10، ولقد حددت لجنة الخدامات مكبين لتجميع الركام والأنقاض، مكبّاً في المدخل الشرقي والثاني في الجهة الغربية، وكانت قبل الحرب مخصصة لرمي النفايات والقمامة، وحددت الخطة جدول زمنيي مدته 45 يوماً للانتهاء من فتح الشوارع، بينما أردف إبراهيم الحسن بالقول: «بتصوري الشخصي سنحتاج إلى 3 أشهر كحد أدنى حتى تفتح الشوارع والمداخل الرئيسية ليتمكن الأهالي من العودة إلى منازلهم».

ويعم الدمار مدينة الرقة بالكامل، ما يجعل من الصعب التعرف على معالمها، لكن من الممكن تحديد بعض الأماكن من خلال لافتة تشير إلى عيادة طبيب، أو بقايا قماش وآلات حياكة في متجر.

وتغيب المياه عن الرقة منذ أشهر عدة، ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الآبار للاستخدام قبل بدء الهجوم الأخير على المدينة في يونيو الماضي، ويشرح المهندس ياسر الخلف من لجنة المياه، أنّ الورش الفنية قامت بإصلاح المضخة الجنوبية لإعادة المياه إلى قرية الحمرات وحي المشلب، وقال: «حالياً ستعمل شبكة المياه في الأحياء الثلاثة من 5 إلى 6 ساعات يومياً، وخلال الأيام سنستمر في إصلاح الخطوط المكسورة»، منوهاً بوجود كثير من الخطوط المتضررة داخل المدينة.

أما لجنة الأفران والمطاحن التابعة لمجلس المدني قامت بتشغيل ثلاثة أفران آلية: فرن السباهية وفرن حاوي الهوى وفرن المشلب، وتنتج يومياً نحو عشرة آلاف ربطة خبز توزع مجاناً على الأحياء التي عاد إليها سكانها ومخيمات النازحين.

ولفت صبري محمد رئيس لجنة الأفران أنّ هذه الأفران تستهلك نحو 70 طناً من مادة الطحين. وقال: «تم اتخاذ عدة خطوات لتلبية حاجات الأهالي ريثما يتم تأهيل الأفران المركزية في المدينة»، وشدد على أنّ مجلس الرقة يدعم مادة الخبز ويتحمل جميع النفقات المالية، مشيراً: «يتم توزيعها عن طريق مندوبي الحي الذين تم اختيارهم من قبل المجالس المحلية التي تشكلت فور عودة المدنيين».

رعب وذكريات

في ساحة دوار النعيم وسط الرقة، علقت شاشة تلفاز سوداء اللون يقابلها مجموعة من المقاعد في مشهدٍ أشبه بدور السينما. بحسب أهالي المنطقة كانت هذه الشاشة تعرض نوعاً مختلفاً من الأفلام ليس كوميدية أو درامية، بل كانت تعرض مشاهد لقطع الرؤوس وجز الرقاب ومقاطع دعائية خاصة بتنظيم داعش المتطرف.

وعلى مسافة قريبة من الشاشة، يبدو أن التنظيم قد حول غرفة صغيرة إلى نقطة إعلامية، ونقل عدداً من سكان دوار النعيم أنه كان يقف مقاتل من التنظيم في شباك التذاكر ويقوم بتوزيع حافظات الذاكرة (فلاشات) بالمجان، المفاجأة الصادمة أنها كانت تحوي إصدارات التنظيم الأكثر دموية، وبحسب هؤلاء السكان كان كثير من الشبان «الفضوليين» في مقتبل العمر يتوافدون لأخذها والتفرج على محتواها.

ومنذ سيطرته على مدينة الرقة في شهر يناير (كانون الثاني) 2014، بعد معارك عنيفة مع مقاتلي المعارضة الذين كانوا قد استولوا عليها من النظام في شهر مارس (آذار) 2013، عمد تنظيم داعش إلى بثّ الشعور بالرعب من خلال نشر صور وأفلام مروعة، مثل مشاهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً بشهر فبراير (شباط) 2015، وتعليق رؤوس جثث عشرات الجنود السوريين – أشباه عراة – الذين أُسِروا في مطار الطبقة العسكري في يوليو (تموز) 2014، وتصفية عشرات المواطنين الأجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إغاثة.

يروي منصور (45 سنة) وهو من سكان حي النعيم، ويعمل اليوم حارساً في المنطقة، أنه كان شاهداً على بداية سيطرة التنظيم على مسقط رأسه، ليقول: «مشهد الدبابة العسكرية التي دخلت دوار النعيم وقامت باستعراض عسكري لن أنساه مهما حييت، يوم ذاك كنت واقفاً على شرفة منزلي المطل على الساحة، لأشاهد بعدها أبشع جرائم التنظيم من قطع الرؤوس والأيدي والأحكام القاسية التي كان ينفذها».

ويضيف أنّ مسلحي التنظيم أصبحوا أكثر عدوانيةً في تعاملهم مع السكان المحليين، حيث توقفوا في مرحلة ما عن إرسال الجرافات والشاحنات لإزالة حطام المباني المهدمة، وإنقاذ حياة المدنيين المطمورين تحت الركام بحجة القتال، لكنهم كانوا يخشون من قصف الطيران. بيد أنّ الملعب البلدي في الرقة، الذي يقع في مركز المدينة، تحول لأحد أبرز معالم التنظيم رعباً، بعدما اتخذه سجناً لتنفيذ أحكامه وعقوباته المشددة على كل من يعارضه أو مقاتليه الذين كانوا يخالفون قوانينه وتشريعاته.

وافتتح الملعب سنة 2006، وكان مخصصاً لمباريات وتدريبات نادي الشباب في الدوري السوري، وبعد سيطرة «داعش» على الرقة تعددت أسماؤه، إذ كان يسمى بـ«الملعب الأسود»، في إشارة إلى الحقبة السوداء التي مارسها متطرفي التنظيم، كما كان يطلق عليه (النقطة الأمنية رقم 11)، ويرجح عدد من سكان المنطقة إلى وجود 10 نقاط سرية ثانية كانت مخصصة للاحتجاز آنذاك، وبني عناصر التنظيم سجن كبير تحت الملعب، قسموه إلى مهاجع ومنفردات واخترعوا أبشع وسائل التعذيب.

شهادة ناجٍ من قبضة «داعش»

تُعدّ مرحلة الاستقبال داخل سجون «داعش» هي الأسوأ على الإطلاق حسب شهادات ناجي منها، حيث يقف المعتقل معصوب العينين ومكبّل اليدين أياماً قد تصل إلى أسابيع دون ماء أو طعام إلا في أوقات الصلاة.

يروي المحامي فيصل (38 سنة) الذي سُجِن مدة شهرين في الملعب الأسود، صيف عام 2015، أنه تردد في إحدى المرات على مقهى إنترنت لإجراء مكالمة مع قريب له لاجئ في إحدى الدول الأوروبية، سرعان ما دخلت دورية تابعة لـ«جهاز الحسبة»، والأخيرة كانت معروفة بالشرطة المحلية لدى التنظيم، واقتادوه إلى السجن بتهمة التخابر مع جهات معادية للتنظيم.

يقول فيصل: «أساليب التعذيب لدى (داعش) تبدأ بالضرب المبرح دونما شفقة، حتى إنهم كانوا يستخدمون وسيلة (البلنكو) وهي عبارة عن قطعة حديد مخصصة عادةً لحمل محركات السيارات، لكن في السجن كان لها استخدام آخر حيث يرفع السجين من يديه المكبلتين ليفقد توازنه ويبقى في هذه الحالة لساعات حتى يفقد وعيه».

وبعد طرد عناصر تنظيم داعش من مدينة الرقة قبل شهر، تمكن المحامي من دخول سجن الملعب الأسود، ويصف مشاعره المشوشة: «عندما أدخلوني إلى قبو الملعب، غالبتني روائح الموت والصوت الوحيد المسموع كان آهات المعذبين وصراخ السجانين، المحقق آنذاك قال لي: لماذا لا أعلم إن الاتصال الخارجي ممنوع؟! وهذه كانت تهمتي».

وقال ع. ع، وهو قيادي «داعشي» ينحدر من دولة المغرب وكان يشغل أمير الحدود في التنظيم، ومسجون حالياً لدى قوات سوريا الديمقراطية، في حديث سابق مع صحيفة «الشرق الأوسط»، إنّ التنظيم «كان يسجن عناصره الذي يرتكبون المخالفات، أو ممن لا ينفذون أوامر قادتهم العسكريين، أما بالنسبة للإعدامات الميدانية كانت تتم بشكل شبه يومي، كما اشتهر بوسائل التعذيب الشديدة كوضع السجين في أقفاص لأيام أو ربطه من يديه لساعات».

ولا تزال كثير من كتابات التنظيم منتشرة على جدران المنازل والمرافق العامة في الرقة، لتذكير أبنائها بحقبة سوداء قضوها في ظل «خلافتهم الإسلامية» كما زعموا، فكانت العبارات المكتوبة تحاول تعزيز مفهوم «داعش» في نفوس الأطفال والمراهقين عن طريق عبارات تبشرهم بالجنة، وتوهمهم بوعود كاذبة، وتحذر النساء بضرورة التقيد باللباس الشرعي، وتحض الشباب والرجال على «الجهاد» والالتحاق بصفوف التنظيم.

تغيّر معالم الرقة

بدت آثار الدمار وحدها طاغيةً على شوارع وأزقة الرقة التي أصبحت مكسوة بالحطام، إلا أن الجرافات شقّت طريقها وسط تلك الشوارع، في حين لا توجد أي علامات لحياة داخل المدينة، سوى تجول بعض المقاتلين العسكريين من «قوات سوريا الديمقراطية»، وقد كانوا يتناوبون على حراستها، أما الأصوات الوحيدة التي كانت تُسمَع فهي أصوات انفجار العبوات التي تفككها فرق إزالة الألغام.

وباتت الرقة مدينة خاوية على عروشها، لم يتبقَّ منها سوى الأطلال وآثار الدمار، إذ إن الخراب يحيط بها من كل جانب، بدءاً من سور بغداد الذي ظلّ شاهداً على سنوات حكم التنظيم المتشدد مروراً بمتحف الرقة الذي قام عناصر «داعش» بسرقة محتوياته بالكامل دون الاكتراث بالقيمة التاريخية الخاصة بمقتنياته، بالإضافة إلى ساحة الساعة التي باتت مدمرة بالكامل بعدما شهدت أولى الإعدامات الميدانية المريعة من قبل عناصر التنظيم بداية حكمه. أما «سوق الرقة القديم» و«السوق المسقوف» الذي كان يعج بالمحال التجارية وأهم العلامات التجارية الخاصة ببيع العباءات وأطقم الجلسات العربية، فقد دُمِّر تماماً وأصبح ركاماً بعد نهب محتوياته.

ويروي محمود (50 سنة) الذي كان يعمل سائق سيارة أجرة، كيف كانت الرقة سابقاً قبل العام 2011، فعندما كانت تدخل سيارته إلى «السوق القديم» تستغرق رحلته الشاقة ساعة لاجتيازه، أما اليوم يبدوا أن معالم المكان تغّيرت عليه، ولا تشبه مدينته التي كان يعرفها سابقاً.

تمكن محمود بعدها من الدخول وتفقد منزله الكائن في شارع الفردوس بعد حصوله على موافقة من «قوات سوريا الديمقراطية» الذي تمنع قاطنيه من العودة لانتشار الألغام والمفخخات المتفجرة.

وأنهى محمود حديثه بالقول: «طريق (السوق القديم) لم تعد كما كانت في البال، فالمشهد اليوم أشبه بمدينة أشباح، من الصعوبة التعرف على المحال ومعالم المكان الذي كان يضج بالحياة، أما اليوم باتت شاهداً على شدة المعارك داخل أزقة وحواري الرقة».”

سوريا: ساحة سوريالية لإعادة إنتاج المآسي

سوريا: ساحة سوريالية لإعادة إنتاج المآسي

-I-

لم تشهد سورية حالاً أشد دمامة من الذي تعيشه الآن، منذ تكونها ككيان سياسي حتى اليوم. ما يحدث اليوم يتجاوز ضياع فرصة أو احتمال قيام دولة مواطنة مدنية بدستور وقوانين عصرية يخضع لها ويحتمي بها جميع السوريين. ما يحدث اليوم يجسد هزيمة جديدة  لمشروع الالتحاق بالعصر، سواء انتصر النظام أو الميليشيات الإسلامية.

لاحظ معي أن دعاة  قيام الدولة المدنية الديمقراطية، على قلتهم، قد تشتتوا بفعل القمع الذي لم يبخل به أي من أمراء الحرب بما في ذلك النظام بطبيعة الحال.  واضح للجميع كما أعتقد أن النفوذ على وفي  سورية موضع تقاسم بين نظام دكتاتوري مهلهل تدعمه (وتشاركه النفوذ) ميليشيات دينية فاشية (إيرانية ولبنانية وعراقية بوجه خاص) لها طابع مذهبي، ناهيك عن الميليشيا المحلية وقوى إقليمية ودولية، وميليشيات معارضة يغلب عليها طابع التطرف الديني الفاشي والعداء للديمقراطية،  تتلقى بدورها الدعم بل والأوامر من قوى إقليمية ودولية تحت طائلة إيقاف الدعم.  وفي الوقت الذي يحقق  فيه النظام وحلفاؤه انتصارات عسكرية، يشارك حلفاء النظام وعلى نحو مباشر في حكم سورية بل يسهم بعض الحلفاء في فرض العديد من القرارات المتعلقة بحاضر ومستقبل سورية، إلى حد يغيب فيه السوريون في أي موقع كانوا، بما في ذلك النظام طبعاً، حتى عن نقاش حاضرهم ومستقبلهم في العديد من اللقاءات الدولية التي تنعقد بهذا الخصوص.

لم تتجاوز الدكتاتورية المهلهلة بنيتها، ولا أعتقد أنها ستفعل، وبالتالي لن تستجيب لمصلحة البلاد في التغيير الديمقراطي السلمي،  أما أغلب تيارات المعارضة فقد غلب عليها تبني الحلول العنفية والعسكرية التي فرضها حملة السلاح ومن يساندهم، وتمت تنحية أو شل فاعلية القوى التي تحمل مشروع التغيير الديمقراطي، بالقمع المباشر حيث مورس القتل والاعتقال والتهجير من قبل النظام ومن قبل التيارات الجهادية.  وتحول المجتمع السوري إلى ساحة سوريالية لإعادة إنتاج المآسي والقمع العاري بأبشع صوره من القصف بالأسلحة الفتاكة إلى التجويع والتركيع والموت تحت التعذيب، إلى الذبح بالسواطير، والتفنن في إدارة التوحش ومختلف أشكال احتقار وامتهان الكائن البشري. ولا يخفى على أحد كيف التحق بعض دعاة التغيير لإقامة دولة مدنية عصرية بالنظام، وبعضهم الآخر بالقوى الجهادية، ولم يفتقر أي منهم إلى الديماغوجيا لتسويغ موقفه الداعي إلى المزيد من القتل! وشكل ذلك كله مناخاً لانتشار الوباء الطائفي واستثماره وتعويمه.

نحن أحوج ما نكون إلى العقلانية، بصفتها بديلاً للعنتريات الفارغة أو للأحكام والأفكار السلفية، وعلى وجه العموم لا أرى مكاناً للعقلانية في صفوف الحركة الدينية التي هيمنت على المعارضة، بقوة السلاح والجهل والانحطاط، ولا في صفوف النظام الذي يفصّل العقلانية أو الدين أو ما شئت على مقاس ديمومة تسلطه.

يكابد السوريون اليوم، في سياق العنف العاري الذي يشهده المجتمع، مختلف أشكال القهر :السجن والموت والفقد والجوع والفقر والتشتت واللجوء والضياع.

وسورية الآن ساحة حرب دولية يتصارع من أجل النفوذ فيها وعليها قوى إقليمية ودولية، ضمن خارطة معقدة للتناقضات، فلكل ميليشياته وقواه وشروطه. وتتناقض المصالح والتوجهات ضمن الحلف الواحد: فالإيرانيون لا يريدون ما يريده الروس، والأميركيون لا يأبهون كثيراً للمخاوف التركية من تشكل دولة أو قوة كردية متاخمة لهم. أعتقد أن الحرب في سورية ستنتهي في المدى المنظور مخلفة بعض الجيوب التي ستستمر في ممارسة العنف، الأمر الذي سيسوغ ويتماشى مع استمرار الدكتاتورية.

بكثير من الأسى أقول إن كل شيء في سوريا أضحى منتهكاً أو معرضاً للانتهاك وخصوصاً الإنسان. يمكنك أن تتحدث عن انتهاكات تكابدها الغابات ومختلف الكائنات الحية الأخرى وعن انتهاكات طالت الجمادات من بيوت وآثار وحجارة بكر! أما الحديث عن السيادة الوطنية فقد أضحى مزحة أو جزءاً من هذه الكوميديا الشديدة السواد.

-II-

تبدأ خطوات الحل الأنجع، وأظنه بعيد المنال، بوقف الحرب على أن تضمن ذلك قوة عسكرية دولية تحت مظلة الأمم المتحدة، وعلى أن لا يكون هناك أي نفوذ لأي دولة أو ميليشيا خارجية داخل سورية، ويتم بعد ذلك مباشرة تشكيل حكومة انتقالية تتكون في ظلها  جمعية تأسيسية وتجري انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، ويتم وضع دستور مدني عصري يفصل الدين عن الدولة. سورية من أحوج البلدان ربما لدستور يقوم على أن في التعددية غنى وفي الأعراق والأديان والقوميات والثقافات حدائق لا بنادق، دستور لا يكرس سيطرة عرق أو دين أو قومية، ودولة قانون تساوي بين السوريين بصرف النظر عن الاعتبارات الدينية والعرقية والقومية والجندرية. إن البديل الوحيد للانتقامات والمظلوميات التاريخية هو دولة القانون. وأرى أنه لا بد من العدالة الانتقاليةولا بد من تحقيق الشرط السياسي والاجتماعي الذي يخلص سوريا من مفاهيم وشعارات الإبادة أو الاجتثاث والتعصب الديني أو القومي أو العرقي. أحياناً أرى أن الحل الواقعي يبدو مثل حلم بعيد المنال ولكني لا أرى حلاً آخر. فالتقسيم أو المحاصصة الطائفية أو الإخضاع بالقوة ليست إلا تأجيل للعنف وإعادة إنتاج له.

-III-

لا أعتقد أن سوريا ستشهد الاستقرار قريباً، يلوح في الأفق انتصار النظام، ويلوح في الأفق أيضاً الكثير من العنف بدوافع مركبة: ثأرية وانتقامية تخدم وتغذى في المحصلة من قبل أصحاب مصالح محددة. ولا أظن أن العنف سيأخذ بالضرورة شكل حرب جيوش بل أرجح أن تشهد البلاد حرب عصابات.

-IV-

على المثقفين أن يشكلوا كتلة بعيدة عن الاصطفاف وراء الدكتاتورية أو القوى الدينية ويعملوا ما بوسعهم لتكريس ضرورة قيام دولة المواطنة المدنية الديمقراطية بصفتها الحل الذي يمكن أن ينهض بسورية من الحضيض الذي تعيشه وتنظف المستقبل من طاعون الانتقام والتعصب الديني والقومي . عليهم كما أرى ممارسة مختلف أشكال النشاط المتاح في سورية وفي الشتات لتكريس الاهتمام بسورية واحدة تعددية وديمقراطية

-V-

إن استبدال الهوية الدينية أو المذهبية أو القومية أو العرقية بهوية المواطنة هو السبيل الوحيد أمامنا نحن السوريين ولا بد من خلق سياق قانوني وثقافي واجتماعي يجعل هذا الاستبدال أصيلاً وعميقاً، ولا أرى أن هذا الاستبدال ممكن في ظل هيمنة القوى الدينية أو في ظل هيمنة الدكتاتورية العسكرية. أعتقد أن تخليص الدولة والمجتمع من مقومات ومقدمات الدكتاتورية العسكرية أو الفاشية الدينية هو الخطوة التي لا بد منها للانتقال من ضيق ودمامة التشنج الطائفي إلى رحابة التعددية في مجتمع مدني لا يتم فيه قبول الآخر فحسب، بل يتم التعامل والتعاون معه في شتى الميادين. عندما تكون حرية التعبير جزءاً من نسيج الدولة والمجتمع، وعندما لا يخضع تشكيل الأحزاب لإرادة العسكر أو المشايخ بل لقانون أحزاب عصري فعلي، وعندما تنشأ الأحزاب المدنية القائمة على خدمة برامج اجتماعية واقتصادية محددة وتحل محل الأحزاب الدينية التي تبشر بأنها ستفرض بالعنف ما لا تقبله الحياة المعاصرة، سيحل الصراع السلمي تحت قبة البرلمان محل الصراع العنفي في الساحات والشوارع وسيكون لصناديق الاقتراع معنى. عندها ستناقش الآخر برنامجاً لبرنامج ، بالأحرى عندها لن يكون الآخر هو ابن الطائفة أو القومية الأخرى بل من يؤيد مشروعاً اقتصادياً أو اجتماعياً أو كونياً يختلف عن مشروعك.     

-VI-

لدي العديد من المخاوف فالقوى الفاعلة في الوقت الراهن لا تزرع سوى المزيد من الدمار الذي يطال الناس وبيوتهم وشوارعهم وأشجارهم (أكتب الآن والصواريخ تتساقط على نحو عشوائي على بلدة سلمية وعلى بعض مناطق الغوطة الشرقية على ذمة مواقع التواصل الاجتماعي) لا أعتقد بالتالي أن من يزرع الشوك سيحصد القمح أو الورد. إن الحضور المباشر لقوى مختلفة، ومصالح متناقضة على الساحة السورية، وانتشار ميليشيات دينية فاشية مؤيدة للنظام أو معارضة له، لا يبشر بالخير.

لا يزال النظام يمجد الخضوع، ولا أظنه سيتجاوز ذلك. ما معنى تمجيد التجانس في خطاب رأس النظام؟ المواطنة تقوم على التعددية لا على التجانس! لا أرى أن الحل بمعناه الدائم والأصيل يمكن أن يتم ويستمر بمعزل عن قيام دولة المواطنة وبمعزل عن التحول من رعاياإلى مواطنينعلى حد تعبير أستاذنا طيب الذكر أنطون مقدسي. عندها يمكن أن نكون محكومين بتطلعاتنا إلى المستقبل. ما لم نتمكن من تحقيق ذلك سنبقى أسرى أسوأ ما في ماضينا مثل رايات ثارات الحسينوفتاوى ابن تيمية المذهبية، وتجليها المعاصر في شعارات مثل عندك ناس بتشرب دم، وغير ذلك من الدعوات الوقحة للعنف.

لقد اجتمع السلاح مع الانحطاط الثقافي والأخلاقي، وأضحى تسويغ جرائم القتل الجماعي أمراً عادياً.

نحن أمام احتمالات عديدة، وأتمنى أن لا تصدق النبوءات السوداء التي تبدو واقعية ولها حظ في التحقق. آمل أن تبقى سوريا كياناً واحداً وأن تصبح التعددية من علامات الغنى الاجتماعي والثقافي لا عباءات تخبئ أحقاداً وقذائف تنشر الرعب وتوسع دائرة الجرائم.