بواسطة طارق انطون | نوفمبر 26, 2021 | العربية
لم يكن يعلم رامي ما ينتظره بعد نهاية يوم طويل من العمل. انتقل فيه من عمل إلى آخر في رحلته الشهرية لتأمين القليل من المال بهدف شراء ما يكفيه من الطعام والشراب لعائلته.
وقف رامي ينتظر لأكثر من ساعة وسيلة نقل توصله من منطقة البرامكة في دمشق إلى جديدة عرطوز بريف العاصمة، قبل أن يأتي الفرج أخيراً بوصول سرفيس أقل زحمة من غيره. ما إن وصل إلى باب السرفيس حتى تجمع كثيرون، لكنه تمكن من الدخول بسلام، وقبل أن يجلس على المقعد تفقد هاتفه الجوال واكتشف أنه سُرق.
صدمة
تنتشر ظاهرة السرقة في مناطق الحكومة السورية بكثرة ومنها الهواتف المحمولة، وسط تدهور الحالة الأمنية، وارتفاع معدلات الفقر التي وصلت إلى 90 % حسب الأمم المتحدة. وأوضح المحامي الأول في دمشق محمد أديب المهايني لصحيفة “الوطن” المحلية، أن عدد الهواتف المحمولة التي تسرق يومياً في العاصمة يبلغ 70 هاتفاً.
بعد أيام استفاق رامي من صدمته وذهب لتقديم شكوى في القصر العدلي بشأن سرقة هاتفه. وعقب انتظار لنصف ساعة إثر الازدحام الكبير على المكتب المعني، قدم ضبطاً بما حصل معه، وأخبره الموظف بأن يراجعه بعد ثلاثة أشهر على الأقل.
قرر رامي بعد عدة أسابيع شراء هاتف جديد بعد تعطله عن العمل، وتمكن من استدانة مبلغ بسيط من أصدقائه، قبل أن يفاجأ بأن ما يملكه من المال لا يشتري له سوى جهاز من الطراز القديم من أجهزة النوكيا.
وارتفعت أسعار أجهزة الهاتف المحمول في مناطق الحكومة السورية بشكل كبيرٍ هذا العام، مع تدهور قيمة العملة وارتفاع سعر صرف الدولار إلى (3500 = $1).
يضاف إلى ذلك ضريبة الجمركة التي تفرضها الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد على الأجهزة، والتي ارتفعت قبل شهر إلى 30% تضاف إلى سعر كل جهاز.
هذا ما أدى إلى ارتفاع أسعار الأجهزة بشكل جنوني، وباتت حلماً جديداً يضاف إلى قائمة أحلام السوريين والتي تبدأ بالحصول على كميات كافية من الطعام والشراب.
وحسب مدير مديرية الشؤون الفنية في الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد وائل سابا في تصريحات لوسائل إعلام محلية، فإن “الأساس الذي تتحدد وفقه جمركة كل جهاز يكون بناء على السعر الرائج عالمياً، الذي يحدد عن طريق منظومة خاصة بتحديد الأسعار، وتحتسب بعدها القيمة الجمركية، وبالتالي تعتمد على نوع الجهاز والمواصفات الفنية والطرازات”.
وذكر سابا أن قيمة الجمركة تتراوح بين 30 ألف ليرة للهواتف بالمواصفات القليلة، وأكثر من مليونين ونصف للأجهزة الحديثة حسب نوعه ومواصفاته.
حاول رامي استدانة مبلغ جديد بما يناسب أسعار الأجهزة، لكن صديقه أخبره بطريقة لتخفيف أعبائه المالية عبر شراء جهاز من أشخاص محددين يحضرونها من لبنان، ثم القيام بجمركته داخل سوريا مما يخفف التكلفة.
إذ لجأ بعض السوريين في الفترة الأخيرة إلى شراء أجهزة من لبنان أسعارها حسب السعر العالمي، ثم يبيعونها في الداخل السوري بالليرة السورية على أن يقوم الشاري بعملية الجمركة.
وفي حال شراء جهاز من خارج سوريا أو القدوم إليها يُمنح الشخص فترة شهر يعمل خلاله هاتفه بشكل كامل، ثم يطلب منه الجمركة وإلا سيتوقف الجهاز عن العمل على الشبكة السورية.
تفتيش
قرر رامي شراء هاتف من أحد الأشخاص الذين يحضرونها من لبنان، قبل أن يكتشف أنه قبض عليه من قبل الأجهزة الأمنية وهو يتنقل في دمشق.
وعلم رامي لاحقاً أن هذا الشخص خرج بعد أسبوع من السجن، وتم أخذ 15 جهازاً كانوا بحوزته (تقدر أسعارها بـ10 ملايين ليرة سورية)، إضافة إلى مليون ونصف ليرة منه.
وفي الفترة الأخيرة ازدادت عمليات تفتيش الحواجز بحثاً عن أي أشخاص يبيعون أجهزة مهربة، بعد لجوء السوريين إلى شراء الأجهزة من لبنان وبيعها داخل البلاد، حيث يمنع على أي شخص حمل أكثر من جهازين عند التنقل من منطقة إلى أخرى.
ويحتكر عملية استيراد الأجهزة في مناطق الحكومة السورية عدة أشخاص، ويملكون شركات معينة تقوم بعمليات البيع وتكون الأجهزة مجمركة وبأسعار مرتفعة.
كل ذلك جعل من الهاتف المحمول بعيداً عن متناول السوريين، فلم يعد هناك مجال لشراء جهاز بمميزات وتحديثات جديدة، حيث إن شراء الطعام والشراب والحاجات الأساسية غطت على كل شيء في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه السوريون.
ويذكر سعيد أنه تخلى عن فكرة شراء جهاز جديد رغم أن هاتفه فيه أكثر من عطل، بعد أن رأى أسعار الأجهزة والتي يبلغ سعر المتوسط منها مليون ليرة سورية.
أما عبير فتقول غاضبة: “عم يربحوا بسعر الجهاز أكتر من الشركة المصنعة. وفوق هاد جمركة بدون أي سبب بس حتى يسرقوا هي سرقة عينك عينك”.
عندما تسير في شوارع العاصمة السورية ستجد الناس ممسكين بهواتفهم بإحكام خوفاً من سرقتها، وبالتالي الاضطرار إلى شراء جهاز جديد. وبعد أن كانت جمركة الأجهزة في عام 2019 ما بين 15 إلى 25 ألف ليرة سورية، وصل بعضها اليوم إلى أكثر من مليونين.
ويشير أحد الخبراء إلى أن رفع أسعار الأجهزة والجمركة يعيق وصول السوريين إلى التطبيقات والتقنيات الحديثة، في ظل إعلان الحكومة السورية أنها تتجه نحو التحول الرقمي.
في النهاية تمكن رامي من الحصول على جهاز قديم من أحد أصدقائه، عله يتمكن في السنين القادمة من شراء جهاز جديد على الرغم من أن قائمة أمنياته تعدت الـ50 شيئاً، وكلها تتطلب المال لتحقيقها، لكن حلمه الأول وكان ولايزال السفر خارج سوريا وبدأ حياة جديدة.
بواسطة طارق علي | نوفمبر 25, 2021 | العربية
“لماذا سافرت برأيك؟، هل هو ترف السياحة؟، أم هي الحاجة للعيش؟، نعم أنا طبيب، قضيت عمري أدرس حتى اتخرج، ثم هات حظاً لأفتح عيادة واتعاقد مع مستشفى ثم أن يكون لديّ مرضى أو لا يكون، ثم ما هو مستقبلي في البلد؟، ومهما جنيت كم سأجني؟، الصومال ليست الخيار الذي كنت أطمح إليه، ولكن للأسف صارت وجهتنا كأطباء مكره أخانا لا بطل”، يقول طبيب دخل عامه الثاني في مقديشو، يرفض الكشف عن هويته، يقول أنّه يخاف تبعات ما قد يقوله لشدة ما وصل إليه من إحباط، قبل أن يودع حواري الشام، على حد تعبيره.
وبلهجة لا تخلو من الحزن يكمل: “شباب ضائع، حاضر سيء، مستقبل غامض، لا أدعي أنني تأقلمت في الصومال، ولكن على الأقل لست نادماً على هذه الخطوة بقدر ما أنا حزين أنّها خطوة لم تكن اختيارية بالمطلق، الظروف المادية والنفسية والمعنوية، وفوقهم الحرب، ومخاطر ما بعد الحرب، وضيق الحال، وضعف الاقتصاد، وانعدام فرص العمل، كل هذا بعض من العوامل التي جعلتني أكون حيث أنا الآن، وحيث أنا الآن هناك الكثير من أقراني السوريين، جميعنا نسأل بحرقة، أما كان يمكن ألّا يقدر لبلادنا كل هذا العذاب؟”.
جهاراً نهاراً
“هام: فرص عمل مميزة برواتب ومزايا عالية في قطر واليمن والصومال، للأطباء الأخصائيين من كافة الاختصاصات، وحسب توافر الشاغر، لتصلك عروض التوظيف مباشرة، أرسل سيرتك الذاتية وصورة عن الشهادات الدراسية والخبرة على واتس اب، وسنتواصل معك قريباً جداً”.
هذا نص لمنشور وضعته صفحة اسمها “فرص العمل للسوريين في الخليج والصومال” على موقع “فيسبوك”، وختمت منشورها بوضع رقم عائد لشخص يسمى الدكتور ميخائيل من حمص، يعمل ضمن شركة اسمها موارد تأسست في عام 1999 كما جاء في النص.
انهالت التعليقات على المنشور، ايمان درويش قالت: “هل هناك شروط خاصة للعمر”، فيما طلب منذر منذر فرصة عمل لشيف شرقي، أما أمينة زهرة فقد قالت أنها مهندسة وتريد السفر، وصادق البشاري قدّم نفسه على أنّه فني أسنان مهتم بالفرصة، وآخرون راحوا يشيرون لأصدقائهم في التعليقات.
لا يمكن وصف الحالة بالطبيعية، فأي شيء وصله السوري حتى يسعى للسفر إلى الصومال؟، هذا سؤال تبدو الإجابة عليه أعقد من الإيجاز فيها.
2200 دولار
“الغريب أنّ التعاقد صار الآن يتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي”، يقول الطبيب شادي حلوم لـ “صالون سوري”، ويكمل: “عرض عليّ أكثر من مرة السفر والعمل في الصومال ولكنني بالطبع رفضت وسأظل أرفض، تخيل يتم التواصل معي عبر فيسبوك مرة وعبر واتس آب مرة أخرى، وضمن هذه المرات كانت شركة طبية هي من تتواصل، بالتأكيد لن أهرب من سوريا لأموت في الصومال، نحن هنا جائعون ولا عمل يفي بالمطلوب ولا فرص كنا نسعى إليها سنصلها، وصحيح أنّني سأخدم عسكريتي ولكن لقد حددت مدتها لي كطبيب وهذا أمر ممتاز، بالمختصر لم أمت في عشر سنوات من الحرب السورية، لن أذهب لأموت في لحظة اشتباك أو تفجير في الصومال، ثم لنسأل هل نحن حقاً نعرف الوضع في الصومال؟، كم هرمنا وتعبنا وهزمتنا الظروف حتى صرنا نهرب من بلد حرب، إلى بلد حرب آخر!”.
علي طبيب آخر في دمشق، لا يزال يفكر في عرض قُدِمَ إليه للسفر والعمل في الصومال، “لقد قدم لي عرض للسفر والعمل في أحد مستشفيات مدينة بيلدوين الصومالية مقابل راتب 2900 دولار شهرياً، وعلاوةً على ذلك الراتب قابل للزيادة، والسكن مؤمن، والطعام، والإجازة السنوية شهر كامل مدفوعة الأجر، وقيل لي أنّ تعداد سكان هذه المدينة أقل من مليون نسمة وأنها آمنة نسبياً، لذا، لا زالت أدرس العرض، ربما أوافق، بالنهاية لا يوجد عمل في بلدنا، والخيارات والسبل والدروب باتت شبه مسدودة في أوجه الشباب”.
يمكن للطبيب نفسه أن يبحث عن فرص عمل للسوريين في الصومال عبر الانترنت، بعض المنشورات تقدم رواتباً تصل حدّ خمسة آلاف دولار، وهو ما يحتاج السوري لسنين لجمعه في بلده، على اعتبار أنّه مقابل كل طبيب يعمل هناك عشرة لا يعملون، وهذا طبيعي بالسياق المهني العام، ولكنّه غير طبيعي إذا ما خضع لمبدأ ترغيب الأطباء بالهجرة مقابل المال، إفراغ سوريا من أطبائها ومهندسيها وشهاداتها بصورة عامة، سيجعل تعافي هذا البلد بطيئاً أكثر من المتخيل، هذا في حال تعافى، وهذا رأيٌّ يذهب إليه جمهور يدعي الواقعية لا السوداوية.
جار عليهم الزمن
صفحة أخرى على موقع “فيسبوك” تقول في تعريفها إنّها غير ربحية وإنما الهدف منها هو التواصل والتعاون بين الأطباء السوريين في الصومال بعد أن “جار عليهم الزمن”، وبدورها تبدو هذه الصفحة سخية، إذ تقدم رواتب تصل حتى 3500 دولار مع نسبة 10% للطبيب، وبسهولة يمكن البحث وإيجاد عشرات وربما مئات فرص العمل للسوريين في البلد الشقيق لشامهم، الشقيق في الحرب وعداد الموت المطرد مع الأيام.
“لم أكن أريد بأي شكل لولدي أن يسافر، وإلى أين؟، إلى الصومال!، إلى بلد آخر مزقته الحرب، أمسك له كلما استطعت الصلاة النارية، وأذكره بالدعاء مع كل قيام ليل، ماذا بيدي أن أفعل؟، أتواصل معه كلما سنحت له الفرصة، والله لا أفوت لحظة دون دعاء له، ختمت القرآن على نية عودته سالما، ولكن ماذا بعد؟، إلى متى سأعيش هذا الجحيم من الخوف عليه؟”، تقول أم سامر والدة طبيب هاجر قبل ثمانية أشهر إلى الصومال، تقول ذلك وهي تدرك بكل ثقة أنّه ما من مستقبل لابنها الوحيد هنا، “لكنه قلب الأم.. ما باليد حيلة”.
خسارة الأطباء
وافادت صحيفة “الشرق الأوسط” في مادة نشرتها الشهر الماضي أنّ سوريا خسرت 400 من كادرها الطبي بينهم 230 طبيباً نتيجة تفشي فايروس “كورونا”، بينهم عدد من أهم وأكفئ الأطباء المختصين، وهو –والكلام للصحيفة- ما أثار مخاوف العاملين بالقطاع الصحي ودفع كثيرين منهم للتفكير لمغادرة سوريا.
مصدر في وزارة الصحة أكد لـ “صالون سوريا” دقة أعداد الوفيات، مبيناً أنّ سوريا اليوم تدق ناقوس الخطر بفعل النقص الفادح بأعداد الأطباء، الأطباء الذين نالت منهم الحرب خلال السنوات الماضية، والمهاجرين الجدد، والذين قضوا في أزمة كورونا.
يبقى أنّ نقيب الأطباء السوريين اعترف في حديث سابق أنّ الأطباء يهاجرون إلى الصومال لأنّ الرواتب هناك أفضل، وفي الإطار قالت مصادر متقاطعة لـ “صالون سوريا” أنّ المعيشة في الصومال رخيصة جداً قياساً بدخلهم بالدولار الأميركي، وبأنّ الشعب الصومالي ودود و”معشراني” ويحب السوريين، ربما يحبهم على قاعدة أشقاء الدم والعذاب في الأرض، وقليل من الاحترام لوافدين من بلد كان يحتل مرتبة متقدمة في الأمن وضمناً الغذائي والمائي، وصار اليوم أكثر من 83% من سكانه تحت خط الفقر.. ولولا أنّ السوريّ جاع لما كان سافر إلى الصومال التي ما كان يعرف عنها غير الخوف عبر ما كان يُعرَض في نشرات الأخبار قبل أن تصير سوريا عنوان المشهد المستمر في نشرات الأخبار.
بواسطة ابراهيم حميدي | نوفمبر 24, 2021 | العربية, غير مصنف
«أفضّل الموت هنا على العودة إلى الجحيم. حتى إن عنصر الشرطة في مطار دمشق سألني عن وجهتي، وما إذا كانت ألمانيا أم هولندا، ثم قال لي: نيّالك. ليتني كنت معك». هذه خلاصة ما قاله «فؤاد»، وهو اسم مستعار لشاب سوري عالق في بيلاروسيا منذ وصوله إلى منسك في 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. خوف هذا الشاب، و5 من «أصدقائه الجدد»، دفعهم للتواصل مع «سماسرة عرب» بحثاً عن «مخرج من هذا الفخ» بين عدم القدرة على العبور إلى بولندا الأوروبية، وبين الخوف من «الوقوع» في أيدي السلطات البيلاروسية لإعادته إلى سوريا.
أما «رفيق»، فكان بين المحظوظين الذين غادروا «الكابوس السوري» وقبضوا على «الحلم الأوروبي». فبعدما وصل إلى الحدود «جاء 6 جنود بيلاروس ضخام، رفعوا الأسلاك الشائكة لنا، وأشار أحدهم إلى بولندا، وقال لنا؛ اذهبوا، حظاً سعيداً». وبالفعل، وصل «رفيق» ووالده وآخرون إلى ألمانيا. ويقول نبيل: «المخاطرة تستحق، لن أعود إلى بلادنا في حياتي».
– كيف بدأت قصته؟
«فؤاد»، شاب كان يعيش في دمشق. تخرج من الجامعة قبل سنوات، وعمل لفترة قصيرة براتب لا يسد الحد الأدنى من كلفة العيش مع تدهور سعر صرف الليرة السورية إلى 3 آلاف مقابل الدولار الأميركي، ثم فقد عمله المتواضع وفقد معه الأمل. صار همه السفر إلى خارج البلاد. تواصل مع مكتب للسياحة والسفر في وسط دمشق مرخص من الحكومة، واستدان مبلغاً من أقاربه ودفع 3600 دولار للمكتب للحصول على تأشيره إلى بيلاروسيا. الصفقة تشمل التأشيرة وأجرة رحلة السفر عبر شركة «أجنحة الشام» وحجزاً في فندق في مينسك لبضع ليالٍ.
تأخرت التأشيرة من السفارة البيلاروسية بدمشق، لكنها وصلت. وخلال فترة الانتظار، اتصل «فؤاد» بقريب له كي يرتب أمور الاتصال مع مهرب من مينسك إلى حدود بولندا. ترتب الأمر، ودفع 2500 يورو. كان محظوظاً لأن آخرين دفعوا للمهرب 10 آلاف يورو لكل شخص. تبلغ «فؤاد» وصول التأشيرة، فجمع حاجاته البسيطة في حقيبة، ووضع هاتفاً نقالاً و1000 دولار في جيبه. وفي الساعة التاسعة من صباح 27 أكتوبر، تسلم الفيزا في مكتب السياحة المكتظ بعشرات الباحثين عن «الحلم الأوروبي»، أو «الخروج من الكابوس السوري». وركبوا الباص إلى مطار دمشق. يقول: «وصلنا إلى نافذة مسؤول أمن الحدود. تحقق من وجود تأجيل عن الخدمة العسكرية الإلزامية وجواز السفر، ثم سألني؛ إلى أين أنت ذاهب؟ ألمانيا؟». ثم أضاف: «ليتني كنت معك. نيّالك».
عبر «فؤاد» خط التفتيش الأمني ووصل إلى منصة الدخول إلى الطائرة؛ حيث كان عناصر الأمن التابعين لـ«أجنحة الشام» بالانتظار. كانوا ينتقلون من «مسافر» إلى آخر، طالبين منهم تسليمهم الأوراق النقدية السورية. يقول: «كانوا يفتشون كل واحد منا. أخذوا رزماً كثيرة من الأوراق النقدية السورية».
– راعٍ ورعية
كان على متن الطائرة نحو 200 شخص، معظمهم من الشباب، وبعض العائلات. وصلوا إلى مينسك بحدود الساعة السابعة مساءً. وعندما حطت الطائرة، جاء باص ونقلهم جميعاً إلى مبنى المطار. صعدوا إلى الطابق العلوي؛ حيث كانت «الصدمة. كان كل العالم هنا. شباب وعائلات من العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان».
هنا، كانوا على موعد مع الانتظار والأمن البيلاروسي. بعد ساعات وساعات، جاء رجل أمن و«قادنا كالبقر. كان يسير في رأس الرتل، أمام نحو 200 شخص. كان يقودنا يساراً ويميناً، إلى أن وصلنا إلى قاعة»، حسب «فؤاد». ويضيف: «هناك أخذوا من كل شخص هاتفه النقال. وسجلوا الرقم التسلسلي له مع جواز السفر، كي يراقبونا على الأغلب». بعد ذلك، ينتقل كل شخص وحده إلى حاجز التفتيش للتأكد من جواز السفر والهاتف والفيزا، مع أخذ بصمة العين. استمرت هذه العملية وقتاً طويلاً.
ولدى الخروج من المطار في فجر 28 أكتوبر، كان هناك باص نقل الواصلين إلى الفنادق، التي كان المكتب السياحي في دمشق، تكفل بالحجز فيها. قليل من هؤلاء أمضى ليلته في الفندق، فيما توجه كثيرون فوراً إلى حدود بولندا وفق ترتيبات مسبقة مع مهربين. ويشرح «فؤاد»: «المهرب عادة، يرسل نقاط تنقل معينة على الهاتف النقال، وكل شخص يلتحق بهذه النقاط للوصول إلى الحدود ويقطع نحو 390 كيلومتراً، ثم تأتي مرحلة عبور الأسلاك الشائكة، ثم الوصول إلى بولندا».
– الحدود
عندما وصل فؤاد، تغير المزاج البيلاروسي، من «رفع الأسلاك لتسهيل عبور المهاجرين إلى بولندا، إلى ضربهم وإعادتهم إلى العاصمة». ويقول «رفيق»: «هناك قام رجال الجيش البيلاروسي برفع الأسلاك الشائكة وتشجيعنا للعبور إلى بولندا». ويضيف: «قام جندي ضخم برفع الأسلاك، وقام آخر بضرب الجنود البولنديين بالحجارة كي نعبر دون أن يرونا». عبر بعض المهاجرين، فيما تجمع نحو 1000 شخص على الحدود، وسط تفاقم الأزمة السياسية بين بيلاروسيا ودول أوروبية.
تجربة «فؤاد» تختلف عن «رفيق». الأول، تعرف على شباب سوريين آخرين جاؤوا إلى بيلاروسيا. وهو من دمشق، لكن مجموعته ضمت شباباً من وادي النصارى في حمص، وإدلب والساحل. كل واحد منهم كان قد رتّب أمر الانتقال إلى الحدود. وجرب فؤاد مرات عدة الانتقال من العاصمة إلى الحدود، ودفع 100 دولار. وفي كل مرة كان يصل إلى مبتغاه، ثم يقع بين أيدي الجيش البيلاروسي. يقول: «اتفقنا مع مهرب على دفع 2500 يورو لنقلنا من بولندا إلى ألمانيا بعد الالتقاء في نقطة معينة، ثم اتفقنا مع تاكسي. ودفع كل واحد 100 دولار، لكن السائق تركنا قبل 20 كيلومتراً من الحدود. مشينا في الغابات، وكان كل واحد منا يحمل معه حقيبة بوزن 15 كيلوغراماً، فيها مياه وأكل وخيمة للنوم. وعندما وصلنا إلى الحدود، جاء عسكر بيلاروسيا، وصوّرونا، وطلبوا مساندة من ضباط وجنود ضخمين. اعتقدنا أنهم سيرفعون الأسلاك أمامنا كما سمعنا. لكن، فجأة بدأ أحدهم بضربنا بالبندقية، وفتحوا الحقائب وفتشوا عن سجائر سورية وأخذوا بعضها، ثم طلبوا منا العودة. وبالفعل، مشينا 20 كيلومتراً، إلى أن وجدنا تاكسي، وعدنا إلى مينسك».
في طريق العودة إلى العاصمة، تواصل «فؤاد» مع «سمسار عربي» آخر كان تعرف عليه أمام الفندق حيث ينتشر كثير من «السماسرة العرب». رتّب لهذه المجموعة استئجار قبو في بناية للستة، ووعدهم بتكرار المحاولة. يقول «فؤاد»: «سمعنا أن طائرة تابعة لـ(أجنحة الشام) ستأتي إلى منسك في 28 من الشهر لإعادة مجموعة منا إلى دمشق. كلنا قررنا أننا لن نعود إلى الجحيم». ويضيف: «لقد استأجرنا شقة أمس، لشهر، بـ1000 دولار، بانتظار واحد من حلّين؛ إما أن نعبر تهريباً إلى بولندا، أو أن نذهب إلى موسكو، ومن هناك نأخذ تاكسي إلى فنلندا ثم أوروبا، حسب ما وعدنا أحد السماسرة العرب».
* نقلا عن “الشرق الأوسط”
بواسطة يمامه واكد | نوفمبر 22, 2021 | العربية, مقالات
من منشور إلى آخر، تتنقل دينا ( 2 عاما) بين مجموعات “فايسبوك”، التي تعرض فساتين الزفاف المستعملة، بحثاً عن فستان لعرسها القريب، بعدما تخلت عن جولات في محلا بيع فساتين الأعراس في اسواق دمشق، لانها شراء احدها يعني التخلي عن راتب شهر أو أكثر.
“أبحث عن فستان زفاف مميز ولا يتجاوز سعره عشرين ألف ليرة”، تضع دينا هذه الجملة على شكل تعليق تحت منشور يتضمن صور فساتين معروضةٍ للإيجار. لكنها تعلم أنها كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. والمفاجأة، ان سوق الأزياء صار “سوقا سوداء”، حسب ملاحظة “صالون سوريا” مع الناس وبين التجار الباحثين عن الربح.
تضيف دينا تعليقاً على منشور آخر: “خطيبي يعمل في مخبز ونحن لا نستطيع تحمل تكلفة فستان جديد للزفاف”. وبعدها تنهال عليها التعليقات والمعروضات المرفقة بصور، ذلك ان السوريين باتوا يبيعون شيئاً، أي شيء، وكلّ شيء.
بعضهنّ ممن أجبنّ على تعليق دينا، كنّ يعرضن عليها فساتين مستعملة، للبيع أو الآجار. سيدة اسمها غنى ردت لتقول: “صبايا هاد آجار بـ 25 وللبيع بـ 45 واللي بتنوي تكرم”، مرفقةً صوراً لفستان عرس أبيض، يشي بأنّه يوماً كان فستان فرحها، يوم كان الفرح معقوداً على رؤوس الجبال في بلد لم يعرف يوماً شكل الدماء وصوت الرصاص، قبل أن يصير كل ذلك وفوقه الدمار عناوين ثابتة وراسخة في يوميات أهل البلاد التي مرّ على مخاضها عشرة أعوام.. وما كان ينتهي.
دينا أخيراً حذفت منشوراتها وتعليقاتها بعد أن اهتدت لضالتها. وضالتها جاءت على شكل هدية مؤقتة ستعيرها إياها “صاحبة خير” كما تصفها، لتعيد دينا الفستان إليها لاحقاً. الفستان الأبيض الذي سيمحو يوماً أسود واحداً من يوميات حزنها، يوم الزفاف، ثم يعود بعده كل شيء كما كان، حالها كحالة كل سوري، معظمهم على الأقل، معظم من لا زال يتنفس تحت سماء الشام.
رفاهية لا حاجة لها
بمنشورات عدّة، يعرض “أبو عادل” (اسم مستعار – 49 سنة) على “فايسبوك” صوراً لأثاث منزله بغرض البيع، براد، غاز، مكنة خياطة، تلفاز، كنبايات، سجادة. تواصل “صالون سوريا” مع “أبو عادل” الذي فقد عمله منذ سنة ولم يجد عملاً آخر ليعيل أسرته: “كنت أعمل في مجال البناء كمعلم باطون، لكن تخلى عني صاحب العمل لأني أصبت إصابة عمل، وكسرت رجلي وأضلاعي، ولم يعوضني أحد عن هذا الضرر ولم أتلق أي تعويض!، أكثر من ذلك، رفض زيارتي للاطمئنان عليّ. الناس وحوش، وأمام القانون أنا عامل بلا تأمينات وتسجيل صحي وسواه”. يضيف: ” على شوفة عينك، ما عم لاقي شغل يناسب عمري وحالتي الصحية، لهلأ بعرج ع رجلي، وما في أكل ببيتنا، وبكفينا بيت نسكن فيه والباقي رفاهية زايدة ما في حاجة إلها، لشو الأثاث وبرادنا صار نملية”.
على هذه الحال، يتنقل “أبو عادل” من صفحة لأخرى علّه يجد زبوناً مناسباً لكل معروضاته التي لم يطلب فيها أكثر من ثلاثمئة ألف ليرة سورية (أقل من 100 دولار أميركي).
“أبو عادل” واحد من المئات، وربما الآلاف، أولئك الذين صاروا يعرضون أثاث منازلهم للبيع، زبائن تشتري، وآخرون يطالبون بخفض السعر، وغيرهم يساوم ويفاصل في الأسعار ثم لا يشتري، وعلى هذا المنوال أصبح أثاث منازل السوريين رفاهية لا تغني ولا تفيد.
ارتفاع وبيع
“أم رنا”، عجوز سبعينية تعمل كبائعة للخضار تنقل بضاعتها يومياً من رصيف إلى آخر. ترفض أن نصورها، تخاف من العدسة، يبدو هذا مبرراً لسيدة تتنهد وتتحسر على ما تعانيه هي وابنتها من خوف وجوع وفقر بعد أن فقدت من فقدته من أسرتها قبل أن يتحول بيتها إلى ركام وتصبح نازحة.
استقرت أخيراً بغرفة استأجرتها في حي الحمصي بجرمانا، تقول “أم رنا” وقد عرضت اسطوانة غاز تمتلكها للبيع: “ارتفع سعر الغاز المنزلي بعد أن ارتفعت أسعار الكثير من المواد التموينية، كيف لي أن أطعم ابنتي وألبي لها كل متطلباتها الدراسية في هذا الوضع المزري؟، كل الأسعار ترتفع ولا أملك حيلة إلّا أن أبيع إسطوانة غازنا، وأن اعتمد على الكهرباء في الطبخ، فأنا اشتريت شيئاً نسميه وشيعة ثمنها تسعة آلاف ليرة”.
للمفارقة، فإن سعر إسطوانة الغاز يختلف بحسب حالتها، فإسطوانة الغاز الممتلئة تبدل برقم كاد يلامس مئتي ألف ليرة سورية مع الجرة الفارغة، فيما تباع جرة الغاز الفارغة بأسعار لا يمكن حصرها. فكل بائع في هذه السوق السوداء له تسعيرته التي تتناسب طرداً مع حاجة الزبون للغرض، فضلاً عن أنّ سعة اسطوانة الغاز هذه الأيام قلت بشكل لافت بعد أن أصبحت تباع على البطاقة الذكية، وبدلا من أن تكفي لشهرين باتت تكفي لنصف شهر بأحسن الأحوال!، هذا باعتبار أن استخدامها كان من قبل أسرة مكونة وسطياً من خمسة أفراد، فيما رسائل البطاقة الذكية لتبديل الاسطوانة تصل للمواطن بحدود كل ثلاثة أشهر مرة.
أجساد للبيع
“تجارة الأعضاء. نشاط تجاري تحت غطاء التبرع!”، هذا العنوان نشرته في وقت سابق صحيفة “البعث” الرسمية لمقال لها ضمن قسم التحقيقات، لكنّ الصحيفة حذفته من موقعها الإلكتروني بعد أيام قليلة من نشره من دون أن تقدم أي توضيحات في هذا الشأن.
التحقيق تناول ملف تجارة الأعضاء في ظل سوء الأوضاع الاقتصادية وتفشي الفقر والبطالة. وأشار كاتب التحقيق إلى أنه استمع لأطباء عديدين حول تلك الظاهرة التي أكدوا أنّها باتت تُمارس بشكل علني أو شبه علني، وأنّها تخفي وراءها ما هو أخطر منها، وصولاً إلى شبكات منظمة للتجارة بأعضاء المواطن السوري، في ظل ضعف أو غياب الرقابة عن هذا الملف.
الصحيفة سلطت الضوء في تحقيقها على بيع شخص لكليته بمبلغ ثلاثين مليون ليرة سورية، بهدف إجراء عملية قلب مفتوح لولده الوحيد، ما شجع زوجته التي عرضت كليتها للبيع بمبلغ مماثل، لشراء منزل صغير في ريف العاصمة بعد أن دمر منزلهم في حرستا جراء الإرهاب، بحسب الصحيفة.
والجدير بالذكر أن الكلية تباع في سورية بمبلغ يتراوح ما بين 7 إلى 12 ألف دولار أمريكي، لتباع إلى الخارج لاحقاً برقم يصل إلى 75 ألف دولار أمريكي، عبر شبكات متخصصة بتجارة الأعضاء.
أجساد لاجئة
لم يتوقف ملف تجارة الأعضاء وبيع السوريين لأجسادهم على أولئك الذين نزحوا داخليا خلال الحرب في سوريا، بل امتدت ايضا للذين خرجوا من البلاد واستقرت بهم الأحوال في مخيمات اللاجئين بالدول المجاورة، سيما في تركيا ولبنان.
منذ شهر تقريبا نشرت صحيفة “ذه تايمز البريطانية” تقريرا لها كشفت فيه عن أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في لبنان قاموا ببيع أعضاء من أجسادهم ببضعة آلاف من الدولارات نظرا لحالة الفقر المدقع التي يعيشونها والأوضاع الاقتصادية الصعبة وقلة فرص العمل.
تحقيق استقصائي لفريق من “القناة الأولى للتلفزيون الألماني” (ARD) بين أن هناك تجارة غير قانونية بالأعضاء البشرية تروج في تركيا وأن “المتبرعين” هم من اللاجئين السوريين بشكل أساسي. كما كشف التحقيق عن أن عرض الأعضاء للبيع يتم عن طريق شبكة الانترنت والفيسبوك.
فيما أشارت تقارير صحافية عدة إلى لجوء الكثير من السوريين لبيع أعضائهم عبر مجموعة سرية على فيسبوك استحدثت لهذا الشأن، وحملت اسم: “إعلانات بيع الأعضاء البشرية”، قبل أن يقفلها القائمون عليها بعدما كان آخر منشوراتها أن العرض قد فاق الطلب.
قبل عقد من الزمن، كانت حالة الاستهجان والاستنكار كبيرة لدى السوريين عند سماعهم بأن أحداً عرض ممتلكاته أو أحد أجزاء جسده للبيع, تغيرت الأحوال كثيراً في البلاد، وبات الفعل الممنوع في هذه الأيام يُشاع علناً بلا رقيب أو أدنى مسؤولية، لم يعد أحد ينتظر القادم المشرق بل يكفيهم أن يضمنوا قوت عيشهم ليوم وآخر، أما الوعود الكبيرة بالاستثمار وإعادة البناء فلها تجارها ومختصوها وهي بعيدة عن الشريحة العظمى في البلاد، الفقراء والمساكين.
بواسطة سلوى زكزك | نوفمبر 20, 2021 | العربية, مقالات
هل يمكن اختزال الحرب بصورة واحدة؟ تزدحم الحرب على رقع الشطرنج المعلقة على جدران صالة المعارض. تسلسل يبدو منطقيا من حيث العدد. عصفور واحد ميت على رقعة من الشطرنج، يتزايد عدد العصافير الميتة على الرقع المتتالية.
رقعة أخرى لكنها تزدحم بصور أخرى، صور لأحذية ميتة، هل تموت الأحذية؟ هل يموت الرصاص؟ هل تموت علب السجائر الورقية بعد نفاذ السجائر منها؟
يزدحم الموت، لا شيء سواه. هدأت المعارك في الخارج، والرصاص غادر السماء واستقر في الصور. الموتى تناسوا رائحة المكان واستنشقوا رائحة التراب الجديد، تراب أم رمل يتحرك تحت الأجساد فترتعش، وتصرخ من أحشاء الصور.
صارت الأحذية إشارات استفهام. من هم أصحابها؟ أين هم؟ هل ماتوا؟ متى وكيف ماتوا؟ والسؤال غير القابل للإجابة، لماذا ماتوا؟
في صالة جورج كامل في دمشق، تم افتتاح معرض الفنان التشكيلي نصوح زغلولة الفنان الدمشقي الحائز على شهادة دبلوم الدولة من “المدرسة الوطنية العليا للزخرفة”، قسم الاتصالات الضوئية من جامعة باريس، لكن الفنان زغلولة يعرف عن نفسه بصورة مختلفة وغاية في بساطتها: أنا هاو شبه محترف، مهووس بالتصوير لأحقق متعتي الخاصة ويصمت مستنكفا عن إعلان موقفه من بلاغة الصورة الفوتوغرافية ومهمتها وأهميتها.
سطح منزل
على سطح بيته في حي الدويلعة الشعبي، يمارس الفنان زغلولة هوسه بتربية العصافير. الحي الواقع بين آخر حدود مدينة دمشق وبداية غوطتها التي تحولت إلى كتل اسمنية. وما بين باب توما مرورا بالباب الشرقي لدمشق، بيوت كونت أحياء يسكنها ما يزيد عن مليون نسمة، كان اسمها ومازال على دفاتر المساحة العقارية: بساتين الشاغور.
وصل عدد العصافير على سطح الفنان زغلول إلى ثلاثمائة عصفور. لم يتبقَ منها ولا عصفور! لم يبعهم ولم يقدمهم هدية لأحد! ماتت العصافير كلها.
طالما اقتنص الفنان زغلولة صورا فاقعة في بؤسها وخصوصيتها من على ذات السطح الذي تحول مع الأيام إلى صالة عرض أولية، إلى مصدر لغالبية الصور الفريدة والموجعة في آن معا. أطفال يحولون سطح خزان المياه المعدني لسبورة يكتبون عليها المعادلات الرياضية. بنات يلعبن بـ “المطاطة” الموصولة ما بين خزانين مربوطة بالوصلات المعدنية لأنابيب المياه.
صور التلصص على الشارع وبيوت الجيران لأنها الفرجة الوحيدة في زحمة الإسمنت المبني عشوائيا وبطريقة منفرة. تتداخل الأسطح ببعضها. تتنافر الصور لشدة صعوبة الحصول على صورة منفصلة لجزء محدد، على حروف اسطح البيوت وسطوح الخزانات. تحتشد أواني مربى المشمش ومعجون البندورة، وكأنها خط الأمان للأسر التي اعتادت المونة خوفا من القلة والجوع. تصير المونة جزءا أليفا من الأسرة، وتقضي النسوة معظم أوقاتهن في تحريك المحتويات، في التعرف إلى الضيوف الجد في خزائن مطابخ مازالت تعاني شح المياه وانقطاع الكهرباء وازدحام المخزونات من عبوات بلاستيكية بدافع الحاجة الماسة.
صفعة الموت
في معرض الفنان زغلولة، ألف ومائة واثنان وخمسون صورة. لا يفاجئك العدد رغم الحجم المصغر للصور، لكن الموت، يصفعك منذ أولى الصور. صور العصافير الموتى غير مكررة. ثلاثمائة عصفور ماتوا من شدة الخوف بعد القصف. ماتوا بتوقف قلب من شدة الضغط الذي تولده القذائف، في حي اعتاد أهله سقوطها يوميا وبأعداد كبيرة وبضحايا أكثر عددا. وبعد هذا الموت، الحربي، في زمن أعلنوا فيه أن زمن الرصاص قد توقف، جاء موت آخر ليكمل مسيرة الموت، مرض غامض قضى على كل ما تبقى من العصافير.
وفي رده على سؤال كيف جمع هذه العصافير في حالاتها المتعددة، صورة لعصفور كامل، صورة لريشة طائر، صورة لرأس عصفور، لساق وحيدة؟ يقول: “كنت اجمع جثامين العصافير بعد موتها، حسب حالتها الراهنة على سطح بيته أو في أقفاصها”. يضيف: “أنا لا أتدخل، لكني قمت بحفظهم في علب كرتونية لمدة ثلاثة سنين”.
يطرح سؤال العاطفة نفسه هنا، يكرر والأسى الذي يحاول إخفاؤه ينتقل إلينا، “نعم: لقد تحولوا إلى مجرد هياكل عظمية”. وماذا عن قلبك؟ كيف حاله وأنت تجمع طيورك موتى؟ يجيب الفنان: “الموت حالة عامة، المهم كشف الصورة الحقيقية للحرب”.
الموت مؤلم، والفن عمل شاق في زحمة الموت، والفنان يقرر تحضير معرض عن الموت؟ أي قسوة؟ وأية مشاعر تعرش على قلبك وانت تواصل التعرف إلى الموت الذي لا يموت، يتشخص حيا أمامك.
رقعة شطرنج
على قاعدة رقعة الشطرنج، رمل يغطي المربعات. رمل ينتمي للبحر الذي ابتلع آلاف السوريين، بحر كان ومازال أحد الجناة المشاركين في مقتلة السوريين. ابتلع بعضهم ولفظهم نحو الرمال، وهنا أيضا وعلى جدران المعرض عصافير ميتة على رمل بحري نهم ومتوحش، يبتلع العصافير وأحذية الأطفال وأجسادهم، وعلب السجائر التي تكاد أن تكون الأنفاس الحرة الوحيدة التي ينفخها السوريون باختيارهم، علب مرمية وملوثة بالدم، مسحوقة، مجعلكة، تبقّى في أحدها سيجارة لسوري لم يسعفه وقته لينجو ويدخنها، تخيلوا عقب سيجارة ملتصق بإصبع رجل مات وهو يدخن!
يقول: “بدأت بجمع أحذية الأطفال من سوق الحرامية، اشتريت أو ل دفعة بمائتي ليرة للحذاء الواحد، بعدها رفع الباعة سعر الأحذية، باتت سلعة رائجة، أحذية لأطفال مجهولين، هل ماتوا؟ هل هاجروا؟ هل سرق أحد أحذيتهم؟ كل الإجابات غير مهمة، لأن كل الخطوات تشد سيرها على أرضية من رمل وسماء ملوثة بالدم. ولتأكيد الموت نثر الفنان لون الدم على لوحاته بطريقة غرافيكية اختصاصية”.
أحضر الفنان رملا بحريا حقيقيا ليستكمل تصميم صوره، واستخدم ورق القطن النقي والموصوف بالنبيل. مصدر الورق من اليابان، يبقى مكتملا ومحافظا على قوامه ولونه وجماله لمئة عام, الطباعة مكلفة جدا لأنها ذات مستوى حرفي وفني عال ومكتمل، الإطارات صنعها الفنان بنفسه ودهنها بتقنية عالية، يقول: “أنا أحب النجارة، ويعتبر أن إنجاز العمل المتكامل يخلق متعة خاصة ويمنح شعورا بالرضا”.
قساوة الصور
عبر غالبية زوار المعرض عن قساوة الصور. بعضهم زار المعرض أكثر من مرة، وأحد الفنانين الكبار عانق الفنان صاحب المعرض وبكى بشدة. موضوع الصور قاس وعنيف، وتصميمها أنيق وملفت وجميل. “كيف يترافق كل هذا الجمال بكل هذا الموت؟”، إنه ليس سؤالا. الجواب: “هل ثمة مانع فني من تقديم صور الموت بفنية عالية؟ إنه سؤال جدلي مشبع بالرهبة ومدعوم بالإحساس والتقنية”.
توقفت إحدى الزائرات أما صورة عصفور بدا وكأنه عصفورة فتية ترتدي ريشها كفستان أصفر زاه ومنعش. بدا الفستان قصيرا ووجهة قدمي العصفورة تبدوان وكأنهما تتجهان لموعد حب. برزت الصورة الموجعة في قلب الزائرة. العصفورة تشبه الموتى من الشباب والشابات حين نلبسهم بدلات الزفاف في توابيتهم. سألت الفنان عن توافقه مع رؤيتها، ارتعش وقال: “لم أفكر بذلك، لكن ما يحضر على الصورة الآن هو الحالة الفعلية والجسدية للعصفور الميت”. هنا المشكلة إذن، من يعيش الموت كتجربة يومية ومجانية يشغل خياله في تجميل الراحلين ليقول “كم أن الموت غاشم ومتوحش”. يبالغ في تضخيم عبثية الموت، وكأنما يعاتبه قائلا: “ألم تجد غير حياة العرسان لتقصفها أيها الموت الوغد”.
رضا بعد تردد
عبر الفنان زغلولة عن رضاه عن المعرض مع أنه كان مترددا في البدلية, يرى أن التصوير ليس مجرد لوحة، بل تكوين، ويضيف: “بأننا نعيش في العصر الرقمي والتقنيات هي المستقبل، لذلك من الطبيعي استخدام أحدث التقنيات وبنفس الوقت التركيز على تفاعل المتلقي والمتابع، وانتزاع إعجاب أو دمعة، أو شهقة”.
يسعى زغلولة لتشكيل موسوعة فوتوغرافية تؤسس لبصيرة فوتوغرافية حسب قوله، ويعتبر أن كل معرض هو “مسؤولية كبيرة وعمل شاق وصعب”، ويختم قائلا: “لا مزح مع العين، بمعنى أننا لا نستطيع خداع العيون أو الاستخفاف بها”.
في مواجهتنا المباشرة مع صور الموت، تدور حرب جديدة، طازجة وحية، تحترب الصور وينفعل المتفرج. يخاف من علامة طلقة على جسد، يبتعد وكأنما الطلقة موجهة نحوه. تشتعل حرب الصور، رغم أنها ثابتة في أمكنتها على الجدران. يهتز الرمل وينحسر البحر وتشخر قذيفة، تفوح رائحة نسيس سيجارة أطفئت لتوها ورغما عنها، يتعثر طفل مصاب أو تائه بحذاء مشترى من سوق الحرامية لضيق ذات اليد، لكننا نعجز عن وصف صورة مليئة بالموت بالجميلة، الحرب حاضرة وحرب الصور لغتنا البليغة.
دمشق
18 تشرين الثاني 2021