تدريباتنا

اختبارات جديدة للكارثة في سورية

بواسطة | فبراير 11, 2023

جاء فجرُ السّادس من شباط الحاليّ غاضباً، منفجراً، لا يفرّق بين ظالمٍ ومظلومٍ، ولم يستثنِ أي طرفٍ من الانقسامات الاجتماعيّة والسياسيّة في سورية. لم يكن مجرّد فجرٍ عابرٍ لهزّة أرضيّة، إنّما زلزالاً تجاوز السّبع درجاتٍ على مقياس “ريختر”، ضرب جنوبيّ تركيا بقوة مدمرة وأجزاء واسعة من سورية في كل من حلب وإدلب وحماة واللاذقية وطرطوس، وصولاً إلى دمشق التي شعر سكانها بالهزة الأرضية. وقد شعرنا بارتداده أيضاً في قبرص، ليسجل فصلاً جديداً من حكاية الوجع السوريّ، وهذه المرة بتوقيع الطبيعة. 

حيث أعيش في مدينة لارنكا القبرصيّة، استيقظتُ في لحظة وقوع الزلزال ذاك، كانت صرخات الجيران وهلع الأطفال يذكّرني بما عشته من فرص جديدة للحياة في سورية بعد قصف أو انفجار مفخخة أو نزول قذيفة هاون على الأحياء السكنية الخالية من العسكر. 

ربّما بَقِيَتْ ارتدادات الزلزال في الروح لشهور أخرى، فامتلأت صفحات منصات التواصل الافتراضية بالنداءات وأرقام هواتف المساعدات المحليّة ومئات المبادرات المُرتجلة منها والمنظّمة، لتتحول النّفس السوريّة في لحظتها إلى ترك كلّ ما حدث من تهجير وصراعات عسكريّة وسياسيّة، جانباً، ولتذهب نحو البحث عن ناجين تحت الأنقاض، وتحاول أن تساعد في تأمين جزء من آلاف الأسر التي خرجت إلى الشارع وقد تصدعت بيوتهم الهشّة وغير المعتادة على مثل هذه الكوارث. كانوا جميعاً بشراً دون رتب حياتيّة، تخلّصوا من سطوة التبعيّة وصارت بوصلتهم تتحرك على إيقاع تعاطفهم الإنسانيّ دون أن يحمّلوا المسؤولية لأحد، كانوا يحبون الحياة رغم كلّ شيء. 

تلك الصور القادمة من المأساة التركيّة والسوريّة، قتلت أكثر من خمسة عشر ألف شخصاً وهجّرت الآلاف، وما لفت  نظري حقاً هو النزاع العلنيّ بين حكومة دمشق التي رأت في المسألة فرصة سياسية لمطالبات دولية من أجل إعادة الاعتبار لكيانها بغض النظر عن الضحايا الذين سيموتون جوعاً وعطشاً تحت الأنقاض بانتظار التحرك الإغاثي المجدي، وبين المنظمات النشطة في مناطق سيطرة المعارضة التي كانت تجمع التبرعات من حول العالم وتسعى للعمل في بعض المناطق بينما تخاف من العقاب إن دخلت إلى مناطق سيطرة القوات الحكومية التي تنظر إليهم كـ “حاضنة للإرهاب”! 

إذاً، وُضِعَ السوريّ مجدداً على خارطة الحاجة والبحث عن فرص ممكنة للحياة، لكن الجهات التي تتحكم في مصير حدوده، لا تقيم أيّ اعتبار للإنسانيّة في وقت الكوارث والفيروسات وحتى المعارك الحربيّة للسيطرة على المناطق، إنّما ساد الهدوء في محطات “الإعلام الرسميّ” في السّاعات الأولى فيما تجاوزت صفحات الناشطين حدود العالم خلال وقت قصير. 

حاولت تلك الصفحات أن تعبّر عن الصعوبات وتنظم تجميع المساعدات من جهة وتوثق الأحداث على الأرض، من جهة أخرى، في ظل انشغال حكومة الأسد بتلقّي التعازي وحملات الإغاثة وتوزيعها بهدوء لا يتماشى مع التوقيت الذي فرضه الزلزال على ساعات أرواح الضحايا، فكانت أقسى عبارة وثّقها أحدهم في فيديو قرب الأبنية المدمّرة “لقد اختفى الأنين!” وبالتالي من المؤكد أن أصحاب الأنين قد ماتوا انتظاراً، وقفت في وجوه فرصهم الأخيرة حملات تصفية الحسابات السياسيّة! 

من جهة أخرى، كانت حجة سلطات دمشق أن العقوبات تمنع وصول المساعدات، وفي غضون أيام اتخذ مكتب مراقبة الأملاك الأجنبية الأمريكي، قراراً بتجميد جزء من العقوبات الأمريكيّة على النظام السوريّ لمدة 180 يوماً، ابتداءً من 10/2/2023 للسماح بتقديم المعونات لسورية للتعامل مع آثار الزلزال وبالتالي سوف تتحرك السفارات والقنصليات والهيئات الدولية الإغاثية لجمع التبرعات وإرسالها إلى سورية.

ولكن قبل العقوبات؛ بإمكاننا أن نرى حركة الناشطين على الأرض والمتبرعين الذين قيل إنهم قدّموا مبالغ كبيرةً. يكفي أن تتحرك منظمات المجتمع المدني الإغاثية شبه حكوميّة كانت أم غير حكوميّة، لتعمل على إنقاذ السوريين، ولكن، مهلاً؛ إنّ الإغاثة والعمل الإنسانيّ الذي يوحد البشر على الدفاع عن حقهم الطبيعي في الحياة، هو أمر تعتبره السّلطات استحقاقاً لا يمنح إلا من خلالها (…) وهذا ما زاد في اختبارات الإنسانية أسئلة جديدة في الكارثة السوريّة.  

قتل متكرر!

تبقى في ذاكرة المرء وأثناء تلقي أنباء الكوارث، صورُ الحدث بأشكاله المختلفة، صور الضحايا، صور الناجين؛ نبحث عنها بدافع الفضول أو التعاطف أو الكتابة أو مشاركة الوجع لنخفف عن بعضنا، ومهما كانت الأسباب، فإن تلك المشاهد لن تغادر روحنا بسهولة وسوف تمارس كوابيسها المخيفة على حياتنا القصيرة، ولعلّ أكثر ما جعل الحالات تزداد هو توثيق الهلع، إذ كان أحد السوريين المقيمين في تركيا بمنطقة هاتاي يحاول المغادرة في اللحظات التي ضرب الزلزال فيها، كان يسجل مقطع فيديو وهو يتمنى أن ينجو (…) لست أدري ماذا يخطر في العقل البشري من حاجات لتوثيق الرعب ونشره على مراحل متقدمة ليؤذي الملايين حول العالم من ذلك؟ وعلى عكس هذا كان توثيق خروج الناجين من تحت الأنقاض يفرح القلب، لكن الألم المؤجل هو عرض وجوههم المضطربة في وسائل الإعلام دون حتى استشارتهم، لجذب التعاطف أو أي شيء، وذلك السلوك المؤذي كان يمر إلى ذاكرتنا ويترك أثره القاسي أيضاً. 

التغطية وفقر الأدوات

“هناك أبنية متصدّعة من مخلفات الحرب، وأصبحت بعد الزلزال بوضع خطر على حياة السكان” يقول أسامة كرحوت وهو صحفي شاب، وكان قد ذهب في حملة تطوعية إلى حلب بسبب الزلزال. ويشير إلى أن أعداد السكان الذين تركوا تلك الأبنية، كبير، وقد فضّلوا البقاء في المدارس أو في بيوتهم المتصدّعة، بدل أماكن الإيواء الباردة والمتجمّدة. لقد تمّ التبرع بمبالغ كبيرة، وكان من المجدي بناء بيوت سكن مؤقتة لهؤلاء الناس، على أن تكون مجهّزة لمثل هذه الكوارث، بحسب كرحوت. 

ونُقل عن روايات الأهالي بأن الطعام كان متوفراً بشكل معقول، في أحياء حلبية مثل (السكري والمشارقة) ولكن المعيب “أن أشخاصاً غير محتاجين كانوا يأتون إلى توزيع المساعدات ويأخذون حصص أشخاص لا يملكون أي مأوى أو كسرة خبز!” يؤكد كرحوت، ويلفت إلى أن المفارقة كانت بوجود أناس؛ حالهم يرثى له، رفضوا الظهور أمام عدسات الإعلام أو أمام فرق المساعدة، ربما بسبب “عزّة نفسهم” حسب وصفه! 

هناك فقر إعلاميّ في متابعة الصورة على الأرض، وحين تكلّمت مع أسامة أكّد لي أنّه بث فيديوهات مباشرة رصد فيها الوضع الميداني من خلال صورة واقعية تخفف قليلاً من هول الكارثة بطمأنة السوريين في كلّ مكان عن وضع بعض المناطق التي لم يصل إليها الإعلام بأيّ شكل كان.

إضافة إلى ذلك، كان الأهالي يستخدمون أدوات بدائية لإزالة أنقاض عشرات البيوت، بعد مرور الوقت المحتمل لإيجاد ناجين، ربما قد أصبحوا الآن ضحايا تحت الركام.

يتجول أسامة كرحوت مع عدد من رفاقه الذين خرجوا من دمشق نحو حلب أطلقوا على نفسهم اسم “الفزعة” وهم مجموعة من الشباب والشابات يدرسون في كلية الإعلام بدمشق، جمعوا ما لديهم من مساعدات كمبادرة تطوعية، يتجولون لتوثيق الحقيقة ومساعدة الناس بالتكاتف مع عدد من أهل مدينة حلب الذين يرشدونهم ويساعدونهم في هذه المبادرة الإنسانيّة. 

معضلة الحال

يسوء حال المراقب لكمية التعب والخسائر التي يعيشها أهل سورية بسبب هذا الزلزال، سيما وأنه بلد يعيش حرباً وصراعات سياسيّة وعسكريّة لا حدود لها. لقد وصلت الحالة الاجتماعيّة بين الناس إلى درجات من التّهتك الإنسانيّ وعدم الثّقة والفقر، مع صعود لغة العنف والقتل كأبرز الأدوات لتخليص الحقوق! 

وما أن حسمت الطبيعة ثقلها الفيزيائي لتحرير تلك الطاقة الهائلة في جوفها الأرضي، حتى أزال عدد كبير من السوريين غشاوة الصراع عن عيونهم وطوائفهم وانقساماتهم السياسية؛ لقد انتبهوا لحالهم بشكل آخر؛ إنّهم يحاولون التغلّب على أرباب الحرب وتجارها الذين خطفوا حلمهم بالتغيير. إنّهم يشهرون قلوبهم وأرواحهم لمساعدة بعضهم، لكن المعضلة تكشف عن عبثيّة الحال؛ فمن صنع الحرب هم الطّغاة ويستحيل يوماً أن يصنعوا سلاماً لأرض قُصفت بالطيران والمدافع، ولم يكن السّبب أكثر من رفض الناس لذلك الظلم المسمّى طغياناً، أمّا الآن فقد دُمّرت معظم البيوت وربما النفوس بسبب الزلزال وصرنا بحاجة حقاً لمعجزة إنسانيّة تنقذنا ولو قليلاً من حصار الكارثة. 

*مصدر الصور المرافقة: أسامة كرحوت

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم. "خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون...

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

تدريباتنا