تدريباتنا

حتى أنتِ أيّتها الزلازل

بواسطة | فبراير 15, 2023

    يعيش المرء بصفته سوريّاً في بلاده، من أجل تحقيق غاية واحدة وحيدة، وهي أن يتدرّب على الموت بأنواعه المختلفة، ذبحاً وتفجيراً وجوعاً وبرداً، وأخيراً أن يتدرّب على أن تبتلعه الأرض، ليكتمل المشهد المأسويّ الفريد، ليحكي قصة شعبٍ مزّقته الفتن الطائفية والصراعات العرقية والحروب الداخلية والتواطؤ الدوليّ وانهيار مفهوم الدولة إلى أدنى الدرجات التي عرفها التاريخ، ليتوِّج ذلك كلّه غضب إلهيّ أو طبيعيّ حصد أعداداً هائلةً من الضحايا، شيباً وشُبّاناً-نساءً وأطفالاً، ولا تزال هذه الأعداد تزداد على نحو مطّرد لتزيد مع زيادتها الأهوال والمآسي والفواجع. 

    إنَّ من يعاين حقيقة الأحداث، ويتأمّل على نحو معمّق في هذه الكارثة، ليس في وسعه أن يستنبط إلا فكرة جوهريّة رئيسة، وهي أنَّ الشعب السوري في حلب أو اللاذقية أو إدلب وغيرها من المحافظات السوريّة قد سرت فيه، فرداً فرداً، مشاعر متجانسة أو واحدة في كيفيتها، وهي أنَّ شعباً وحّده الألم لا يجب أنَّ تفرّقه العقائد والإيديولوجيات وفساد السُّلطات.

    لكن ما يثير غضب كلّ سوريٍّ الآن هو وجود عجز كبير-على المستوى الأهليّ-في إمكانية تقديم أي مساعدات للمنكوبين، إذ لا يقدر المواطن السوريّ الآن على أن يسدّ رمقه ورمق أطفاله، فكيف يمكن له أن يقدم يد العون لأبناء جلدته من المصابين والمشرّدين من الذين هُدِمت بيوتهم؟ 

     إنَّ المجتمع الأهليّ شبه عاجز الآن عن المساعدة؛ ولكن رغم ذلك نجد مبادرات يمكن وصفها بأنها فدائيّة بكلّ معنى الكلمة، إذ نجد المئات من المواطنين الشرفاء قد تعاونوا، بعضهم مع بعض، على نحو يدعو إلى الاعتزاز.

    نزل بعض أبناء ريف الساحل-بما أنَّ الريف كان أقل تضرّراً-إلى مدينة جبلة المنكوبة ليساعدوا في رفع الركام عن الأبنية، ومنهم من يمتلك آليات مثل الجرّافات (بلدوزرات) أو الشاحنات (عربات نقل ثقيل) وإلى ما هنالك؛ ولكنهم غير قادرين على تزويد هذه الآليات بالوقود، فانبرى أبناء مدينة جبلة ليزودوا آليات هؤلاء القادمين من الريف بالوقود، من أجل أن يباشروا عمليات الإنقاذ في الأحياء المتضررة. لقد كانت مبادرة شعبيّة بكلّ معنى الكلمة ولم يكن قد مضى على وقوع الزلزال ساعة أو أكثر بقليل، كما أنَّ المتطوعين من الريف والمدينة استطاعوا أن يبادروا مباشرةً إلى تكوين فريق تحرك بجدارة على أرض الواقع، وبدأ العمل بإزاحة الركام، وإخراج الجثامين، والناجين من تحت الأبنية، ومن ثمة قامت السلطات المحلية بالتدخل وفقاً لإمكانياتها المحدودة.

    ولكن في الحقيقة ورغم هذه الجهود وما تبعها من دخول فرق إنقاذ خارجية من جزائرية ولبنانية وعراقية وغيرها؛ إلا أنَّ الجهود غير كافية في مدينة جبلة، إذ عملية انتشال الجثث من الضحايا، كانت بطيئة جداً، وهذا أمر تقتضيه عملية البحث عن المصابين من الأحياء، فأي استعجال يمكن أن يؤدي إلى وفاة المحاصرين من الأحياء تحت الأنقاض، ولكن البطء في العمل أدى إلى استخراج جثث بدأت بالتحلل وفاحت منها رائحة الموت، وهذا أثّر على نحو سلبي في مشاعر ذويهم وأصدقائهم. فهناك عمليات انتشال لعشرات الجثث، من شباب وشيوخ وأطفال، وأبناء وأمهات، وتجد في هذه المشاهد انتشال أمٍّ تحضن طفلها وقد توفي كلاهما في مشهد مؤثّر إلى أبعد حدّ. 

    هذا، إلى أنَّ الذين خسروا بيوتهم في جبلة يعيشون حالة قاسية جداً، إذ توزّعوا على أمكنة متعددة، في بيوت أقربائهم وأصدقائهم والمساجد والفنادق والصالات…، ولكنهم يعانون من نقصان كبير في الأدوية والتدفئة والطعام.

     ونجد هذه المشاهد القاسية نفسها تتكرر في مدينة اللاذقية، إذ حدث انهيار هائل في الأبنية، ترك وراءه مئات الضحايا، ريفاً ومدينةً، فحجم الدمار الكبير، وتراكم الأنقاض، كوّن في الاحياء السكنيّة كتلاً إسمنتية أشبه بسجون، حُبِسَ الناس داخلها، منهم من توفي ومنهم من بقي حياً؛ ولكن التباطؤ في المبادرة وضعف الإمكانيات وقلّة الخبرة أدى من دون شك إلى تعقيد الأمور. 

    وعليه، إنَّ ما يثير الحزن سواء أكان ذلك في اللاذقية أم غيرها من المدن السورية المنكوبة هو ظاهرة هذه السجون الإسمنتية التي خلّفها الزلزال، إذ بقي عدد من الناس أحياء تحت الركام، مسجونين في بيوتهم، وقد سُدّت عليهم المنافذ كلّها، ولا يمكن وصول فرق الإنقاذ إليهم بسبب الركام الكبير المحيط بهم، فبقي هؤلاء الناس بين الموت والحياة. والحقيقة أنه توجد بين هؤلاء الناس أنفسهم حالات تحرّك الوجدان الأسيان، إذ تعرّض الكثير من المحاصرين تحت الأنقاض إلى كسور ورضوض وإصابات، ورغم ذلك عانى هؤلاء الناس من البقاء أحياء في أمكنة أشبه بالتوابيت، وهم لا يعرفون مصيرهم، إذ ترى ضمن عائلة واحدة في منزل منهار أحد الناجين ليخبرك أنه بقي مدة يومين أو أكثر محاصراً بين أجساد الموتى من أفراد عائلته، فما أشدّ صعوبة وقسوة وألم هذه المعاناة المريرة!

     إنَّ الجهود المبذولة الآن تتركز على إنقاذ الناجين-إن وجِدوا-وانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، وتتضافر جهود عديدة من أجل تحقيق هذه الغاية؛ لكن المشكلة الكبيرة في هذا الاتجاه هي أنَّ انهيار أبنية مكوّنة من طوابق عديدة يقتضي استغراق عدة أيام في إزاحة الكتل الإسمنتية والحديد وإلى ما هنالك، وهذا يقلل من فرص نجاة الذين بقوا أحياءً. وهناك ملاحظة مهمة في هذا المنحى وهي أنَّ بعض المنقذين لاحظوا على أساس استقراء واقع الأبنية المنهارة أنه في كلّ بناء منهار يوجد فيه حيّز معيّن تتجمّع فيه جثامين الموتى أو يمكن أن يوجد فيه أحياء، وهذا يدلّ على أنَّ الناس أثناء وقوع الزلزال وانهيار الأبنية قد اتجهوا حسب سُكناهم في كلّ بناء إلى حيّز وجدوا فيه أماناُ من سقوط الركام، وهذه قضية تستحقّ كل اهتمام من المتخصصين.

    ولا شك في أنَّ انهيار الأبنية في جبلة واللاذقية-وهذا ينسحب على المحافظات المتضررة الأخرى-يرجع إلى سببين: الأول، نوع التربة، فيمكن أن تكون التربة ضعيفة غير قادرة على الصمود أمام هبوط أو سقوط الصفائح التكتونية المسببة للزلزال. الثاني، هو عدم إنشاء الأبنية وفقا لمواصفات الأبنيّة المقاومة للزلازل، علماً أنَّ منطقة الساحل السوريّ هي منطقة زلزاليّة.

     وتطال المأساة محافظة إدلب، والمعاناة فيها كبيرة جداً، تحديداً مدينة إدلب وفي ريفها الشمالي، وفي مدن مثل جسر الشغور، وسلقين، وعزمارين، إذ يوجد مئات الناس في العراء من دون مأوى، في ظروف مُناخية من برد شديد ونقص كبير جداً في مياه الشرب النقيّة والطعام والأدوية، هذا إلى أنَّ المنازل متصدّعة غير صالحة للسكن، علاوة على أنَّ الهزات الارتداديّة دفعت الناس إلى الفرار من منازلهم إلى الحقول والبساتين والغابات ليجعلوا سُكناهم تحت الأشجار، ليحموا أنفسهم من الثلوج والأمطار، ولذلك يوجد نقص كبير في مراكز الإيواء، ويحتاج الناس هناك على وجه الخصوص في الريف إلى مساعدات فورية أهمها: الخيام والأدوية والألبسة والوقود وإلى ما هنالك. 

   ونجد في إدلب مبادرات إنسانية رائعة، فهناك مطاعم أغلقها أصحابها وحولوها إلى مراكز إيواء للمنكوبين، وقدّموا لهم كلّ ما يقدرون عليه من مساعدات، فضربوا بذلك مثلاً رائعاً في الشهامة وسمو الأخلاق، ويوجد كثير من هذه النماذج تُعيد لنا الثقة الكبيرة باستعادة الإنسانيّة المفقودة.

     لم يترك الزلزال حلب أيضاً؛ بل كانت الخسائر فيها كبيرة، ولجأ كثير من الناس إلى الجوامع والمدارس والحدائق والشوارع، بعد أن خسروا منازلهم، ويعانون معاناة كبيرة بسبب نقصان اللباس والطعام والشراب والأدوية، ولكن لا يعرف المرء ماذا يقول للمسؤولين عن أناس لا يوجد لهم مكان ليعيشوا فيه، وتنتابهم مشاعر اليأس من القيام بأيّ مبادرة حقيقية نحوهم. فكيف يمكن تسويغ تركهم من دون مأوى، ولو لساعة واحدة؟!

     ولا شك في أنَّ المساعدات العربية والدوليّة المقدمة ليست في حقيقتها مساعدات جوهريّة، وإنما هي مساعدات مؤقتة تقتصر على الأدوية والطعام واللباس وما يجري هذا المجرى، ولن تسهم هذه المساعدات في حل مشكلة المنكوبين؛ لأنَّ أهم مساعدة لهم هي تأمين منازل لهم عوضاً عن منازلهم المهدّمة؛ ولكن في هذه الظروف يبدو هذا الأمر حلماً بعيد التحقيق، ولذلك يُخشى أن تتفاقم أزمة قاهرة لاحقاً تتعلّق بوجود فئة من المجتمع السوري تعيش من دون سكن!

   إنَّ الحقيقة التي لا يمكن نكرانها، وتقود الإنسان إلى يأس كبير محفوف بالقهر هو أنَّ هناك أناساً في المحافظات السورية المنكوبة فقدوا بيوتهم، وأصبحوا بلا سكن، ولا يمكن لهم في هذه الظروف الكارثية البغيضة التي عصفت وتعصف بسوريا، أن يعيدوا بناءها، ولا يوجد أمل بإعادة بنائها في واقع داخلي متمزّق، ومحيط دولي يغرز براثنه في أحشاء بلاد تنهار. 

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

أسفار تدمير غزَّة

أسفار تدمير غزَّة

ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذه الوحشّيّة الرهيبة التي تتصف بها الحرب التي يشنّها الصهاينة على غزَّة غير مبالين بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ؟ ويدفعنا إلى هذا التساؤل وضوح أنَّ ردّة...

الرواية وقضايا النساء

الرواية وقضايا النساء

كانت المرأة حاضرة دوما في الأدب والفن عبر التاريخ ولا شك أن ما عانته من معاملة الجنس الأدنى الملوث بدمه والمرتبط بالخطيئة الأولى والطرد من الجنة وارتباط الإغواء بجسدها والمتع الدنيوية المرفوضة دينياً، سيترك صداه في الإنتاج الأدبي والفني سواء العالمي أو العربي، الذي...

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم. "خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون...

تدريباتنا