تدريباتنا

الأعياد في زحمة الحرب: الاحتفال من أجل البقاء

بواسطة | ديسمبر 14, 2023

لم تنته الحرب، والرصاص تحوّل إلى تفصيل جزئي في زوايا الذاكرة، الإنهاك المعيشي هو السمة الأبرز، لكن روائح الحنطة المسلوقة المزينة بالقرفة تفوح من بعض البيوت. إنها الوجبة الساحرة والملهمة لطقس احتفالي بمناسبة عيد البربارة، أو عيد الحنطة كما تحب الغالبية تسميته، لذلك يحتفل السوريون بعيد البربارة بالحنطة المسلوقة مع القرفة واليانسون ومحلاة بالسكر أو بالدبس أو مطبوخة مع اللحم وخاصة لحم الدجاج. إنها مظاهر احتفالية لكنها تعيد الكرة إلى ملعبها الأول منذ سنوات طويلة وبعيدة جداً، لتشابه الأحوال الاقتصادية، حين كان للاحتفالات توظيف غذائي أهم من الديني، لدرجة أن عيد البربارة مثلاً يتحول إلى طقس غذائي بحت، كما يتحول يوم الأحد إلى موعد أسبوعي لأكل اللحم. حتى أن القصابين لا يقومون بعملية الذبح إلا مساء الأحد أو في صباحه.

لم تنته الحرب، وفي تفاصيل العيش تدور رحى حرب أكثر سطوة وشمولاً، إنها حرب الخوف من الجوع والتردي الواسع للقوة الشرائية للسكان، لكن الغالبية مصرة على الاحتفالات على الرغم من استنكاف البعض عن إضاءة أشجار الميلاد أو تركيبها، حتى أن البعض استغنى نهائيا عن الاحتفال بالأعياد. إلا أن بضعة أشجار تبدو واضحة على بعض الشرفات وخلف زجاج واجهات البيوت، عدا عن وجودها في واجهات أو زوايا المحال التجارية في غالبية الأسواق والأحياء المزدانة بالأضواء رغم شح الكهرباء. تبدو أشجار الميلاد وكأنها قد تحولت لفعل يعاند الحرب ويصر على البقاء ولو بأضواء باهتة ومتناوبة تخضع لساعات التقنين الطويلة والمعتمة، كما يلاحظ احتواء الواجهات التجارية على ملابس أو معروضات بألوان محددة ترتبط بأعياد الميلاد كالأحمر والأخضر والذهبي، بل ويمكن وبكل وضوح ملاحظة أشجار ميلاد عملاقة موضوعة في ساحات الأحياء والقرى وبعض المناطق التي قررت إعلان المظاهر الاحتفالية رغم كل الخراب. هناك تنتصب أشجار بكامل زينتها لكنها غير مضاءة أبداً بلون أخضر داكن كئيب وبزينة باهتة لا يزورها الضوء إلا لماماً، لكنها تبقى مساحة متفردة ليجتمع حولها الأطفال أو أفراد العائلات لالتقاط الصور التذكارية، والصورة تصير صفعة مدوية في مواجهة كل هذا الخراب.

 اللافت في احتفالات هذا العام هو التحضيرات المسبقة لاحتفالات غنائية واسعة، ويبلغ التزامن حده الأقصى في الإعلان عن حفلات ميلادية لكورالات كبيرة العدد وفي نفس التوقيت في طرطوس وحمص مثلاً في الثاني عشر من شهر كانون الأول\شهر الميلاد.

أوجد السوريون والسوريات مساحات احتفالية رغم كل الضيق، لم يتوقفوا يوماً عن الغناء ولا عن عزف الموسيقا ولاعن تشكيل الكورالات والجوقات الاحتفالية التي تستعيد الإرث الجميل لأغان تراثية أو لأغاني فيروز المشهورة والمحببة. وكذلك الأغاني الميلادية والأغاني الاحتفالية بالسنة الجديدة، وكأن شيئاً لم ينقطع أبداً، وكأن خيوط الحياة السعيدة ما زالت مرتبطة ببعضها بوشائج إبداعية والأهم أنها جماعية ومعلنة ومشرعة أمام الجميع.

 من زاوية معتمة في بيته يراقب جواد حركة العابرين في الشوارع المظلمة، يلتمع ضوء شجرة ميلاد على زاوية مقابلة، تراوده فكرة طريفة، سيذهب إلى ذاك المنزل وبيده هدية لطفل المغارة، المسيح، هدية عبارة عن حبة حلوى كمعايدة له بعيد الميلاد أو بيوم ميلاده، وربما يكتب له رسالة مختصرة جداً قائلاً له، كن معنا، فقلوبنا تحتاج دفء المحبة ونحن نحتاج السلام والراحة.

 ينتظر السوريون الأعياد ليكونوا على مواعيد لشراء الملابس والأحذية وربما وجبات الطعام المميزة اللازمة لهم والتي يؤجلونها لأوقات الأعياد فتصير فرحتهم بها مضاعفة، فرحة تلبية الاحتياجات وفرحة استقبال الأعياد بملابس جديدة وأنيقة تفرح الصدور وتدعم القلوب المنتظرة للحظات فرح حقيقية.

 لكن العيد هذا العام أجبر وعد على بيع خاتم زواجها، وهو القطعة الذهبية الوحيدة التي أبقتها الحرب لها. فور بيعها لخاتمها اشترت حذاء لابنها الأصغر، الذي انتظر طويلاً وهي تؤمله بأنها ستشتري له ما يريده. والحقيقة أنه لا يريد شيئاً بدافع الاقتناء أو الاشتهاء أو مجرد الرغبة، بل يحتاج الكثير من الأساسيات بدءاً من الملابس الداخلية وصولاً إلى معطف مناسب وكاف لرد البرد القارس في مواجهة غياب التدفئة بكافة أشكالها، كما اشترت بعض المؤونة للمنزل الخالي بكل ما في الكلمة من معنى من كل مقومات الاحتياج وخاصة زيت الزيتون والسكر والأرز ومواد التنظيف، عدا عن ضرورة دفع بعض الفواتير اللازمة والمتأخرة.

هنا تبدو الإشارة ضرورية جداً إلى أن ابن وعد عضو في فريق الكشاف العائد لإحدى الكنائس التي تحتفل بعيد الميلاد. إنه يحتاج حذاءً جديداً ليس فقط لأن حذاءه مهترئ، بل من أجل الاحتفال بمظهر لائق ويناسب العيد ولا يخدش حاله المهترئ مشاعر وعيون المحتفلين الذين يؤدي الفتى الألحان لهم. سيكون هناك في الطريق ليعزف الألحان الكورالية والميلادية الاحتفالية ليسعد الناس المحتفلة بالأعياد، ليتذوقوا نكهة العيد السعيد ولكي يقول الجميع إن العيد قد مر من هنا، لكن ثمة أم عرفنا قصتها بالصدفة تروي أنها باعت خاتم زواجها من أجل حذاء العيد لابنها.

 لم تنته الحرب، وكل الأعياد وأشجار الميلاد عاجزة عن تدفئة قدمي طفل يعزف الموسيقا احتفالاً بالعيد لإسعاد الناس وبقائهم في مواجهة الخراب.

 لم تنته الحرب ولن تنتهي الأعياد والأشجار باقية ما بقيَ الناس والزينة والأضواء والألوان والموسيقا والأغاني ستبقى امتداداً للذاكرة ولقوة الوجود، لكن الرسائل ليست في عناوينها دوماً، بل في مضامينها المضمرة والساطعة في حزنها وعجزها، في الحكايات التي تدور وراء الأبواب من أجل تلبية الحاجات الأساسية، في خواتم الزواج المباعة على وعد بالانفراج والكرامة والأمان. وربما ستبقى على موعد مع ابتسامة طفل يجدد حذاءه المهترئ، الذي أصرت أمه على أن يحتفل وأن يشارك الناس ألحانه الاحتفالية بحذاء جديد، طالما كانت وستبقى أحذية الأطفال وصمة عار على جبين الحروب، طالما سيكون حضور الأطفال والموسيقا والأغاني والحكايات صفعة على وجوه الحرب، المتعددة التي بات لزاماً أن تتوقف.

 على الأرض السلام وفي الناس المسرة.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم. "خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون...

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

تدريباتنا