سوريا… دون عقول

سوريا… دون عقول

يتدفق الاستنزاف السوري للكفاءات والعقول، مع تزايد الطلب للهجرة، حيث باتت البلاد شبه فارغة من طاقاتها التي من الممكن أن يعوَّل عليها مستقبلاً للتعافي من آثار الحرب، في ظل تعامٍ حكومي مريب عن أهمية هذه الموارد البشرية والفكرية؛ بل بالعكس من ذلك، تنتهج الحكومة سياسة “التطفيش” مع عجزها عن تأمين الخدمات الأساسية والوظائف والدخول الكافية، ورعيها لعملية فساد منظم في كل قطاعات البلاد، في ظل أزمتها الاقتصادية الخانقة، خاصة مع الاستنقاع السياسي الحاصل، وغياب الأفق بأي تغيير أفضل في بلاد تحكمها احتلالات متعددة وتداعيات أمنية ومالية وعصاباتية كثيرة، كانت كفيلة بانهيار الأحوال المعيشية للسوريين بشكل دراماتيكي، لتصل نسبة الفقر الى 90%، وليعاني 60% من السوريين من انعدام الأمن الغذائي وفقا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول تمديد آليات المساعدات الإنسانية العام الماضي، “وحتى هذه اعتادوا أن يصلهم منها الجزء الشحيح والردي بعد دخولها في دوائر الفساد”.
حاملو الشهادات هم أكثر من يفكر بالهجرة، فهم يقارنون أنفسهم بمن هاجر منذ بداية الحرب، أو في الموجة الثانية للهجرة 2015، نادمين على تمسكهم ببلدهم، وقد تحولت حياتهم فيه إلى غربة، واغتراب عن أعمالهم. يقول حسام، وهو مهندس مدني، “بمرور الوقت تحولت إلى كائن غرائزي، همه كيفية تأمين الأكل والشرب في دوامة لا تنتهي على مدار ساعات اليوم، وصرت مجرد رقمٍ في طابور الخبز والمحروقات والسكر والرز والصرافات، وممزقا بين عملي الوظيفي صباحاً وعملي كمحاسب في مطعم مساء لتأمين قوت عائلتي… كيف تدرس ابنتي الجامعية بالبرد والعتم، وماذا ينتظر أولادي بعد تخرجهم؟ فقط أنتظر سعراً معقولاً لمنزلي يكفي تكلفة السفر”.

اكثر تضررا
قطاعا الصحة والتعليم هما الأكثر تأثراً بهجرة الكوادر العلمية؛ فتدني الأجور هو أحد الأسباب التي تدفع الأطباء إلى الهجرة، بحثاً عن مستوى معيشي أفضل يتناسب مع مؤهلاتهم. ووجهتهم الخليج أو أربيل أو الصومال أو الدول الأوربية؛ فالأطباء السوريون في ألمانيا مثلاً، من غير الحاملين للجنسية الألمانية، يزيدون على 5200 طبيبة وطبيب، وهو أكبر عدد بين الأطباء الأجانب، وفقا لإحصائية أجرتها نقابة الأطباء الألمانية عام 2021 .
الكارثة الأكبر على الصعيد الطبي هي النقص الحاد في أطباء التخدير، وقد دقت رئيسة رابطة التخدير في نقابة الأطباء، زبيدة شموط، في تصريح لجريدة “الوطن” أواخر 2021، ناقوس الخطر، حول الاستنزاف الكبير في أعداد أطباء التخدير، فعددهم بات 500 طبيب تخدير، بينما تحتاج البلاد إلى أكثر من 1500. والمتواجدون هم في سن 55الى 65، ولا يوجد سوى ثلاثة أطباء تحت سن الثلاثين. يتم التعويض عن هذا النقص بممرضين، بينما وجود طبيب التخدير أساسي في أي عمل جراحي، ما يزيد الخطورة على حياة المرضى.
70 بالمئة من خريجي طب الأسنان الجدد يهاجرون، حسب تصريح لنقيب أطباء الأسنان في اللاذقية، طارق عبد الله، إلى صحيفة البعث مؤخراً. يقول جورج، وهو طبيب أسنان، “إن الحكومة تفرض الضرائب العالية على مستلزمات المهنة، في ظل تدهور الوضع المعيشي، وصعوبة العمل مع انقطاع الكهرباء وغلاء كلفة البدائل… إنها ترى عملنا مجرد مهنة تجارية، وليس حاجة إنسانية”.
قبل الحرب والأزمة السورية، وعلى مدى عقود، كانت جامعاتنا تعاني من غياب منظومة البحث العلمي والابتكار، وتدني نسبة الإنفاق على التعليم العالي، وعدم تناسب المستوى العلمي والمعرفي للكفاءات مع مستوى التطور التقني والاقتصادي، و تدني الدخل، وتوغل البيروقراطية والمحسوبيات، مما شكل دافعاً لهجرة الكثير من الكفاءات في السابق. وهذا ازداد سوءاً خلال الأزمة السورية، وانعكس على نوعية التعليم بشكل عام. فقد أعلن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في عام 2016، خروج سورية من مؤشر جودة التعليم، لعدم التزامها بمعايير الجودة في التعليم، حسب مركز دمشق للدراسات والأبحاث “مداد”.

أسباب نفسية
خسر التعليم العالي حوالي 20 في المئة من أعضاء الهيئة التدريسية في مختلف الجامعات بسبب الهجرة، بحسب تصريحات وزير التعليم العالي السابق، عاطف النداف، عام 2017، وقد عزا هذه الظاهرة إلى “أسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية مرتبطة بالظروف الراهنة،” خاصة مع انخفاض الأجور. ووفقاً لأستاذ بجامعة البعث “إذا رغب الأستاذ بشراء مرجع أجنبي لتطوير معارفه فهو يحتاج مبلغاً يعادل راتبه الشهري إضافة إلى القيود البيروقراطية في منح الموافقات وتدني أجور التأليف، هذا اذا لم نتكلم عن أجورنا الشهرية”.
استبدل طلاب الجامعات أحاديثهم عن التنافس والتحصيل العلمي على مقاعد الدراسة، بأحاديث عن الطرق المتاحة للهجرة، في ظل التراجع في جدوى التحصيل العلمي؛ يحلم أحمد، وهو طالب علوم، بالهجرة: “لا أريد أن أمشي على خطا والدي الجامعيين في حساب وتقنين ما تبقى من رواتبهما الشحيحة، منذ الأيام الأولى من الشهر. بينما يقول علاء، خريج معلوماتية في الثلاثين من عمره، “تسرب مستقبلي من بين يدي بعد سنوات الاحتفاظ بالخدمة الإلزامية؛ أنا الآن عامل في مطبعة خاصة، نسيت مصطلحات البرمجة التي كانت فيما مضى تضيف هالة على حضوري، بت أخجل من نفسي ولا بد من الرحيل”.
يعاني كثير من السوريين من مشكلة تأمين تكاليف الهجرة؛ فبعد أن يئست سناء، خريجة الفنون الجميلة، من إيجاد فرصة عمل جيدة، اتبعت دورات مهنية في فن الوشم، وبدأت تعمل في هذا المجال الذي يدر عليها دخلاً يضاعف ما يجنيه والداها الجامعيان، تريد السفر إلى دبي، لتعمل في هذا المجال، وتجمع المال اللازم لإكمال دراستها في إحدى الجامعات الأوربية، حيث تجد احتراماً للفن.
تغيب الأرقام الرسمية لأعداد الشباب المهاجر، لتبقى الإحصاءات محصورة بتقارير المنظمات الدولية ودراسات مستقلة. أكدت دراسة صادرة عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)، بعنوان “هجرة الكفاءات والعقول السورية نزيف تنموي مستمر”، أن الموجة الكبيرة من الهجرة واللجوء إلى خارج سوريا منذ 2011، شملت لأول مرة شباباً وأطباء ومهندسين وعلماء وفنانين وأساتذة جامعات، وأكثر من 900 ألف سوري استقروا في ألمانيا حتى العام 2017، 40% منهم من أصحاب المؤهلات العلمية العالية، إضافة إلى أعداد أقل اتجهت إلى بقية البلدان الأوربية، والولايات المتحدة، وكندا.

خراب
وذكرت الدراسة أن التقديرات الصادرة عن النقابات المعنية تشير إلى هجرة نحو ثلث الأطباء وخمس الصيادلة (أي 33% و 20% على التوالي)، اما اساتذة الجامعات ومن مختلف الكليات فقد بلغ 1220 أستاذا ، ويقدر عدد المهندسين بـ 8521 مهندسا على تنوع تخصصاتهم، وحملة الإجازة الجامعية (المجاز) تجاوز 21480، وهناك أعداد كبيرة جدا من الوافدين السوريين الى الجامعات العالمية للحصول على درجات الماحستير والدكتوراه وتقول الإحصاءات ان 70% منهم لن يعودوا الى سوريا.
كما استطلعت دراسة لمعهد بحوث العمالة (IAB)، والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF)، والمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW برلين) الكفاءة العلمية للاجئين السوريين الذين تقدموا بطلبات للحصول على اللجوء في ألمانيا ما بين 2013-2016، وخلصت إلى أن 40% حاصلون على الشهادة الثانوية فما فوق، و22% حاصلون على الشهادة المتوسطة.
ليست الحرب وما تبعها من خراب هي الدافع الوحيد لهجرة العقول السورية، أورد الباحث السوري، محمد جمال باروت، أن سوريا تصنف من البلدان الطاردة للكفاءات العلمية، وتحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية حسب مؤشر هجرة الأدمغة المعتمد ضمن منهجية قياس المعرفة للبنك الدولي بنسبة 2.3% للمؤشر المتدرج من 1 حتى 7 حسب التقرير العربي عن المعرفة لعام 2009. وقدرت دراسة لخبراء الهجرة والتنمية في الأمم المتحدة نسبة هجرة الكفاءات ومن هم في طور الكفاءات وفق مؤشر مستوى التعليم بأكثر من ثلاثة أخماس المهاجرين السوريين الى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لعام 2000
وحسب مصادر الجمعية الطبية العربية الأميركية، إن عدد الأطباء السوريين في الولايات المتحدة الامريكية يفوق 6000 طبيبا من أصل 15 الف طبيب عربي، و 18 ألف طبيب مقيم في ألمانيا من أصل عدد الجالية السورية المقدرة ب 59 ألفا عام 2008. ولا تشمل الاحصائيات السابقة الكفاءات العلمية التي هاجرت إلى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث كانت تحدث هجرات نوعية للنخب العلمية بعضها لبضع سنوات.
لن تتوقف هجرات العقول السورية، ليضاف “طابور” الانتظار على أبواب دوائر الهجرة والجوازات إلى “طوابير” اعتادوها مكرهين عله يكون الطابور الأخير قبل الخلاص. لكن، رغم الأمان الذي يتحدث عنه اللاجئون و “العيش الكريم” خاصة في الدول الأوروبية، فإن اختلاف الثقافة واللغة والنظام بين البلدين، إضافة إلى جائحة كورونا، أثرت على اندماج اللاجئين في المجتمع و سوق العمل، ما يعني ضياع سنوات من حياتهم دون العمل في اختصاصاتهم، لضرورة تعديل مستوى التعليم. يضاف إلى ذلك فترة زمنية ليست بالقصيرة للتدريب على العمل، مع تأخر سوريا في هذا المجال، وهذا يضيف صعوبات أخرى وخاصة للاجئين من الفئات العمرية الكبيرة.
تحاول الحكومة الاستثمار في ملف اللاجئين، بعقد “مؤتمرات لعودة اللاجئين ” بدعم وتنظيم روسي، لترسيخ قناعة أن “سوريا آمنة”، الأمر الذي تنتج عنه مكاسب سياسية، للشروع بعملية إعادة الإعمار، في قطاعاته الريعية، واستغلال عقودها المربحة عبر شبكاته وأذرعه الاقتصادية داخل وخارج سوريا، متجاهلة أهمية الكوادر البشرية المدرّية والكفؤة، في ظل تعاميها عن موجات الهجرة التي حدثت وستحدث، والتي ربّما تحول سورية إلى دولة كهلة سكانياً. وبالتالي مواجهة نقص الكفاءات والإفادة منها عن طريق استيراد الكفاءات الغربية بتكلفة كبيرة؛ في دراسة للباحث الاقتصادي الدكتور عمار يوسف، أكد أن هجرة الكوادر تعدّ الخسارة الأكبر، لكونها شكلت نزفاً مركباً للاقتصاد الوطني يصعب تعويضه قريباً، إضافة إلى الوقت والمبالغ الهائلة التي تحتاج إليها لإعادة تأهيل كوادر جديدة. وتقدر الدراسة تلك الخسائر لنهاية 2016، بـ40 مليار دولار.

اللاجئ
صرح مسؤول هولندي مؤخرا ان “اللاجئ السوري أفضل استثمار حصلنا عليه خلال هذه المرحلة “؛ فحوالي ٢٥٠٠ طالب سوري في الجامعات الهولندية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من عدد أبناء الجالية، والذي يقارب المئة ألف، ونصف الجالية هم تحت الثامنة عشرة. أما الطلاب الذين سجلوا في المعاهد التطبيقية فيكاد يصل إلى ضعف هدا العدد. وقد دخل مجال العمل الأكاديمي نحو أربعين شخصا ما بين باحث وأستاذ جامعي وطالب ماجستير، وأطباء الأسنان بدؤوا بفتح عياداتهم، وأكثر من ١٠ بدؤوا العمل من بين ٧٠ طبيبا…وحصل عدد من الأطباء على فرص عمل في أهم المشافي، أو هم في طور التعديل، وكذلك عدد من الصحفيين.
فيما تسعى بلدان و مجتمعات إلى التسابق في حيازة المعرفة وتوظيفها، وصولاً إلى القيمة المضافة العالية الناتجة عن الاستثمار في الذكاء الإنساني ومناجم العقول، بوصفهما ثروة لا تنضب، وأن يكون الإنسان وسيلة للتنمية وغاية لها في آنٍ معاً؛ فإن الحكومة السوريّة تسابق الزمن في هدر الطاقات الإنسانية وشل عقولها، ليصبح حال السوريين في الداخل أشبه بتعليق للكاتب السوري محمد الماغوط على المجموعة القصصية “النمور في اليوم العاشر” لزكريا تامر: “كنا ندرس يا أولادي من قبل، كيف يتطور المخلوق البشري في مناطق كثيرة من قرد إلى إنسان. والآن سندرس كيف يتطور المخلوق البشري في هذه المنطقة من إنسان إلى قرد. وأهله وحكامه يتفرجون عليه من النافذة وهم يضحكون”.

الحرب السورية تُفاقم “تلطيش” النساء…ومعاناتهن

الحرب السورية تُفاقم “تلطيش” النساء…ومعاناتهن

تداول ناشطون على صفحاتهم “الزرقاء” عبارات و”تلطيشات” تطلقها نساء سوريات تعكس الحالة التي بتن عليها بسبب ظروف الحرب، والضائقة الاقتصادية والخدمة العسكرية الطويلة الخاصة بالشباب، وعدم قدرة الجميع على تأمين متطلبات الحياة الأساسية، فكيف بالشباب المقبلين على الزواج، رغم قلة أعدادهم، بسبب الحرب والهجرة.
قد تكون “مؤسسة الزواج” الأكثر تضرراً من الحرب، وتأثرها بها هو الأكثر وضوحاً وقابلية للقياس> كتب كثيراً عن موضوع الحرب، وتداعياتها وضحاياها، لكن ثمة ضحايا، أو “مشوهي حرب” ليس بالمعنى الدقيق للكلمة، بل شرائح واسعة من الشباب، دخلت الخدمة العسكرية بعمر 20 عاماً وخرج المحظوظ منها في عمر 30 عاما، وهو خالي الوفاض، يريد السفر أو الهرب خارج الحدود خشية “طلب الاحتياط” مجدداً للجيش. ليس هذا فحسب، فإن بقي، فهو بالكاد يستطيع أن يتدبر أمور حياته، لذلك لا يقوى على مجرد التفكير بالزواج، هذا الأمر أوجد شرائح واسعة من الإناث العوانس وأطلق المجال لـ”تطليشات” من وحي هذا الواقع الصعب.

في كل جملة من “التلطيشات” أو التلميحات ثمة محاكاة لواقع صعب بلسان النساء السوريات، ومعظمها يدور حول الخدمة العسكرية:
• “تقبر قلبي ع الحكيات شو ظراف، عم تخدم إلزامي ولا احتفاظ”.
• “تقدملي وبعملك عرض خاص، بيت وسيارة ولعيونك مشط رصاص”.
• “ماشي ومعو تأجيلو. لك دخيلو ودخيل عشرة من جيلو”.
• “ريتو ما يبلى دفتر التجنيد، طمني تأجيلك دراسي ولا وحيد؟”
الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تمر بها سوريا بسبب الحرب ساهمت في ارتفاع نسب الإناث، فأعداد الشباب قليلة مقارنة بالإناث وفي هذا المجال تقول “التلطيشات”:
• “لك تقدملي ودق هالباب، ما كان بدي لطشك، بس ولله ماضل شباب”.
• “إن شاء الله يؤبرني المأجل والمعفى والوحيد، في مجال تجي عند الوالد وتحط الخاتم بهالأيد”؟.
وتقول إيمان (36 عاماً)، وهي من سكان ضواحي دمشق: “توفي خطيبي في معارك ريف دمشق، بقيت وحيدة، وأنا بسن لا يحتمل مزيداً من الانتظار، كان الأمر في غاية الصعوبة”. تتابع: “لذلك قرّرت الزواج من ابن عمي وأسكن مع زوجته وأطفاله في المنزل ذاته، وفي هذا السياق نجد “تلطيشة” تحاكي هذا الواقع.. “دخيل الخمسيني يلي عامل غرّة.. في مجال تنزّلني على ضرّة”؟
ولـ”التفييش” من الخدمة -وهو مصطلح متداول في سوريا، ويعني أن يقوم العسكري بدفع مبلغ من المال لأحدهم، لقاء البقاء في منزله أو عمله- حصة من التعليقات “تقبر عضامي مريش، بخدمتك ولا مفيش”.
وأيضاً لموضوع الاستبعاد من الدعم الحكومي نصيب من التعليقات المزعجة: “يسلملي المهضوم مستبعد ولا مدعوم”.

قد يبتسم أحدنا للوهلة الأولى إذا ما سمع واحدة من هذه العبارات، لكن هذه الابتسامة سرعان ما تختفي ليظهر محلها وجوم، من هول صدمة هذه العبارات وما تخفيه من وجع نساء يصفن حظهن بالعاثر.
يقول “س. م” وهو أحد الشبان الذين بلغوا سن الزواج ولم يتزوج: “لا أفكر حالياً بالزواج، لأن الأمر لا يقف عند حدّ المال فحسب، فأنا عسكري ولا أعرف متى أتسرح من الجيش، وقد أموت غداً فأترك خلفي عائلة مشردة، فأنا في غنى عن هذا الموضوع في الوقت الراهن”.
من جهتها، تقول الاختصاصية بعلم النفس الاجتماعي “سميرة.ن”: “لقد باتت المرأة اليوم تقبل بأي زوج يكفيها مالياً ويشعرها بالحماية، في السابق كانت لا تقبل به”. وتضيف: “هذا يعبر على خلل اجتماعي يحيط بالسوريين، ومعظم حالات الزواج جاءت وليدة للأزمة”، مشيرة إلى أن الأحداث الدامية “فتحت الأبواب أمام زواج القُصّر، إضافة إلى حالات الزواج بزوجة ثانية، ناهيك عن زواج المصلحة الذي لاقى رواجاً خلال الأحداث الأخيرة وكان هدفه السفر إلى إحدى الدول الأوروبية”.

باختصار إن كل ما قيل عن هذا الوجع قد يبدو صغيراً، أو لا يوصِّف الحالة على حقيقتها. فالكثير من الغصة والألم لما تحمله هذه المفردات من مآس وأحزان باتت هي المسيطر على المشهد العام السوري. وبين الألم والحسرة، يبقى السؤال الأهم: هل من مخرج لهذا الوضع الذي طال واستطال؟ مها ابنة الثلاثين ربيعاً تختصر الحكاية السورية بقولها: “أتطلع إلى حياة بسيطة مستقرة مثل سائر البشر في هذه المعمورة، وهو أمر حرمنا منه منذ عام 2011. وتعبر مها عن ذلك بالقول: “أتمنى أن أعيش بسلام واستقرار”. وتضيف: “الظروف السيئة والخوف أصبحت تسطير على كل تفصيلات حياتنا، الأمر الذي يمنعني أولاً من متابعة دراستي بشكل سليم أو حتى التخطيط للأيام القادمة”. وتتساءل بسخرية: “هل أضمن حياتي ليوم غد في هذا الوضع حتى أخطط وأحلم بالزواج؟”.
أمام كل هذا فليس من المستغرب أن نسمع عن حالات انتحار لفتيات لم يبلغن عقدهنَّ الثاني، أو نسمع عن رمي أطفال بعمر أيام في الحاويات أو أمام البيوت أو الجوامع، وهي حالات مستهجنة ولم تكن لتحصل في سوريا قبل الحرب، لكن الأوضاع المأساوية التي باتت عليها غالبية الأسر أكثر من 95 تحت خط الفقر وهي نسبة متفائلة، فالواقع أقسى وأشد مضاضة، والمرأة تدفع الثمن غالياً وخاصة حين تقع بين فكي الفقر، والحاجة إلى زوج.

ملاحظة: الصور للشرح، ولاعلاقة لها بالنص ابدا. مجرد، صورة مرئية، لاتمس شخصيات الموجودين.

سوريا “المخدرة” دون أطباء تخدير

سوريا “المخدرة” دون أطباء تخدير

كثيرةٌ هي المرات التي يحتار فيها الصحافي/ة: كيف ستكون بداية مادته/ها؟ هل يبدأ/ تبدأ بقصةٍ إنسانية لبطل/ة في تلك المادة يكون النجاح، الخوف، الفشل، اللاجدوى عنواناً لحبكة صحافية؟ أم سيواجه الجمهور برقم صادم عن قضية فساد، هجرة، خسارة، أو رقم صدرته قضية حرب؟
أسئلة تفرض نفسها عند التفكير بقضية آلام أطباء التخدير في سوريا، أو الأصح حول قضية الهروب من اختصاص التخدير في سوريا وهجرة من اختص فيه عن سابق إصرارٍ وتصميم.
15 طالب طب اختصاص تخدير فقط في جامعة دمشق هذا العام. انخفض العدد 35 طبيباً خلال عام، ومن سجل هذا الاختصاص ينتظر فرج بطاقة طيران خارج الحدود، بين سطور هذا التقرير آلام لأطباء يُخدرون آلام الجروح.

صرخة
في العام 2017، أطلق الدكتور فواز هلال المسؤول العلمي لـ “رابطة أطباء التخدير وتسكين الآلم” صرخة، عبر الإعلام الرسمي والخاص وصفحته على السوشال ميديا، يُحذر من يومٍ “ستتجمد فيه المشافي” اذا استمر وضع التعامل مع أطباء التخدير بطريقة عدم التقدير المادي والمعنوي، في القطاعين العام والخاص.
وفي بدايات 2022، تحديداً يوم 9 كانون الثاني، أوقف “مشفى التوليد الجامعي” قبولات المرضى والإسعاف لعدم وجود كادر من أطباء التخدير، في وقت كان ولا يزال “مشفى الزهراوي” بمدينة حلب يعمل بطبيب تخدير واحد فقط بمساعدة فنين. وفي ذات السياق، تحدثت الدكتورة زبيدة شموط أن “رابطة أطباء التخدير” أجرت دراسات متتالية حول عدد وواقع أطباء التخدير في سوريا في اعوام 2000 و2016 و2020، منوهةً أن الوضع اليوم “أسوء بكثير من عام 2020، حيث يفقد هذا القطاع الأطباء الشباب من تتراوح أعمارهم تحت 30 عاماً، وفي كل سوريا 4 أطباء فقط من هم تحت سن الثلاثين عاماً”.
بعد الصرخة الأولى، أعطت الحكومة السورية مكافأة شهرية لأطباء التخدير 100 ألف ليرة سورية، يومَ كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار لا يصل إلى 1500 ليرة سورية، خُصم منها 18% ضريبة أيضاً، في الوقت الذي لا يجوز أن يخصم من المكافأة أي ليرة سورية، لم تنجح محاولات المعنين بمحاولة “تثبيت أطباء التخدير بأرض الوطن”.

صراع أطباء
بعد سنوات على محاولة الجهات المعنية في سوريا، “إنقاذ كوادر أطباء التخدير”، تحاول ذات الجهات محاولة إنعاش أخرى، بضخ زيادات على الرواتب والتعويضات الخاصة بأطباء وطبيبات التخدير، حيث كشفت دراسة سربها الإعلام السوري الخاص أن اللجنة الاقتصادية في رئاسة الحكومة رفعت توصية لتكون مكافأة كل طبيب تخدير 200 ألف ليرة سورية شهرياً أي مايعادل 56 دولارا اميركيا تقريباً حسب سعر الصرف الحالي في السوق السوداء، و 80 دولارا حسب سعر صرف المركزي، واشترطت أن تصل عدد أيام دوام طبيب/ة التخدير إلى 6 أيام أسبوعياً.
صب هذا التسريب الزيت على نار القضية، ولم يكن بعد ما تم تداوله نفعاً لـ “الملح على الجرح”، كما يقال باللهجة العامية السورية. يعقب الدكتور ” ع. م” الذي رفض ذكر اسمه كاملاً على القضية قائلاً: ” تحتاج قضيتنا صفحات في جرائد”. ويتحدث لـ “صالون سوريا” عن جوهر المشكلة المتمثل في العلاقة مع طبيب التخدير ضمن المشافي العامة والخاصة، موضحاً أن المشفى والجراح هما من يقرران أجور طبيب التخدير، الذي يبقى له الفتات من الأجور، بعد نقاشات طويلة من سيدفع الأجور له المشفى أم طبيب الجراحة، و”بالتالي يغيب الضامن للعلاقة بين طبيب التخدير والمشفى، وبين طبيب الجراحة وطبيب التخدير هذا على صعيد المشافي الخاصة، أما على صعيد المشافي التعامل مع التأمين الصحي في المشافي الخاصة، يدفع التأمين الصحي تسعيرة وزارة الصحة وهي لا بأس بها، لكن يدفعها للمشفى الذي يقتطع منها ما يريد”.
وفي أحد الردود على الحلول التي قدموها أطباء التخدير لوزارة الصحة، أن فني التخدير يمكنه القيام بمهام الطبيب، حسب قوله. لكن أي خلل في العمل الجراحي فان “الملام الأول هو طبيبة/ة التخدير”. سلسلة تناقضات يدخل بدوامتها كل من يدخل اختصاص تخدير قبل أن يسافر خارج البلاد.
وتتحدث الدكتورة “ش .ع” عن جملة مشاكلَ أخرى تبدأ بالأجور لطلاب الدراسات العليا التي تصل إلى 90 ألف ليرة سورية، وتقارنها بطلبة من حملة شهادات الطب العام في جامعات ألمانيا تصل لحوالى 2800 يورو. وطبيب التخدير هو الوحيد الذي أجوره قليلة مقارنة بباقي الاختصاصات وخصوصاً الجراح، وتضيف أن المشكلة أيضاً في قلة الأساتذة والمشرفين بسبب الأجور الزهيدة، حيث يصل أجر الطبيب المشرف بعد دوام 5 أيام في “مشفى المواساة الجامعي” إلى 180 ألف ليرة سورية، حيث لا يوجد أيضاً أي أجور على العمليات في المشافي الحكومية، وهذا يجعلهم/هن يتخلفون عن الحضور إلى المناوبات في المشافي الحكومية.
لم تكن الأجور وحدها هي ما تلخص عمل وهجرة أطباء وطبيبات التخدير، بل عدم وجود منظومة كاملة اسمها “تسكين الألم”، بحيث يصبح في مقدور الطالب عمل اختصاص لمدة سنتين أو ثلاث بعد الانتهاء من التخدير، إضافة إلى استغناء المشافي عن الطبيب بالفني وهذا استخفاف كبير بالطبيب على حد تعبيرها.

خارج الحدود!
حاول كثيرون من أطباء وطبيبات التخدير المطالبة بمساواتهم بزملائهم من ذات الاختصاص في دول الجوار على الأقل. كل هذه المطالب باءت بالفشل، فكان البقاء صعباً. تتفق الدكتورة “ش، ع” والدكتور “ع .م” أن كل من يدخل الاختصاص في عينيه السفر فقط، ليس بدافع التخلف عن الخدمة الإلزامية فحسب، بل بدافع وجود إغراءات مادية ومعنوية حقيقية. ويشرح ” م. ع” طبيب تخدير سافر إلى ألمانيا عام 2019، عن تجربته في المشافي الألمانية التي تبدأ بالأجور الشهرية، ومساواة طبيب التخدير من حيث القيمة المعنوية بأي طبيب آخر، حيث لا يمكن أن يحل أن فني تخدير مكان الطبيب في غرف العمليات، بينما يشير “م.ر” وهو طبيب تخدير سافر إلى العراق عام 2020، ويعمل في أحد المشافي الخاصة بالعاصمة بغداد، أن أجره بدأ بـ 2000 دولار، لو بقي في سوريا، كان يحتاج سنة ونصف ليجمع هذا المبلغ، ويتحدث عن عدم دخول أي طبيب إلى غرفة العمليات بدون طبيب تخدير، مع وجود فنين تخدير أيضاً، لكن الأدوية ومعايرتها ونوعيتها هي من اختصاص الطبيب فقط، ولا يشعر أي طبيب تخدير بأنه قلة قيمة طبية من غيره من الأطباء، وله نسبته وأجره الذي يختلف من مشفى إلى آخر ويتساوى مع اختصاصات أخرى.
في 2022 توقف “مشفى التوليد الجامعي” عن العمل بسبب عدم وجود طبيب تخدير، ماذا ينتظر البلاد بعد 5 سنوات إذاً؟ وفي سوريا التي تصدر أطباء إلى العالم منذ زمن وليس أثناء الحرب فقط، هل سيقف المرضى طوابير بانتظار طبيب تخدير؟ هل تنفع الإغراءات المادية التي لا تكفِ نصف شهر للعيش في بلد يعاني من الغلاء والتضخم؟

سوق الخجا… المحطة الأخيرة قبل الرحيل

سوق الخجا… المحطة الأخيرة قبل الرحيل

في “شارع الثورة” قلب دمشق، تكتظ الأرصفة بعشرات البسطات، وعند الشارع المؤدي بحاراته إلى منطقة ساروجة، هناك سوق ضمن سرداب مكشوف يطل على الشارع العام، ما إن تدخله، ترى للوهلة الأولى أنها نقطة النهاية: “مرحباً بك في سوق الخجا”، المحطة الأخيرة للسورين ما قبل السفر.
مع حلول فصل الشتاء لم يعد هذا السوق مخصصاً فقط لبيع الحقائب المدرسية، مع أنه الوحيد المتخصص ببيع منتجات الجلود وتنشط فيه حركة البيع والشراء بشكل كبير. شيّد في عام 1985 كبديل لسوق الخجا القديم الشهير الذي كان بجانب سوق الحميدية ويلاصق قلعة دمشق الذي هُدم في سبيل إحياء مشروع السور الغربي للقلعة وترميمها وإظهار معالمها.
وعلى مد النظر، تجد أنواعاً مختلفة من الحقائب الملونة. وحقائب السفر باتت تطغى على الحقائب المدرسية. يتجول شباب بمختلف الأعمار، وشابات برفقة أمهاتهن، بحثاً عن واحدةً تناسب السعر والسعة، وبعد المسافة.
يقف أحد الشبان يتفحص حقيبة متوسطة الحجم. ربما ناسبت نوع حمولته يحملها ويهزها بيده، يجر الشاب العشريني حقيبته البرتقالية خارج السوق بعدما تفاوض مع البائع لمدة نصف ساعة تقريباً. “باقي فحص “كورونا”، يقول لـ “صالون سوريا” مبتسماً. يقول محمد ( 27 عاما) بعدما حصل على حقيبته: ” شعوري متخبط. الآن سأترك بلدي، لكني مضطر، الوضع الاقتصادي صعب وأنا شاب أريد بناء مستقبلي، أفكر دائماً بأهلي أصدقائي أنا لا أعرف ما الذي ينتظرني في ألمانيا، هذه المرة ما قبل الأخيرة التي سأزور بها دمشق.
تختلف حقائب السفر في سوق الخجا، من حيث السعة والنوعية. البعض يختار حقيبة من نوع متوسط، كي تسع ثيابه الخاصة، وآخرون يختارون أكياساً قماشية مغلقة سعرها رخيص جداً لمجرد أن توصلهم إلى بر الأمان فقط. يقول شاب أخر يقف عند نهاية السوق بعدما اختار واحدة: “الفكرة ليست في حصولي على الحقيبة وإنما بالسفر، لا يوجد خيار مطروح حالياً للشباب إلا الخروج من هذا البلد”. يضيف لـ “صالون سوريا” سامر( 30 عاما) الذي ينوي السفر إلى أوروبا: “شعور الخوف من هذه التجربة هو سيد الموقف، ما الذي سينتظرني، سواء كان ذلك بداعي الهجرة أو الدراسة أو العمل لا يوجد هنا عمل يوفر قوت يومي أو ربما يكفيني كشاب أعزب لنهاية الشهر، كما أن الأحلام باتت معدومة، من تطور أو كسب أي نجاح على الصعيد المهني ما بالك المالي، أتمنى أن تسع هذه الحقيبة ذكرياتي وليس ثيابي فقط، ربما سأعود يوماً ما”.

“ليس هناك داع للحقيبة. الأهل في الخارج، قررت السفر أنا وعائلتي، أطفالي بعمر الخمس سنوات يكبرون في بلد مجهول”، يقول جورج، وهو من الحسكة ( 36 عاما) ، بعدما قرر المغادر مع أطفاله وعائلته، الشاب من بلدة تل تمر المنطقة التي تقطنها الأقلية السريانية الآشورية المسيحية في شمال شرقي سوريا بعدما هجّر مع عائلته إلى دمشق يصيف لـ “صالون سوريا” : “نحن أقلية وبلدتي دمرت بسبب الحرب لا يوجد فيها إلا عدد قليل من المسنين، الجميع جهز حقائب السفر، سابقاً كان السبب الحرب، واليوم الوضع الاقتصادي أحد الأسباب هذه الخطوة، ولكن لن يكفي أن يتوفر الطعام الأمر أكبر من لقمة عيش”.
الفكرة لم تعد مقتصرة على الشباب فقط، بل هناك عوائل قررت المغادرة، منهم “جورج” وعائلته، وشابات أيضاً لكن بدوافع مختلفة، دافع بارعة ( 27 عاما) التي تقف وسط السوق كان الزواج وبناء عائلة خارج هذه البلاد. لكن شعور الخوف كان مشتركاً مع الجميع. تقول لـ “صالون سوريا” : “خطوات قليلة مشيتها في سوق كله حقائب سفر بالمختصر هي حلول مع أنها فقدت مكانتها ودورها الأساسي بجمع أغراضنا وثيابنا، أصبحت الآن تجمع أحلامنا طموحاتنا”. وتضيف سارة: “تمنيت أن أشتري حقيبة بنفسجية أضع فيها كل خبراتي ومتاعبي وصعابي والعقبات يلي واجهتها ليساعدوني كي أصبح أقوى خارج البلد، ربما الآن اشتريت حقيبة “لجهاز عرسي”، لحياة جديدة لا أعلم ما هي”.

بعد جولة بين الحقائب توجهنا إلى “أبو تيسير”، أقدم بائع في السوق منذ 23 عاما. لا يكاد يجلس بضع دقائق إلا ويدخله “زبائن سفر”، يرفض أن يكون تاجراً على حساب حاجة الناس كما يقول. يتحدث لـ “صالون سوريا” عن الحجم المبيع في السوق يومياًن، قائلا: ” مبيعنا يعتمد على حقائب السفر تقريباً والقليل على الحقائب المدرسية أو الجلود العادية، الجميع يريد السفر، البعض ظروفه صعبة يريد حقيبة توصيل فقط وآخرون يطلبون حقائب بجودة عالية ولكنهم قليلون”.
“الشباب أكثر من الفتيات بكثير، هذه هي الحقيقة، الشباب يهاجر والفتيات يجدون العريس على الإنترنت. يقول “أبو تيسير” كاشفاً عن حجم مبيعات السوق، حيث بلغ عدد المبيعات من حقائب السفر يومياً حوالي خمسمئة حقيبة. ويضيف”: ازداد المبيع منذ سنة تقريباً حيث يتراوح سعر الحقيبة بين 80 ألف ليرة سورية 130 ألفا”.
يبيع هذه السوق يومياً بعشرات آلاف الدولارات. في المقابل يصعب التأكد من صحة التقارير الإخبارية، والأرقام، والإحصائيات الصادرة عن الجهات الرسمية الحكومية، في حين لا يوجد دراسة دقيقة تقدم أرقاماً حول الهجرة من سوريا والسفر يومياً.
ومؤخراً كثُر الحديث على مواقع التواصل الاجتماعي عن هجرة كبيرة للصناعيين، وأخرى عن ازدياد هجرة الحرفيين، وأصحاب الأيدي الماهرة والأطباء أيضاً، فضلاً عن صور الازدحام على فروع ادارة الهجرة والجوازات التابعة لوزارة الداخلية، لاستصدار جوازات سفر جديدة.

الموبايل حلم “دمشقي”…وسرقته كابوس

الموبايل حلم “دمشقي”…وسرقته كابوس

بين عشرات أنواع الأجهزة الخلوية، يقلب رجل ستيني عينيه بين واجهات المحال الكثيرة، في سوق الموبايلات الأشهر بدمشق، المسمى بـ”البرج”. يدخل في متاهة المعروضات الكثيرة قياساً بطلبه اليتيم، وهو “موبايل حديث ومجمرك وبسعر معقول”. وبعد ساعة من البحث الأولى، صرخ: “مستحيل”. متاهة بقي يدور فيها لأربع ساعات متتالية. أبو معن الذي يعيش هو وأسرته على راتبه التقاعدي يقول لـ “صالون سوريا” حيث بدت عليه آثار الإنهاك والدهشة والحسرة وصمت تجاعيد الوجه الذي زاده البحث هدوءاً: “وعدت ابني الي دخل كلية طب جبله أحدث موبايل بالسوق، بيستاهل والله، بس أنا كما ما بستاهل هالبهدلة، شوفة عينك داير من محل لمحل والشاطر اللي بده يعرض بضاعته ويغلي السعر، حرام من الله كل اللي ببيتنا حطه سعر موبايل، طيب منين بدنا ناكل”. يسترسل أبو معن بالحديث عن برج دمشق للموبايلات الذي لم يزره منذ زمن طويل، يوم جاء لشراء وصلة لشاحن هاتفه، يقول: “رزق الله هديك الأيام، كان سعر الدولار لسا محمول، أما اليوم الوضع صار جنوني”.
يقارن ارتفاع أسعار الموبايلات خلال العامين الماضيين بشكل لا يصدق، “قفزت الأسعار 300 بالمئة، مقارنة مع الوضع المعيشي المزري والرواتب التي إن زادت فإنها تأتي كذر الرماد في العيون لا طائل منها ولا جدوى أمام الواقع القاسي والصعب في البلاد”، يقول أبو معن، ويفصح عن نيته بعد طول تفكير “راح طالع قرض هاد الجديد تبع مليون ليرة ع راتبي لجيب موبايل ومع هيك رح اشتري موبايل مستعمل لأن الجديد غالي، الله بعين، شوبدنا نعمل العين بصيرة والايد قصيرة”.
العين بصيرة هي جملة واقعية بكل ما فيها لكنها لا تنطبق إلا على الطبقة المعدومة التي أفقرتها سنوات الحرب من مصائب وجوع وغلاء، وهذي الطبقة، تقول الأمم المتحدة إنّها باتت تشكل قرابة 90 بالمئة من تعداد السوريين، لكن هناك عين بصيرة تطول يدها فقط لمن لم يختبر يوماً البؤس والحرمان بل زاد فوق ثروته مكاسب طائلة لا تعد ولا تحصى من جيوب الناس والعباد، يقول فقراء على الدوام.

“كان أسهل عليّ ان أرسب بمواد الجامعة، ولا ينسرق موبايلي”، بحرقة كبيرة تروي سلمى مصطفى وهي طالبة جامعية تبلغ 20 سنة، لـ “صالون سوريا” كيف تمت سرقة موبايلها منذ حوالي ثلاثة أشهر، حيث كانت ذاهبة إلى جامعتها وتوقفت عند كشك فوق “جسر الرئيس” لتعبئة “وحدات للموبايل” ثم فوجئت بأن سحاب الحقيبة الخارجي مفتوح ولم تعثر على الموبايل، “شر البلية ما يضحك” تقول سلمى، وتضيف: ” يعني فوق الموتة عصة قبر.. عبيت وحدات بألفين من هون وراح الموبايل من هون”.
تتنهد سلمى وتستذكر تلك الحادثة وتروي كيف بكت أمام الكثير من المارة وقتذاك، وذاك الوقت كان لحظاتٍ مشبعة بالانكسار، على ما تقوله الطالبة الجامعية. الكل يرمقها بنظرات الشفقة، ربما فقدت عزيزاً عليها أو حلت مصيبة بها، لم يكن أحد يعلم ما بها إلا النشال الذي سرق لتوه الموبايل وفر هارباً ليبيعه في بسطات الموبايلات المسروقة تحت جسر الثورة أو في سوق البرج حتى أو لربما ليعرضه على الانترنت لزبائنه.
“الكل يعزي نفسه وبقلك أنا مو زعلان على سرقة الموبايل، أنا زعلان على الصور والأرقام اللي فيه، منضحك ع حالنا، أقل موبايل منيح صار بمليون وأهلي وفروا كتير ليشترولي اياه، وبالآخر انسرق” هكذا تختتم سلمى روايتها عن سرقة الموبايل التي كانت تداريه برموش عينيها كما ذكرت، وهي الآن تنتظر تحويشة أخرى من والديها لشراء موبايل حديث بدلاً من الذي تحمله الآن، وربما عليها أن تنتظر كثيرا هذه المرة، سنة أو سنتان أو ثلاثة، طالما أن أسعار الموبايلات والأجهزة الإلكترونية آخذة بالارتفاع، فلا مجال لوجود حسبة دقيقة لأي شيء، لذلك تبدو سلمى غير متفائلة هذه المرة بتعويضها بموبايل حديث كالذي كان معها على مبدأ “اللي بروح ما بيرجع”.
هكذا حال البلاد فمن يعيش ليومه قد يموت غداً ليس بسبب القذائف والحرب التي هدأت نارها في معظم المناطق، بل بسبب الغلاء المستعر الذي يكوي بناره كل يوم الغلابة والفقراء ومحدودي الدخل، الذين اداروا ظهورهم لرفاهية الحياة وهم في سرهم يبكون على ما ماضيهم الذي ذهب ولن يعود أفضل مما كان نظراً لوجود أمراء الحرب الذين رسخوا وجودهم وفرضوا قوانينهم على كل مفاصل الحياة رفاهية كانت أم ضريبة، ولأولئك الغلابة خيارات خاصة بهم، السفر أولها، والصومال أقرب البلدان وفيها أشد المغريات، من بلد الحرب إلى بلد الحرب، هي رحلة السوري في بحثه عما يفتقده، عن شكل أفضل للحياة.
مفيد البدعيش (26 عاما) يعمل في محل للألبان والأجبان في دمشق، حصل على رقم صاحب محل في منطقة “كراج الست” يبيع الموبايلات المستعملة والمجمركة بسعر أقل من السوق، يقول لـ “صالون سوريا” إنّه وبالفعل ذهب إلى هناك واشترى “موبايلا” يناسب ما يحمله من مبلغ مادي، لكن لم تنتهِ قصته هنا فيروي كيف تحولت تجارة الموبايلات بالبيع والشراء من “الشطارة إلى الحقارة” كما وصفها”.
“اشتريت موبايل مستعمل ونظيف ومجمرك ورجعت عالبيت وحطيته بالشحن، وبعد ساعة طفى الموبايل، حكيت مع صاحب محل الموبايلات قلي بتكون عامل تحديثات مجانية وانضرب بورد الموبايل” بالطبع لم يقتنع مفيد بتلك النتيجة وعاد إلى محل الموبايلات في كراج الست ولكن هذه المرة استعان بشخص خبير في البرمجة ليذهب معه حتى لا يقع في الخطأ مرتين “متل ما اتوقعت طلع الموبايل من لما اشتريته مضروب وكان رح ينصب عليي صاحب المحل، وبعد التهديد والوعيد بالشرطة والقضاء بدل الموبايل بواحد تاني وبنفس السعر والمواصفات لأنو كان بيعرف سلفاً أنو نصب عليي”.
ولحسن حظ مفيد أن تلك الحيلة لم تنطل عليه وسارع للكشف عن عملية النصب التي تعرض لها وهو واحد من كثر تعرضوا لعمليات النصب والاحتيال المستمرة بسبب عدم الخبرة في التكنولوجيا ومهارة البائع في الاقناع والإغراء بدون أي ضمير أخلاقي، وغالبية التجار الكبار ومن خلفهم الباعة الصغار لازالوا يرددون في قرارة أنفسهم، “البلاد مغارة، والتجارة شطارة”.

لا يقتصر سوق العرض والطلب للأجهزة الخلوية ضمن المحالات المخصصة لها بل يتعدى ذلك إلى مواقع الانترنت، وعلى مجموعات “فيسبوك” تنشط تلك التجارة بكثرة بين الباعة والزبائن لمختلف الأنواع والأصناف. فمثلاً “سيريان موبايل كورنر”، هي واحدة من مئات المجموعات الخاصة على “فيسبوك” والتي يتم فيها عرض الكثير من أنواع الموبايلات مجمركة أو غير مجمركة مرفقة بصور للموبايل وشرح عن مواصفاته، وترفق صور الموبايل بعبارة “على الخاص”، بمعنى أنّه على الزبون مراسلة البائع عبر تطبيق مسنجر للاستعلام عن السعر، لتتحول الدردشة عرضاً وطلباً بين البائع والزبون، وليس ذلك فحسب بل تتعدد المنشورات في المجموعة للسؤال عن أجهزة موبايلات بحسب قدرة الشخص على الدفع وما يحمله في جيبه من أموال للحصول على موبايل لائق.
“تباع أجهزة الموبايلات المهربة وهي نفس الأجهزة في الشركات العالمية بفرق من 300 إلى 700 ألف ليرة سورية عن سعرها في الشركات الموجودة والمرخصة ضمن سوريا، تصل إلى منطقة الجزيرة عبر العراق ومن ثم إلى التاجر الذي يوزعها على المحالات”. عيسى اسم مستعار لصاحب أحد محال بيع الموبايلات في دمشق طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي كي لا تطاله المسائلة القانونية يصف لـ”صالون سوريا” حال سوق بيع الأجهزة المستعملة المرخصة والذي تراجع كثيراً بسبب انخفاض أسعار الموبايلات المهربة إلى سوريا بعد إجراءات الجمركة.
يستعرض عيسى أسعار الموبايلات المهربة ومواصفاتها الأكثر طلباً في السوق “أكثر الأجهزة المهربة مبيعاً موبايل A12 رامات 4 وذواكر 64 غيغا، يبلغ سعره في الشركات المرخصة حوالي 900 الف، أما سعره المهرب من دون جمركة يبلغ 650 ألف ليرة سوري، وبعد جمركته التي تبلغ حدود 300 ألف ليرة يصبح سعره أقل من 900 ألف بقليل”.
وعند سؤاله عن إمكانية الحصول على موبايل غير موجود في الأسواق أجاب عيسى أن جهاز “شاومي نوت عشرة اس” هو الأكثر طلباً في السوق وغير موجود في صالات الشركات المرخصة لكن يمكن تأمينه بسهولة عن طريق التهريب وبسعر حوالي 850 ألف لفئة نوت اس و950 ألف لفئة نوت 9 برو ماكس. أما عن ربح البائع فيصل إلى 100 ألف في الموبايل الذي يتبع لأجهزة الهواتف متوسطة السعر.

تستغرب شريحة كبيرة من السوريين ما يحصل من بورصة الموبايل في سوريا. غالبيتهم عبروا عن ذلك مراراً سيما على “سوشال ميديا”، ليطفو في كل مرة سؤال ملح على واجهة الحدث، فكيف تباع في دمشق أجهزة خلوية لم تصل عواصم العالم المتقدم، وضمنها دبي، حصل ذلك في قضية أجهزة “اي فون -12 ماكس برو” التي بيعت في وقت سابق من العام الماضي بدمشق قبل أن تصل الأجهزة عينها إلى دبي، ليكون السوري من بين أوائل أهل المعمورة الذين حظيوا بامتلاك الهاتف، ليثار في الإطار سؤال آخر يبدو أنّه أكثر إلحاحاً، على أي أساس يتم منح رخص الاستيراد لشخصيات نافذة ومحددة ومعروفة؟، وهل هؤلاء الأشخاص أكبر من قانون قيصر؟، أم أنّ قانون قيصر يشمل الأرز والزيت ولا يشمل ما هو منتهى الرفاهية والغلاء؟، “أين قانون الحصار اللعين من هؤلاء؟، إذا كانوا بهذه القوة لماذا لا زلنا جائعين؟”، جملة قالها المهندس المدني خالد عمورة في حديثه ل “صالون سوريا”.
من الواضح والجلي أنّ أسعار الهواتف المحمولة ارتفع قرابة 400 بالمئة مقارنة بالأسعار في الأسواق العالمية، فالهاتف الذي يباع عالمياً بحوالي مئتي دولار أميركي يباع في سوريا بحوالي 500 دولار اميركي، في حين أنّ أجهزة بعينها وصل سعرها في دمشق إلى حوالى ألفيين و500 دولار مع وصول “عزوات” جهاز “اي فون 13”.
محللون اقتصاديون يعزون ذلك إلى استئناف الجمارك العمل بقانون التصريح الإفرادي عن الأجهزة، بالمعنى المتداول جمركة الجهاز ليسمح له بالعمل على الشبكة، وتالياً تمنح الأجهزة غير المجمركة مدة شهرية محددة للعمل، وبعدها ما لم يتم التصريح، يتم ايقافها عن العمل لناحية إجراء الاتصالات والرسائل، ليقتصر عملها على الانترنت عبر شبكة واي فاي حصراً، ويظل الوضع هكذا حتى تتم جمركتها، والجمركة هنا تبدأ من حوالي مئة دولار وصعوداً، قد تصل في بعض الأجهزة إلى ألف دولار وبضع، وفي حال الغيت الجمارك، فمن البديهي أنّ أسعار الأجهزة ستنهار فوراً إلى الثلث أو النصف.
أجرى “صالون سوريا” جولة في سوق الأجهزة المستعملة المزدهرة، وقد يكون بداخل بعضها أعطال تسمى بالخفية، تظهر مع الاستخدام، وبعضها الآخر يسمى “مفكوكاً” بمعنى أن خضع لعملية صيانة ما، وبالتالي يكون سعره أقل بقليل أيضاً، ليبقى أنّ معظم السوريين يتجه لفئة “سامسونج” لسعرها رخيص، فالرواتب المتدنية، يضاف إليها انعدام الأمن الاجتماعي والغذائي، كلها عوامل تجعل الموبايل حلماً يرقى للحلم بالعيش الكريم، وكلا الحلمين لم يتحققا للسوري منذ سنوات طويلة.