“أنام لأهرب من الواقع والذكريات، فتلاحقني الكوابيس حتى في أحلامي” بهذه الكلمات تختصر علية الأحمد (26 عاماً) معاناتها بعد خروجها من ظلام سجنها الذي ذاقت فيه كافة أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وتضيف متحدثة عن معاناتها لـ“صالون سوريا“: “أثناء عودتي من جامعتي في مدينة حلب تم اعتقالي من قبل أحد حواجز النظام بتهمة التعامل مع الإرهابيين والخروج في المظاهرات، إضافة للرغبة بالانتقام من أخي الذي انشق عن صفوف الجيش وانضم لفصائل المعارضة .”
وتؤكد الأحمد أنها كانت في طريق عودتها إلى محافظة إدلب مع غيرها من الركاب حين تم إنزالها من السيارة، واقتيادها إلى فرع المنطقة في مدينة حلب ثم إلى السجن المركزي، وهناك تم التحقيق معها عدة مرات، كما تعرضت للضرب والشبح والحرق والصعق بالكهرباء، لإجبارها على البوح بمعلومات عن أخيها وغيره من المقاتلين في فصائل المعارضة.
قضت الأحمد في السجن حوالي سنة ونصف قبل أن تخرج بتاريخ 5 من شهر ديسمبر من عام 2019 ، وبعد خروجها من السجن لم تعاني الأحمد من مطاردة ذكريات الاعتقال فحسب، وإنما لم تجد الرحمة في مجتمعها أيضاً. فما إن أصبحت خارج أسوار السجن وافق أهلها على تزويجها من رجل مسن يكبرها بأكثر من ثلاثين عاماً بدافع “السترة”، وحين رفضت الزواج قامت والدتها باصطحابها إلى تركيا، للعيش مع أسرة أخيها، هرباً من نظرات الناس وأسئلتهم المتكررة، فيما إذا كانت قد تعرضت للاغتصاب داخل السجن .
ليست الممرضة حنان (31 عاماً)، التي رفضت الكشف عن اسمها، أفضل حالاً، فقد واجهت ظلم زوجها والمجتمع، وعن ذلك تتحدث بالقول: “تم اعتقالي من فرع الهجرة والجوازات بمدينة حماة، وبقيت في السجن لمدة ستة أشهر بتهمة العمل في مشافي الإرهابيين، ثم خرجت مقابل مبلغ مالي دفعه أهلي لأحد ضباط النظام، وحين تنفست الحرية كنت في شوق كبير لرؤية ولدي وزوجي، ولكني تفاجأت بأنه تخلى عني وتزوج من امرأة أخرى، كما حرمني من تربية طفلي حرصاً عليه من كلام الناس و نظرة المجتمع التي ستلاحقني بقية حياتي.”
تصمت قليلاً لتلتقط أنفاسها وتستعيد حروفها وتضيف: “لم أدخل السجن بإرادتي، وبعد نجاتي من المعتقل، لم أنج من غياهب الأعراف الاجتماعية التقليدية الظالمة، ولم أجد يداً حانية تعينني على الحياة، وتجنّبني شعور الخذلان وخيبة الأمل.”
وفوق التعب النفسي وظلم المجتمع، تقع أيضاً الكثير من الناجيات فريسة الأمراض التي تحرمهن من تجاوز مرحلة الاعتقال والعودة للحياة الطبيعية، وتضعهن أمام حاجة كبيرة لتلقي الرعاية الطبية.
وئام العثمان (29 عاماً) النازحة من بلدة التمانعة إلى مدينة إدلب، اعتقلت عام 2018 في مدينة دمشق أثناء ذهابها للحاق بزوجها الذي يعمل في لبنان، ومنذ خروجها من المعتقل تعاني من مرض الصرع، وعن ذلك تقول لـ“صالون سوريا“: “تعرضت خلال فترة اعتقالي للضرب على رأسي وسائر جسدي بالأنبوب البلاستيكي الأخضر، فأصبت بمرض الصرع وآلام حادة ومستمرة في الرأس، ولا أزال أعاني منه حتى الآن، كما أعاني من ارتفاع في الضغط وتسارع في نبضات القلب نتيجة الضغط النفسي، وما عشته من ترويع وإهانة .”
وتشير العثمان أنها تتلقى العلاج لدى طبيب مختص، لكنها تعتقد أن حالتها النفسية والجسدية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم .
وتلفت العثمان أن النساء المعتقلات في سجون النظام يتعرضن للإهانات والضرب والتحرش والاغتصاب وشتى أشكال التعذيب، ومن يكتب لهن حياة جديدة خارج غياهب السجون يعشن بأمراض وعاهات مستديمة مدى الحياة .
المختصة بالإرشاد النفسي سلام كرامي (36 عاماً) من مدينة سرمدا شمال إدلب، تشير أن الأضرار النفسية التي تلحق بالناجيات قد تستمر لمدة أطول من الأضرار الجسدية، وزوالها أكثر صعوبة، وعن ذلك تتحدث بالقول:”اتخذ النظام السوري من اعتقال النساء وسيلة وسياسة ممنهجة لقمع المنخرطين بالثورة، ولكن بعد خروجهن تواجهن سجناً أكبر ومجتمعاً قاسياً يحاول تهميشهن .
وتؤكد كرامي على أن أغلب الناجيات يعانين من الاكتئاب والإحباط والانعزال عن المحيط، إلى جانب الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة والشعور بعدم الرغبة بالحياة، ومنهن من يصارعن الأفكار الانتحارية .
وتشير أن النجاة الحقيقية للنساء تتطلّب دعماً كبيراً من قبل المجتمع المدني والمنظمات، فضلاً عن ”تسليط الضوء على معاناتهن ونظرة المجتمع الدونية لهن، والتأكيد على كونهن ضحايا لا ذنب لهن، ومساعدتهن على الاندماج مجدداً في المجتمع المحلي والانخراط في مجالات الحياة، وتوعية المجتمع لتغيير الصورة السلبية الاجتماعية التي تعصف بهن“.
وتقدّر “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إن 9774 امرأة ما زلن قيد الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا، ومنهن 8096 مغيبات في سجون ومعتقلات النظام. وتعاني العديد منهن عند الخروج من السجن من وصمة المجتمع الذي يمعن في ظلمهن، فتلاحقهن تداعيات الاعتقال اجتماعياً وأسرياً في ظل مجتمع تحكمه عادات وتقاليد تختصر شرف العائلات في أجساد النساء، وتربط الانتهاكات ضدهن بما يسمى “العار” .
عيد الأضحى هو “العيد الكبير” هو أبرز الأعياد التي اعتاد السوريون على الاحتفال بطقوسها السوريين كحال كل الشعوب الإسلامية، وهي مناسبة اجتماعية متجذرة في عاداتهم للتلاقي بعد طول غياب وتبادل التهاني.
كما أن العيد يعتبر فرصة لرأب الصدع بين المتخاصمين، لكن هذا العيد كان صعباً ولم يعد بوسع أغلب السوريين تمضية أيامه سويّة، وذلك لعدم استطاعة السوريين خارج بلادهم تكبد نفقات السفر الكبيرة ، فيما حال الموجودين في الداخل ليس بأفضل، فمصاريف التنقل بين المحافظات باتت مرهقة.
تمسك دينا (30 عاما) جهازها الخليوي وتفتح الكاميرا لتبدأ بتقديم التهاني والمعايدات لوالديها، لكنها سرعان ما تجهش في البكاء، فلعنة المسافة الجغرافية لا يمكن للتكنولوجيا أن تقربها، ولا يمكن للشاشة الصغيرة أن تحل مقام الحضن والقبلات الحارة. تقول الشابة التي تقيم في أربيل لـ”صالون سوريا” :” هذا العيد الأول لي وأنا بعيدة عن أهلي، لا طعم للعيد بدونهم، كما أنني لم أتمكن من حضور عيد الفطر، أشتاق إليهم كثيرا، صحيح أن التكنولوجيا تمكنني من الاتصال معهم ورؤيتهم، لكنها لا تقارن بحضنهم الكبير”، وعن سبب عدم تمكنها من زيارة والديها وقضاء العيد معهم، توضح الشابة ” مضى على إقامتي عام وشهرين، أعمل كنادلة في مطعم هنا، راتبي لا يتجاوز 500 دولار، فيما ستكلفني زيارتي لأهلي قرابة 800 دولار، تشمل تذكرة الطيارة، مصاريف التنقل وفحص كورونا وبعض الهدايا، أي انها تعادل راتب شهر ونصف من العمل الطويل والمضني”، وتختم دينا حديثها قائلة:” اكتفيت مجبرة بمكالمة فيديو ، استعيد فيها معهم ذكريات العيد البعيدة حين كنا صغار والكثير من الدموع التي حرقت وجنتاي، لا أعلم متى سأزورهم، ربما بعد عامين، فقدومي إلى هنا من أجل العمل وجني المال وإرسال النقود لأهلي للعيش بكرامة”.
حال عباس (28 عاماً) ليس بأفضل، فهو أيضاً استبعد كلياً فكرة نزوله من أربيل هذا العيد للمصاريف الباهظة التي سيتكبدها وقد تصل إلى 1200 دولار، أي ما يقارب نصف راتبه الشهري، يقول الشاب:” قررت عدم زيارة أهلي وذلك بسبب النفقات الباهظة، فسوريا باتت أغلى معيشيا من هنا، فتكلفة تذكرة الطيران ترتفع في هذا التوقيت، بالإضافة إلى نفقات التكسي وفحص الكورونا والوزن الزائد والهدايا ،وأجور خدمات المطار، من حمل حقائب وبقشيش وسواها”، يعقب الشاب:” حتى إرسال المعايدات المالية باتت مهمة صعبة وخاسرة ومكلفة، فأجرة تحويل مبلغ مالي قدره 400 ألف ليرة سورية، يتم قضم حوالي 30 ألف ليرة سورية منه لإيصاله إلى أهلي ، وهناك مكاتب تأخذ عمولة عالية على أجور التحويل، ما يسبب خسارة لي أنا أيضا”
الوضع المادي يفّرق العائلات في العيد
“كيفك ماما… لاتزعلي مني بس مافيني أنزل، ما عطوني إجازة، رح ابعتلك عيدية لإلك ولأخواتي وبجي عن قريب” هكذا تهرب ماهر من محادثته الهاتفية مع والدته التي أ ضناها شوقها لرؤيته، فالشاب تحجج بضغط العمل ورفض إجازة كي لا يخبر والدته بأن قدومه في عيد الأضحى يعني أنه سيبدد المال الذي جناه خلال عام كامل، يقول الشاب” لا أريد كسر خاطر أمي، سأكتفي بإرسال العيدية لها ولأشقائي، المبلغ الذي سأنفقه في إجازتي يعادل ما أدخره خلال سنة، سيذهب تعبي سدى”.
أحوال السوريين في الخارج ممن يتقاضون رواتب ضئيلة دون 1500 دولار تتشابه تقريبا، فسيتحتم عليهم تكبد نفقات كبيرة خلال فترة وجيزة، مايعني عبء مادي جديد يرهق كاهل غربتهم المريرة، وعن ذلك يقول جاد(25 عاما)” علي أن أفاضل بين زيارة أهلي وبين تجديد جواز سفري الذي ستنتهي صلاحيته بعد شهرين، ما يعني أنني سأدفع مقابل تجديده قرابة 1500دولار، أدخر كلفته منذ أكثر من 4 أشهر”، متابعا “يذبحني شوقي لأسرتي، لكن في الوقت نفسه لا أملك المزيد من المال لنفقات السفر وتجديد الجواز معا، لا أستطيع الاستدانة من أحد ومراكمة الديون “أما طارق ففضل توفير نفقات السفر إلى بلاده لصالح البدل الخارجي والهروب من شبح الخدمة العسكرية، يعقب بالقول” راح الكتير وبقي القليل، الله يجمعنا بأسرع وقت”.
حال السوريين داخل حدود بلادهم ليس أكثر يسرا، فهناك من تعذر لقائه بأسرته وانقطعت به السبل المادية للوصول إليهم، كخليل الذي يعمل سائق أجرة ولم يتمكن من السفر إلى الحسكة لممارسة طقوس عيد الأضحى مع والديه، يقول” حجز ثلاثة مقاعد في باص يتمتع بخدمة سيئة لي ولزوجتي وطفلي سيكلفني 180 ألف ليرة سورية ذهاب وإياب، ناهيك عن المصاريف الأخرى كالحلوى، أما ثمن تذكرة الطيران فتصل إلى 400 ألف ليرة للشخص الواحد، أنها حقا مبالغ خيالية يصعب تحملها بالنسبة لأصحاب الدخل المعدوم وليس المحدود”.
“شو يلي جبرك على المر غير الأمر منه” عبارة تختصر معاناة علي الأحمد الذي لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، حين أُجبر على إعالة عائلته، وراح يعمل بأخطر المهن في محطات تكرير المحروقات، وهي ذات المهنة التي أدت لوفاة والده أواخر عام ٢٠٢١، حين انفجرت إحدى الحراقات على مقربة منه.
لم يسلم علي من تبعات هذه المهنة أيضاً، حين تعرض هو الآخر لحروق ناجمة عن انفجار حراقة بدائية لتكرير المحروقات في ترحين شرقي حلب في مايو/أيار ٢٠٢٢.
حراّقة
بحث علي طويلاً عن عمل لكنه لم يوفق، ما دفعه للعمل في تكرير المحروقات، يقول لـ“صالون سوريا“: “مع أنه الشغل فيها صعب كتير، وأبي توفى بسبب العمل فيها، وما بتفارقني لحظات حياته الأخيرة لما كان يتنفس بصعوبة، لكن كنت مضطر لأني اشتغل تحت كل الظروف”.
عن لحظات إصابته يضيف علي “كنت أعمل بين الحراقات، وفجأة غبت عن الوعي لثوان، و صحيت بعدها وفتحت عيوني وشفت النار حوالي ودخان أسود والدم ينزل مني، وسمعت أصوات الناس تصرّخ (فجرت الحراقة) فعرفت أن الحراقة القريبة مني انفجرت”.
نجا علي من الموت وأسعف إلى المشفى حيث تم تضميد الحروق والجروح في جسده المتعب، ليخرج بعد أيام إلى منزله لاستكمال العلاج بعد أن نصحه الطبيب بالراحة وعدم التعرض لأشعة الشمس مطلقاً.
يأمل علي أن يتعافى بسرعة كي يعود إلى العمل من أجل الإعالة بأمه وأخوته، وتأمين متطلبات الحياة التي باتت ”صعبة المنال“ على حد تعبيره.
وفي الوقت نفسه يحلم علي بالرجوع لمقاعد الدراسة وتحقيق أحلامه بوظيفة مستقبلية آمنة، لكنه سرعان ما يصطدم بواقعه الأليم.
أما رائد الحلاق (١٢ عاماً) فقد أصيبت قدمه بإصابة بليغة تسببت له بإعاقة دائمة حين انفجرت عليه إحدى مخلفات الحرب أثناء عمله بالبحث عن المعادن والخرداوات في مكبات النفايات.
يقول رائد أنه كان على مقربة من مكب النفايات الواقع أمام مخيمهم في البردقلي شمال الدانا بإدلب، حين رأى إحدى الكتل الغريبة، فاقترب منها وحاول لمسها لكنها انفجرت عليه وأدت لإصابته بتمزق داخل عظامه وعضلات قدمه.
لم يعد رائد قادراً على المشي بشكل طبيعي بعد التهشمات التي أدت لتضرر كبير في ساقه وقدمه جراء انفجار القنبلة التي كان يحسبها قطعة معدنية يمكن بيعها والاستفادة منها.
يعيش الطفل رائد مع أمه وإخوته الثلاثة في إحدى المخيمات بعد نزوحهم عن بلدتهم خان شيخون أواخر عام ٢٠١٩، وبات المعيل الوحيد بعد وفاة والده في القصف على مدينتهم، لكنه لم يعد قادراً على العمل بعد إصابته تلك.
المرشدة النفسية والاجتماعية أمل زعتور (٣٦ عاماً) تقول أن ”عمالة الأطفال تقتل الطفولة ويترتب عليها أضراراً نفسية وجسدية خاصة إذا عمل الطفل في مجالات لا تناسب حجمه وقدراته كالعمل على آلات ثقيلة أو استخدام وسائل حادة“.
وتشير إلى أن الأضرار النفسية التي تؤثرعلى الأطفال العاملين المتمثلة بخسارتهم لطفولتهم والعيش في حاجة وحرمان وتعب واستغلال وغياب الاستقرار والأمان.
وأوضحت أن عمل الأطفال ووجودهم دائماً في الشوارع يجعلهم على تماس مباشر مع الإنحراف والجنوح والانخراط بأعمال لا تتناسب وأعمارهم الصغيرة، مايسبب لهم إصابة أو إعاقة أو ربما يفضي إلى الموت المحتم، وسط الغياب الكلي لإيجاد الحلول أو الوقوف على حل مشاكل هؤلاء الأطفال المادية، والعمل على إعادتهم إلى مدارسهم واستقرارهم في بيئات آمنة.
ومع تدهور الأوضاع الإنسانية والتعليمية في إدلب وشمال غرب سوريا بعد مضي أحد عشر عاماً على الحرب، تسرب مئات الأطفال من المدارس وانخرطوا في الأسواق والشوارع والعمل في مهن لا تخلو من الخطورة، بحثاً عما يسد رمقهم ويساعد أهلهم على تحمل أعباء الحياة التي باتت مثقلة وخاصة مع غياب المعيل والداعم.
وتُعرّف الأمم المتحدة عمالة الأطفال بأنها أعمال تضع عبئاً ثقيلًا على الأطفال وتعرض حياتهم للخطر، وتعتبر ذلك انتهاكًا للقانون الدولي والتشريعات الوطنية، فهي إما تحرم الأطفال من التعليم وإما تتطلب منهم تحمل العبء المزدوج المتمثل في الدراسة والعمل في آنٍ واحد.
“أريد طفلاً يحمل اسمي، لقد نفذ صبري من الانتظار” بهذه العبارة كسر طارق قلب زوجته دارين (37) عاماً، التي تعاني مشكلات في الخصوبة، لتنتهي علاقة حبهما الطويلة بالطلاق، فهما غير قادران على تأمين الملايين المطلوبة لإجراء عملية طفل الأنبوب. فدارين لا تعمل و أجر طارق الزهيد الذي يتقاضاه من عمله في ورشة الخياطة بريف دمشق بالكاد يسد الرمق، ووالدته مريضة تشاركه المسكن، وهو معيلها الوحيد.
تلقي دارين اللوم على والدة طارق التي كانت تضغط عليه باستمرار ليتزوج من أخرى صغيرة تنجب لها حفيداً، تروي دارين لـ “صالون سوريا“ :”أثناء زيارتي الأخيرة للطبيب أخبرني باستحالة حدوث حمل طبيعي، وأن الأمل الوحيد لنا هو باللجوء للإخصاب المساعد، لكن طارق رفض إجراء العملية لعدم قدرته على تحمل تكاليفها المالية“، وتضيف: “من حقه أن يكون أباً، لكن لو أن المشكلة بالإنجاب عنده، لما تخليت عنه كما تخلى عني، ولما ضغط علي المجتمع لأفعل هذا”
تروي دارين تفاصيل معاناتها من حرمان الإنجاب، وهي تكره حالة الشفقة التي يظهرها المجتمع تجاهها، فتحاول أن تبدو قوية، لكن دموعها تنهمر حزناً عندما تكون وحدها.
خلطات للإنجاب
ودارين هي واحدة من مئات السوريات اللواتي أجبرهم ضعف الحال المادي على نسيان فكرة الإنجاب والأمومة، أمام التكاليف المالية المرتفعة لعمليات الإخصاب المساعد، إذ تنتظر ديمة (35) عاماً “معجزة سماوية ” تحقق حلمها بعد أن قررت التوقف عن متابعة علاجها عند الطبيب المختص، فهي لم تعد قادرة على إنفاق المزيد من الأموال لإتمام الرحلة.
بدلاً من ذلك لجأت ديمة للعطارين المختصين بتركيب خلطات عشبية بهدف المساعدة على الإنجاب، وهي تواظب على قراءة الأدعية والأوردة التي نصحتها بها إحدى الصديقات.
تشرح ديمة لـ “صالون سوريا ” :“الطبيب أخبرني أن احتمال نجاح طفل الأنبوب في حالتنا لاتتجاوز الـ5 % فقط، ومع أني أتوق شوقاً لاحتضان طفلي بين ذراعي، وأشعر بالأسى عندما تخفي جارتي أطفالها عني، ظناً منها أنني قد أحسدهم، ولكني لن أغامر بالمال مقابل هذه النسبة الضعيفة“.
بورصة الأطفال
و ازدادت مؤخرا مشكلات الخصوبة في المجتمع السوري ”وذلك نتيجة تأخر سن الزواج والرغبة بتأخر الإنجاب، إضافة إلى الملوثات البيئية والسموم المهنية وطرق التغذية الحديثة“، بحسب ما أشار إليه الدكتور مروان الحلبي مدير مشفى الشرق للإخصاب في إحدى مقابلاته لوسائل إعلام محلية، لافتا ًإلى عدم وجود إحصائية دقيقة لنسب العقم في سوريا، لكنها و بشكل تقريبي تتراوح مابين 13 ـ 18%من جميع الزيجات التي تحصل بحسب مواد صحفية.
و تبدو ملك (43) عاما من المحظوظات في هذه الإحصائية، فالوضع المالي الجيد لزوجها منحها فرصة لتحقيق حلمها بالإنجاب، و أصبحت أماُ لطفلة بعد تجارب عديدة فاشلة لعمليات أطفال الأنابيب، وبعد انتظار دام 16 عاماً.
وبحكم خبرة ملك الطويلة في تجارب أطفال الأنابيب، فهي تعرف جيداً التقلبات الكبيرة التي طرأت على أسعار عمليات أطفال الأنابيب. فقبل الأزمة كانت تترواح تكاليف هذا الإجراء مابين 100-150 ألف ليرة، وفي الخمس سنوات الأولى من الأزمة في سوريا وصلت التكاليف لحوالي 600 – 750 ألف، ثم ارتفعت لتصل لما يقارب المليون ليرة. وفي عام 2021 بلغت ما يقارب 5-7 ملايين ليرة ، وهذا العام قفزت تكاليف العملية لتسجل رقماً قياسياً وصل لـ 10 ملايين ليرة سورية .
يعزي الدكتور زياد رمضان إخصائي نسائية وتوليد ارتفاع تكاليف هذه العمليات إلى الواقع الذي فرضته الأزمة، وارتفاع سعر الصرف، فجميع المواد الأولية الداخلة في هذا الإجراء الطبي مستوردة, بدءاً من الإبرة وانتهاء بالأواسط الزراعية، لافتاً إلى أن التكاليف الإنتاجية العالية لهذه المواد ربما تكون أحد أسباب العزوف عن تصنيعها محلياً، ويرى أن ”التكلفة لاتزال مقبولة مقارنة بالدول المجاورة لكن الدخل المالي المتواضع للمواطن يجعل كل شيء مرهقاً له“.
حلول بديلة
تطرح ليلى العاملة في مجال الخدمة الاجتماعية فكرة استبدال تكاليف عمليات الإخصاب المساعد وكل ما يرافقها من قلق بكفالة أطفال أيتام ممن فقدوا أهلهم نتيجة الأحداث التي شهدتها البلاد. أما زميلتها ديمة فتطالب بوجود جمعيات خيرية أو مشافي حكومية تتولى مساعدة الأزواج اللذين لا يملكون المال لإجراء عمليات أطفال الأنابيب بأسعار مقبولة، ولمنع استغلالهم من قبل المراكز الخاصة والمتاجرة بأحلامهم.
وقبل اندلاع الحرب في سوريا تم افتتاح شعبة طفل الأنبوب في مشفى التوليد الجامعي الحكومي، ولكنها أغلقت بسبب سفر الطبيب المسؤول عنها، ورغم التصريحات المتتالية من قبل كل إدارة جديدة تتولى المهام بالمشفى عن عودة افتتاح قريبة، غير أن الأمر لم يخرج عن نطاق التصريحات الإعلامية حتى اللحظة.
ويوجد مقابل شعبة طفل الأنبوب الحكومية المتوقفة عن العمل، حوالي 40 مركزاً خاصاً بالإخصاب المساعد، وقد حدد القرار التنظيمي رقم/ 18 / الصادر عن وزارة الصحة لعام/ 2008 جملة من الشروط للحصول على ترخيص لافتتاح هذه المراكز، من بينها انه لايجوز اللجوء إلى الإخصاب المساعد إلا بالنسبة لزوجين على قيد الحياة وبواسطة أعراس (أمشاح ) متأتية منهما فقط، ويحظر الإخصاب الطبي المساعد بقصد الحصول على بويضات ملقحة بغية استعمالها لغايات تجارية أو صناعية أو بقصد الدراسات والأبحاث. ويجوز بموافقة الزوجين معا الكتابية الحصول على بويضات ملقحة زائدة وحفظها بهدف إجراء محاولة جديدة لإعادة عملية الزرع غير أنه في حال وجود أعراس (أمشاح ) أو مضغ فائضة يمكن للزوجين المطالبة كتابيا بإتلافها أو حفظها بالتجميد ويحظر التبرع بالأعراس (الأمشاح ) والبويضات الملقحة في إطار الإخصاب الطبي المساعد، ولايجوز استعمال رحم امرأة أخرى لزرع البويضة الملقحة .
في السادسة من عمرها، كانت نيفين (21 عاما) ترتدي زيها المدرسي بانتظار والدها الذي اعتاد على إيصالها إلى مدرستها، لكنه في تلك المرة لم يأتي.
تروي نيفين لـ“صالون سوريا“: “بعد وفاة والدي بحادث سير، تنقلت أنا وأختي الصغرى بين منزل جداي، وعندما تفاجأت أمي بحملها بأخي الذي ولد مصاباً بالشلل الدماغي، لم تستطيع تكبد مصروفنا جميعا، فاقترحت عليها إحدى صديقاتها إيداعنا في الدار، على أن تبقى أمي مع أخي للعناية به لحاجته إلى الرعاية المضاعفة“.
”الوصم“ هو أبرز التحديات التي تواجهها فتيات الدار، مع انتشار نظرة نمطية لهن في المجتمع، تشوبها الاتهامات القاسية، أولها الرسوب الدراسي، الأمر الذي تنفيه نيفين بالقول: “أدرس تصميم الأزياء، وتعلمت الرسم في معاهد خاصة، كما أطمح لإكمال دراستي والتسجيل في الجامعة الافتراضية قسم إدارة الأعمال، لا تعنيني نظرة المجتمع لي، بالرغم من أنني كنت محظوظة بأصدقائي الذين لطالما أحبوني و لم يسيئوا لي بنظراتهم المريبة، سأبقى مجتهدة على الدوام“.
وتختم نيفين بقولها “أنا فخورة أنني بنت الدار”، توافقها في الرأي نيرمين (22 عاما) التي تدرس الصيدلة، إذ تّكن الشابة مشاعر الامتنان للدار. تقول نيرمين :” تستهويني التركيبات الكيماوية والمواد الداخلة في صناعة الأدوية، دخلت الفرع لمحبتي الكبيرة به“. لم تسمح نيرمين لظروفها العائلية القاسية بالتأثير على مستقبلها، إذ عاشت تجربة “كفالة اليتيم” مرتين في حياتها ، عن هذا تشرح الشابة:” في عمر الرابعة، وقع الطلاق بين والداي، فتخلى أبي عني، بينما أمي أصيبت بالمرض ولم تعد تستطيع الاعتناء بي، فقامت جدتي بإيداعي عند أسرة غريبة تكفلت بي، عشت معهم إلى سن البلوغ في الثالث عشر من العمر، حينها أودعوني بدار الرحمة، لأن وجودي لم يعد مقبولا في ظل وجود 3 شبان في المنزل، وأنا أعيش هنا منذ تسع سنوات”. وعن تعامل المجتمع توضح نيرمين “عند ارتيادي المدرسة والجامعة، هناك من يعتبر أن وضعي الاجتماعي تهمة، ويتوجب عليّ الدفاع عن نفسي، لكني لا ألقي لهم بالاً، اتصرف بشكل طبيعي، عليهم تقبلي وانتهى الأمر”. وتتطلع الشابة لإكمال دراستها في الخارج إذا ما سمحت لها الفرصة عبر التقديم إلى منح دراسية مجانية، أما آية (20 عاما) فاختارت دراسة مجال التعويضات السنية بعد حصولها على الشهادة الثانوية، وقررت دراسة هذا الفرع عندما كانت تذهب برفقة والدتها التي كانت تعمل كمساعدة مخبري أسنان، وبعد أن انقطعت أخبار الزوج عنها وتم تهجيرهم من الغوطة الشرقية عاشت آية وشقيقتها مع أمها لمدة عامين إلى أن تزوجت ”فأودعتنا في دار الرحمة، ولم تعد تستطيع تحمل نفقاتنا، لكنها تزورنا على الدوام” تقول آية مضيفة ” أعلم جيدا أنني لو كنت مع والدتي ، لما وصلت إلى هذه المرحلة الدراسية، فتقاليد وعادات منطقتنا بالية جدا، لُحرمنا من التعليم، وأُجبرنا على الزواج، على غرار صديقاتي في الحي”.
دار الرحمة لرعاية الأيتام
تأسست دار الرحمة لرعاية الأيتام في عام 2007، وهي تابعة لجمعية الأنصار الخيرية التي افتتحت أبوابها عام 1995، بدأ عمل الدار باحتواء البنات في خطوة أولية، لكنه بعد سنوات شمل البنين أيضاً. مديرة دار الرحمة براءة الأيوبي تقول لـ“صالون سوريا”: ”مع بداية اندلاع الحرب في البلاد، كانت تقصدنا عائلات وأسر مكونة من فتيات وذكور، وعملنا كان يقتصر على استقبال الإناث فقط، من هنا بدأنا التفكير بإنشاء فرع للذكور، وبالفعل قمنا بذلك وأسسنا قسم خاص بالذكور الذين تتجاوز أعمارهم العاشرة ممن فقدوا ذويهما أو أحدهما، سواء بالموت أو في عداد المفقودين”.
ومن الحالات التي تستقبلها الدار أيضاً، هي حالات اليتم الاجتماعي، ويقصد به أن يعيش الطفل/ة في بيئة غير سليمة وتهدد حياته بالخطر، بسبب معاقرة أحد الأبوين للكحول أو المخدرات ، أو إصابته/ا بالمرض العقلي والنفسي الذي يشكل خطرا على الأطفال. إلى جانب عدم توافر القدرة المالية لإعالة الطفل، أو تخلي الوالدين عنه.
وتلفت الأيوبي إلى وجود ما يسمى بنظام “وديعة الطفل”، حيث يقوم أحد الوالدين أو كليها بإيداع طفلهم عند الدار لفترة غير محددة الأجل، لأسباب قاهرة قد تكون مرض أو سفر أو سجن، ثم يعود الوالدين لاسترجاع طفلهما بعد تغير الظروف،
ويخضع دار الرحمة لمجموعة من القوانين الصارمة من حيث مواعيد النوم والدراسة والاستيقاظ ومشاهدة التلفاز والاستراحة، كما يمنع استخدام الإنترنت، إلا لطالبات الجامعة. تحتوي الدار على عدة شقق، لتستوعب كل شقة حوالي 15 طفل وطفلة تتراوح أعمارهم من الأشهر الأولى إلى المرحلة الجامعية.