فهد سوريا – الجزء الثاني

فهد سوريا – الجزء الثاني

تدهورت علاقة المالح مع السلطات السورية بعد فيلمه شظايا، والذي يعتبره مخرجه نهاية مرحلة في حياته المهنية. حدث أمر محوري في عيد ميلاده في سبتمبر 1981. إذ فيما كان المخرج يقود سيارته بالقرب من وزارة الخارجية، أشار له حارس للتنحي جانباً للسماح لسيارة رسمية بالمرور. توقف المخرج، ولكن على ما يبدو ليس بالسرعة الكافية، فقام الحارس بضربه على رأسه بعقب بندقية. فقد المالح وعيه ليستيقظ على صوت اعتذار ضابط في مركز الشرطة. قرّر مغادرة سوريا وسافر إلى الولايات المتحدة على منحة فولبرايت، على الرغم من عدائه الطويل الأمد لسياسة البلد الخارجية. لقي المالح استقبالاً حاراً ومشجعاً في عدد من الأكاديميات. درس الإنتاج السينمائي في أوستن وجامعة كاليفورنيا، ولكن مدفوعاً بشوقه للإخراج، انضم إلى شركة إنتاج ليبية في جنيف في سويسرا وجدها باردة ثقافياً وعقيمة إبداعياً، “عالم بنوك ورجال الأعمال.” أمضى المخرج وعائلته عقداً في اليونان، حيث أنتج نبيل أفلاماً للتلفزيون الليبي، بما في ذلك “وقائع حلم”، فكرة خيالية مُستوحاة من الماركسية تدور حول التقدم البشري متخيلاً مدينة فاضلة حرة. ألّف المالح خلال إقامته هذه في اليونان السيناريو لعمله الرئيسي التالي “الكومبارس”. 

رسم المالح “الكومبارس” للإنتاج المصري متخيلاً النجوم نور الشريف ويسرا. ولكن في زيارة له لمروان حداد مدير المؤسسة العامة للسينما في دمشق، عرض عليه الأخير تمويلاً لتصوير الفيلم في سوريا مع الممثلين السوريين بسام كوسا وسمر سامي في الأدوار الاساسية، بدأ التصوير في دمشق في عام 1992 للفيلم الذي أصبح أفضل أعمال المالح وأشهرها خارج وطنه بل أصبح الفيلم أيضا أول عمل سينمائي السوري يحصد اهتماماً كبيراً. (1)

بصدوره عام 1993 عكس “الكومبارس” الهموم الاجتماعية والسياسية المحورية في عمل المالح. يصور الفيلم كفاح سالم، طالب في كلية الحقوق وعامل في محطة الغاز، وصديقته الأرملة الخياطة ندى، اللذان يقيمان علاقة رومانسية وسط هموم الظلم واللوم، واللذان لم يحظيا بأية خصوصية أثناء الخطوبة منذ ثمانية أشهر. استعار بطل الرواية الشاب، وهو ممثل طموح لديه فأفأة، شقة صديقه عادل للقاء محبوبته. تدور أحداث الفيلم بأكمله، باستثناء الافتتاح والختام، بين جدران باهتة لدار خانق، في رمزية للحالة السورية وربما العربية. أشارت اللقطات إلى الوجود الكئيب للشخصيات الرئيسية ‘: سالم يقوم بتلميع السيارات والتدرّب على أدوار قصيرة لمدير المسرح الذي ينسى أسماء الكومبارس؛ وندى في مصنع آلات الخياطة تتقاسم فناء منزل متواضع مع عائلة أخيها.

في أحد لقاءات الحب قال عادل أنه سيلتقي بأهل زوجة المستقبل، وهو على وشك الزواج، ولكن حنقه على الرذيلة صديقه. يقرع الباب غريب متأنق ويتّكِىء على عتبة ليطرح بإلحاح أسئلة مهذبة عن الجار المجاور. يتوقع سالم أنه عنصر مخابرات، الذي يشير إلى أنه التقى الممثل الهاوي. تغادر الشخصية المريبة، ويعتبر عادل أن الحدث لا يهمه، ولكن كلا الرجلين بات متوتراً.

يرتب سالم السرير وحيداً ومرقباً ويتخيل العنصر واثباً مع عشاق يتلوون تحت الغطاء. تقرع الباب بائعة متجولة، ولكنها تحتج عندما أعطاها سالم المال من دون أخذ بضائعها: “أنا لست متسولة”. تصل ندى مهيجة في وقت متأخر، قلقة من أن يكون شقيقها قد لحظها لها وأن يكون الجيران أثناء صعودها الدرج قد شعروا بغرض الزيارة غير النزيه. حثها سالم على اعتبار الشقة “مساحة حرة” منفصلة عن العالم الخارجي. 

قطعت تخيلات سالم حول مداعبة ندى حديثهما الحرج. وعندما تعانقوا أخيراً، حطم الزجاج المتهاوي هجران ندى. طلبت مغادرة الشقة مذعورة من أن يفتضح أمرها. يقترح سالم تبادل عهود الزواج لقتل خوفهما. يتخلل سمعهم نغمات عود حزينة قادمة من بيت أحد الجيران من خلال الجدران الرقيقة. يتحدث سالم عن التمثيل ويلقي بضعة أسطر من أحدث اعماله، والذي يلعب سبعة أدوار مختلفة ولكن لا يتم ذكره في البرنامج. لم تذهب ندى أبداً الى المسرح. اعتلى سالم منصة وهمية جامعاً الستائر وأغطية غرفة المعيشة. مثل دور الحاكم الظالم الذي يرسل رعاياه المتمردة إلى السجن. اعترضت ندى على الظلم، ولكن قال لها سالم أن ليس لديهم خيار سوى لعب الأدوار المكتوبة. إنه لن يقبل الإهانة إذا حدثت في الواقع. ثم يقوم بتجسيد اثنين من أدواره الأخرى: حارس في السجن وعنصر مخابرات، شخصيات يحتاجها الحكام. تكره ندى هذه الشخصيات الجديدة وقالت: إنها تفضل أدواره الثانوية، والتي برغم صغرها إلا أنها تُمثِّل ناساً محترمين. يرى سالم أنه يجب أن يقبل هكذا أدوار من أجل تحقيق النجاح. ينوي المالح القولَ: إن كلّ سوري يواجه معضلة مشابهة.

 خطيبة عادل المحدث النعمة فجة وتُقحِم نفسها في كل شيء. إنها تغيظ الحبيبين، ولكنها تتعاطف معهما –لو كان لديهم المال لتزوجا، مثلها وعادل. تتركهما بمفردهما، فيضحكان وهما في طريقهما للسرير الذي تداعى على الفور. ولإصلاحه زحفوا تحت شبكة الإطار الحديدي، لاحظت ندى تشابه الشبكة مع قضبان السجن الذي يرزح خلف قضبانه الكثير من مواطنيهم. يقاطعُ جرس بعيد عناقاً آخر. 

تستعد ندى للمغادرة، ويعود العنصر المتأنق هذه المرة مع اثنين من قطاع الطرق يسأل عن زوّار الجيران المعتادين. يسحب المتوحشون عازف العود الأعمى الذي يتوسل طلباً للمساعدة. يحاول سالم التدخُّل ولكن أحد البلطجية يطرحه أرضاً ويأخذ العازف بعيداً. لا يستطيع الكومبارس التمثيل، يجعل الرعب أبكماً، حتى لتوسلات ندى التي تغادر الشقة وتنهار حين تبتعد عن مسامع سالم لتخرج خلسة من المبنى. في المشهد التالي يلحق بها سالم المحبط المُتخبِّط قبل أن يسير في الاتجاه المعاكس. تزحف صورة الكاميرا مُتسلّقة بناية سكنية ضخمة.

قد يكون الكومبارس عمل المالح أو العمل السينمائي السوري الأكثر تجسيداً وإدانة لسياسة البعث البوليسية. يصل انتقاد الفيلم إلى أبعد من النخبة السياسية، يتّهم الربط المبدع للعجز الجنسي والقمع السياسي المجتمع العربي والنظام الأبوي 

(Wedeen 1999, 116; Gugler 2011,129-130)

مهنة سالم هي الروي. الإرغام على التصرُّف ضدّ معتقدات المرء ورغباته يورط جميع السوريين في مسايرة للنظام. [2] ترثي ندى التي أجبرت وسالم على التصرُّف مثل اللصوص وسرقة وقت يمضيانه بمفردهما. حتى في هذا، لم يكونا مفلحين.. يوحي المالح أن سوريا لا تقدم لمواطنيها سوى أدوار صغيرة ليؤدوها في الخفاء؛ يتواطأ العديد ويُحاربوا الدولة ، ولكن يفشلوا في تحقيق المكاسب التي وعدوا.

بلغ فيلم الجماهير العالمية، ليكسب بطليه سمر سامي وبسام كوسا أعلى جوائز التمثيل في بينالي السينما العربية في باريس ويفوز المالح بجائزة أفضل مخرج في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (Gugler 2011,131)، كما فاز في الجائزة الفضية في مهرجان ريميني السينمائي الدولي في عام 1995. وقد تمّ عرض فيلم الكومبارس لأول مرة في سورية صباح يوم جمعة كحدث صباحي ثانوي بدلاً من أن يكون مُنافساً في مهرجان دمشق السينمائي الدولي في عام 1995. يذكر المالح أن هذا هو أسعد يوم في حياته، اليوم الذي “كسر جليد المنفى الطويل.” أحرج مسؤول من المهرجان الأخير، في زيارة لدمشق، السلطات السورية إلى عرض الكومبارس في سوريا، حيث انتصر الفيلم. ملأت الجماهير مسارح الكندي الحكوميّة الستة خلال عرض الفيلم لمدة أربعة أشهر .(Wedeen 1999,116)

في حين شهدت فترة التسعينات تحسناً طفيفاً في شروط الإنتاج الفني، إلا أن أمل أن التحرّر السياسي من شأنه أن يترافق مع الانفتاح الاقتصادي تبدّد في وقت مبكر من العقد. عندما سأل الصحفيون المالح لتقييم حال السينما العربية، أجاب: “إنها حالة العالم العربي عموماً: كتلة يحكمها قانون القصور الذاتي، يديرها اللصوص والمستفيدين والعشائر وأولئك الذين يحملون أجندة معارضة ومتناثرة، والمبدعين من الأفراد الذين لا يملكون المال، لا السلطة ولا السلاح، ولكنهم يجسدون المشروع الوطني “.

بقي التزام المالح تجاه سوريا وجمهورها ثابتاً، وانعكس في عمله التلفزيوني. مُتفرّداً بين صُنّاع السينما السورية، فقد أخرج عدة مسلسلات، لصناعة الدراما التلفزيونية في البلاد كأهم دراما عربية. فازت أعمال مثل “حالات” و”سري للغاية” بجوائز في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. وبعد إجراء بحوث مكثفة، كتب المالح سيناريو مسلسل “اسمهان”، السيرة الذاتية للمغنية السورية الأصل نجمة الشاشات المصرية اسمهان. أخرج العمل التونسي شوقي الماجري في عام 2008 وعُرِض على مختلف القنوات الفضائية العربية.

جلبت الألفية الجديدة الشباب بشار الأسد الذي تلقى تعليمه في بريطانيا إلى السلطة بعد وفاة والده في عام 2000. انضمّ صُنّاع الثقافة للعديد من السوريين في توقع حل الدولة البوليسية وظهور السياسة التشاركية. قاد المالح تشكيل لجان إحياء المجتمع المدني، التي اجتمعت في منزله في دمشق. شكّلت المنظمة واحدة من أبرز المنتديات الجديدة  في ما أصبح يعرف باسم ربيع دمشق، النقاشات الإصلاحية المزهرة الوجيزة التي ميزت الأشهر الأولى لتولي الرئيس الجديد منصبه. وانضم المالح، بكونه المُتحدِّث الرسمي باسم المجموعة المُثقفين البارزين لطرح المخاوف من زيادة الفقر والفساد والعسكرة وتنامي نفوذ الإسلام السلفي. وقّع أعضاء المُنتدى سلسلة من التصريحات التي تدعو إلى ذات إصلاحات ديمقراطية نفسها التي طالبت بها لاحقاً جماعات المعارضة عام 2011  مثل إلغاء قانون الطوارئ المستمر منذ أربعة عقود. وبعد أقل من عام، حدثت سلسلة جديدة من التدابير القمعية، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية، لتعري ما اعتبره المعارضون الهدف الحقيقي وهو تحديد هوية المعارضين وإسكاتهم. وسرعان ما قام مدير المؤسسة العامة للسينما الجديد بتهميش المالح، جنباً إلى جنبٍ مع صنّاع السينما الآخرين في البلاد- عمر أميرالاي وأسامة محمد، ومحمد ملص – كمُنشقين. تلقّى أعضاء آخرين من هذا الفوج الدعم الأجنبي؛ واجه المالح قلّة في المال. اقترض المال لفيلم تلفزيوني وكان فيلم “غراميات نجلاء” اول فيلم ناطق باللغة العربية فيلم يصوّر رقمياً. بُثَّ على التلفزيون السوري، يستكشف هذا العمل انقلاب الحياة في قرية سورية خلال استضافة طاقم الدراما التلفزيونية. كما كتب سيناريو لفيلم سياسي عن هروب ضابط فاسد من بغداد عشية الغزو الأميركي Hunt Feast، الذي يعتبره المالح فيلم أحلامه صُوِّر عام 2005 كمشروع سوري بريطاني مشترك، لكن العمل بقي أسير معركة قضائية بين المُنتجين.

تمّ تكريم المالح في السنة التالية لمهرجان دبي السينمائي الدولي (الذي شمل المكرَّمين آخرين كالمخرج الأميركي أوليفر ستون ونجم بوليوود شاه روخ خان)، لمساهمته البارزة في السينما. ثم استقبل لجنة من الهيئة السورية لشؤون الأسرة وأنتج ستة عشر وثائقياً واثنان وخمسون “حلقة” للتلفزيون السوري تمّ حظر أغلبها على الفور. والجدير بالذكر أن من بينهم الأجزاء الثلاثة من الطريق إلى دمشق. هذه الرحلة الفوتوغرافية عبر سوريا تُنذر بالصراع الحالي بشكل خارق للطبيعة، وزيارة مناطق مُشقة وحرمان والتي وبعد سنوات قليلة ستثور في احتجاجات مناهضة للنظام. 

شكّل المالح رحلة الطريق مع افتتاح اصطلاحي من الفولكلور العربي “كان ياما كان أيام زمان” ليروي القصة الحقيقية الكاملة لأمة فاشلة. يرسم المالح مشاهد “المدن المنسية” والأطلال الأثرية في سوريا بالتوازي مع الدمار المعاصر الذي يجبر الكثير من المواطنين على التخلي عن المدن والقرى المحببة للبحث عن حياة أفضل في العاصمة. يسافر طاقم الفيلم الوثائقي عكس هذه الموجة البشرية. على الرغم من اختلاف اللهجات إلا أنّ حسرة السوريين هي إلى حدّ كبير واحدة: البطالة والاستغلال والتلوث والفساد. يطالب أكثرهم الدولة بالتحرك، ولكن صوت يشير مُتفرّد إلى وجود الفردية الليبرالية الجديدة: “ألا يكفي، كل الضغوط التي يواجهونها من الخارج”، تتساءل أمّ شابة لكثير من الأطفال “لماذا نلوم الحكومة على أخطائنا؟ ” يندب مغنٍ في الخلفية: “لكل واحد قصة في القلب.” تُوفّر السينما مقياساً: كان في إحدى القرى ذات مرة ثلاثة دور السينما، كلها قد أغلقت. مشاهد من الفقر، وأحلام الناس في تركها تلقى الإجابة لدى أولئك المهاجرين الذين أسسوا لسكن غير شرعي في ضواحي دمشق. على الرغم من أنها لم تصل للجماهير السورية، فقد كان عرض “الطريق إلى دمشق” الدولي الأول في Dox Box Global Day في مالمو في السويد في مارس 2012، وتم عرضه لاحقاً في أكاديمية ومنظمات غير ربحية مختلفة في أوروبا والولايات المتحدة.

مزج الفيلم ببراعة الصور والقصص ونسج حكايات شخصية وسياسية، ليعكس التزام صانعه لكشف حقيقة غير مريحة. كانت الأنظمة العربية والحكومات الأخرى أحسنت صنيعا لو أنها أصغت للرسالة القوية في “الطريق إلى دمشق”. عندما أشار معظم زملائه إلى اللامبالاة الجماعية المتزايدة، كان المالح أحد قلّة من المثقفين العرب بالتنبؤ أربع سنوات مقدماً بالانتفاضة العارمة التي اجتاحت المنطقة عامي 2010 و 2011: “أعتقد أن شيئا ما – انفجاراً – سيحدُث، لأنه ليس من الممكن للإنسان أن يقبل العيش في هكذا ظروف لفترة أطول، على الأقل كانت هذه دروس التاريخ. سينبعث ضوء من هذه الفوضى والتلوث.. أنا أعلم أن هناك العديد مثلي في العالم العربي. ونحن نستمد قوتنا من مجرد معرفتنا أننا هنا، على قيد الحياة “(المالح 2006، 94).

[للجزء الأول اضغط/ي هنا وللنسخة الإنجليزية اضغط/ي هنا]

[ترجمه إلى العربية رفاه برهوم]

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
فهد سوريا – الجزء الثاني

فهد سوريا – الجزء الأول

يُجّسد المُخرِج السوري نبيل المالح شخصية الفنان الناشط، المُنِتج الثقافيّ المُلتزم اجتماعياً والناشط سياسياً. تحدّى المالح بأعماله، على مدى عقود من إنتاج أنماط فنية مختلفة، الأنظمة الفنية والثقافية والسياسية. غالباً ما يستشهد المالح بلحظة حاسمة من الطفولة المقاومة: يُواجِه الطفل نبيل, البالغ من العمر سبع سنوات, الجندي الذي حاول أن يبعده عن أرجوحة حديقة عامة لكي يتمكّن أطفال ضُبّاط من اللعب فيها. في مقابل تحديه هذا، تلقّى الطفل الصفعة التي، كما المالح يقول، تردد صداها طوال حياته. [1]

ولد المالح عام 1936، وهو ابن طبيب رفيع المستوى في الجيش ، هوالشقيق الأكبر لأربعة أخوة في أسرة نخبوية دمشقية. درس القانون في جامعة دمشق، ولكن ميوله انصبت في العلوم وشغفه كان في الكتابة والرسم. التقى المالح بالملحق الثقافي التشيكي بالصدفة ، الذي شجعه على متابعة حلمه في دراسة الفيزياء في براغ.  بسبب عدم وجود التمويل، قام الفتى ذو السبعة عشر ربيعاً ببيع واحدة من لوحاته للأونروا، ليكسب بذلك ما يكفي لأول أشهر من وجوده في تشيكوسلوفاكيا. غيّر المالح اختصاص دراسته من الفيزياء النووية الى قسم السينما  في براغ ، وانضمّ بذلك الى فريق ضمّ جيري مينزل وميلوس فورمان. وأثناء تواجده في تشيكوسلوفاكيا، لفت انتقاده للنظام الناصري المسيطر على سوريا في ظلّ الجمهورية العربية المُتّحِدة انتباه أجهزة الاستخبارات السورية التي دعته بالمُنشَق الأمر الذي بقي مصدر ضيق وإلهام.

بعد عودته إلى سوريا بعد التخرج في عام 1964 كأول خريج سوري من مدرسة السينما الأوروبية، أخرج المالح الأفلام القصيرة واستمر بالرسم مقيماً أول معارضه الفنية. وكتب أيضا سيناريو مقتبس عن رواية للكاتب السوري حيدر حيدر بعنوان (الفهد)، و هذه الرواية كانت تصوير خيالي لأبي علي شاهين، الثائر الأسطوري لحقبة الاربعينيات 1940. وقبل أسبوع من موعد التصوير المُقرّر، ألغت وزارة الداخلية تصريح التصويربحجة أن الفيلم يُمجِّد سفاح. وفي عام 1971 أعطي فيلم ليوبارد إذناً رسميّاً، وأصبح هذا التجسيد للمقاومة الريفية أول أطول فيلم روائي سوري.

أسر فيلم (الفهد) قلب الجمهور العربي حين صدوره عام 1972 ليقدم بذلك السينما السورية إلى الساحة العالمية.  تدور أحداث الفيلم في العام 1946 حين قلّصت قوات الانتداب الفرنسي وجودها، واستغراق الاقطاعيين المحليين المعروفين بالأغوات في الظلم. يبدأ الفيلم بمشهد يعاد أكثر من مرة وهو مشهد قريب لوجه بطل الرواية مقطب قبالة بحر هائج  يرسم القصص الشعبية السورية. في المشهد الثاني، ذو الصورة الظلية، تسأل شفيقة، زوجة أبو علي، عن سبب امتلاكه بندقية بعد أن غادر الفرنسيون. أبو علي يتجنّب الإجابة على السؤال، ولكن يأتي الجواب بسرعة: الإقطاعيين السوريين المدعومين من قبل الجنود يطلبون جزية تفوق قُدرة الفلاحين على الدفع بعد موسم حصاد سيّئ. يُقاوِم البطل ولكن يُلقى القبض عليه ويُضرب، إلا أنه يتمكّن من الهرب إلى التلال ليشنّ هجمات مُتمرِّدة ضِدّ قوات جديدة من الاستبداد. حاول رفاق من أيام مقاومة الفرنسيين الانضمام إليه، ولكنّ أبو علي صدهم ؛إنها معركته وحده.

حاول الجنود حمل المتمردين على الاستسلام من خلال مضايقة سكان القرية وسرقة طعامهم  وبعد الغارة العسكرية البشعة التي قُتِل فيها ابن أخت أبو علي، طالبت شقيقة البطل أخيها بالثأرلابنها. لقد أدّى تمرُّده هذا إلى انتقام عنيف.  زارت شفيقة أبو علي في مخبئه مُؤكِّدة دعم القرويين له، على الرغم من وحشية الآغا ليُجسِد هذا اللقاء العاطفي لأول مشهد إغراء في السينما العربية، إذ داعبت الكاميرا جسد المُمثّلة العاري إغراء المُتمدّد تحت المُتمرد الوَلِه  (الإغراء “، نهاد علاء الدين). 

انضمت شفيقة في وقت لاحق لزوجها في الدفاع عن موقفه ضدّ فصيلة مُسلّحة.  كمادوّن Cecile Boëx أنّ هذا التصوير للأنثى المُقاوِمة يُفِسد اتفاقيات السينما التجارية، وشفيقة لم تَعُد مُجرّد جسد يُرضِي الرغبات الجنسية، ولكنها مُتمرّدة تُحارب من أجل قضية جماعية  )2011,135(

تدهورت أحوال الفلاحين ، وعبد الرحيم  “المُسلّح الوحيد”، قتل لإطعام صديقه المُطارد. مدفوعين بالغضب، انضمّ عدد من رجال القرية لأبو علي في غارة على مجموعة من الجنود تتناول الذبائح عند الآغا، سرقوا أسلحتهم، وأضرموا النار في مستودع القائد العسكري. أُلِقي القبض على شفيقة وابنها علي في محاولة لإرغام الُمتمردين على الخروج من مخبئهم، لكنه فاجأ الحُرّاس وأنقذهم. عاد إلى أهله وحاول نقلهم إلى مكان أكثر أماناً، لكن هذه المحاولة فرقتهم ليعود أبو علي وحيداً مرة أخرى. لجأ لفترة قصيرة لأحد شيوخ القرية، الذي شكك في الخطة التي خلقت سلسلة انتقام دموية ، ليجيب أبو علي “لم أستطع إلا أن أفعل شيئاً”. أجابه الحكيم “لكن بندقيتك لم تقم بما هو خير”، ، مشيراً إلى أن الجنود إن هم الا رجال فقراء مقموعين يحاولون إطعام أسرهم.

اتهم الفلاحون أبو علي بخوض معركة خاسرة وجلب الخراب إلى القرية و لكنهم تملصوا من مطالبة السلطات بمعرفة مكان البطل. إلا ان خيانة أبي علي أتت من عمه الذي خنقه المتمردون قبل تمكن الجنود من سحبه بعيدا عنه. رُبط البطل وتم جره في شوارع القرية، ثم قُيّد بشبكة من السلاسل و تم ضربه. طلقات من النار على البحر لجلب الانتباه لشخصية أبو علي المكبلة بالأصفاد تسير على طول الشاطئ متجهة لحبل المشنقة، حيث القرويين جنبا إلى جنب مع الآغا ورجاله، ينتظرون بصمت كئيب. و عند شنق أبو علي يظهر مشهد جوي لكامل الريف وتظهر في الأفق صورة ظلية خيالية للفلاحين الحانقين.

يمثل الفهد جهده الأول المتواصل لاستكشاف، من خلال المثال السردي، الخطأ الذي استمر في إضعاف مساعي السوريين الثورية. تعزز السياسة صياغة الفيلم بدلا من السيطرة عليه. يتماهى المالح مع بطل روايته ، وهو المتمرد المنعل الوحيد الذي يقاتل من أجل الاستقلال الحقيقي، “مدفوعاً بالكرامة واحترام الذات والتصميم على الذهاب للحد الأقصى، حاملاً صليبه بلا ندم.” بسرده قصة أبو علي، كما هو الحال في أعماله الأخرى، يناضل المالح من أجل لغة سينمائية جديدة لا تنتمي إلى مدارس النمط السينمائي:

لم يسبق لي ان أحسست بأن هناك مدرسة أستطيع اتباعها، فأنا أحاول ايجاد طرق خاص بي. أحيانا أنجح. لكن كشف الخمار عن ما لا نعرفه عن أنفسنا يبدو لي أكثر أهمية من اتباع حركة سينمائية. . ما من أنماط قابلة لإعادة الاحياء، هنا فقط اشكال يجب أن تُخلَق وتُكتَشف. أنا أتجنب المدارس والاتجاهات الموجودة مسبقاً.

يوظف فيلم الفهد تقنيات الواقعية الجديدة بما في ذلك مواضيع الفقر والقمع، والاستعانة بممثلين غير محترفين و بالتصوير الأسود والأبيض. يمكن القول أن الفيلم أسس للهجة الأسلوبية على مدى العقود اللاحقة للإنتاج الخيالي الاعلامي السوري. يعكس الفهد جمالية الظلام التي أصبحت السمة المميزة لأسلوب البصرية السورية. إذ يعتمد المنتجون الثقافيون الحاليون، عمدا أو من غير عمد، على جمالية قاتمة قُدّمت في الفهد ( Salamandra 2012;2015).

تعكس مشاهد مؤطرة للريف وبيوته الحجرية التقليدية اهتماما مدروسا لمصداقية الديكور والملابس. يرى المالح الفيلم كجزء من التوثيق الثقافي، كشكل من الأنثروبولوجيا الإنقاذ لتقفي ما تبقى من “البيئة الريفية الحقيقية “. تظهر مشاهد الحصاد في المناطق الريفية الممارسة اليومية تحت مراقبة الجنود المتوعدة. يصف المالح الدافع وراء تقنياته الواقعية:

تطلبت البيئة القاسية حلولاً قاسية. كرهت ولازلت أمقت الادعاء. جسد اللون، بالنسبة لي في ذلك الوقت، نزيفا كاذباً غطى أصالة الأشياء والشخصيات والعواطف. استكشفت مع الفهد المواقع والناس. أذهلتني أصالة كليهما [في المنطقة الساحلية السورية] تجانست تماما مع مفهومي للفيلم. حتى أنني رفضت مساحيق التزيين. قلت الجميع أن أشعة الشمس كانت أفضل خبير تزيين. غمرني العمل مع الناس من تلك القرى، الذين لم يذهبوا إلى السينما قط، بنشوة الفرح.

يتوقف غنى الفيلم الواقعي المحلي على اللغة، و يعتمد الحوار على مصطلحات العامية السورية. وهذا، بحسب المالح، يعكس روح السياسي في عصره. توظف الأفلام من حقبة الثمانينات والدراما التلفزيونية من التسعينات  فصاعدا اللهجات المحلية مع التجمعات الطائفية والإقليمية المصاحبة لها – مودية في كثير من الأحيان إلى تأثير مثير للجدل (سالاماندرا  2004). لكن مازالت أواخر السبعينات تحمل أمل الوحدة العربية: “لم أعط اهتماما خاصا للهجة، بالنسبة لي كان الفهد رمزا سوريا أو حتى رمزا قوميا عربيا.. في ذلك الوقت، لم تكن للهجة الساحل السوري نفس الدلالات السياسية أو الاجتماعية كما اليوم. لم أتنبأ بالانتقال الجلي من اللهجة إلى الموقف “. [2]

حصل الفهد على جائزة خاصة في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي في عام 1972، وهو نوع من الاعتراف الأوروبي بما حققه صانعوا السينما العرب. كما حظي الفيلم بنجاح محلي غير مسبوق. ومن مفارقات صناعة السينما السورية فإن معظم أعمالها  التي المؤسسة العامة للسينما إما أن تكون ممنوعة من العرض أو ببساطة تفشل في تحقيق التوزيع المحلي  (السلطي 2006).  عرض الفيلم في دور السينما في جميع أنحاء سوريا رغم رسالته الضمنية: لقد مات الاستعمار الأجنبي ، ولكن لازال القمع حياً. احتل فيلم وصانعه مكانة متميزة في الذاكرة الجمعية للوسط الفني السوري، وألهمَ أجيالاً من صُنّاع الإعلام. استشهد شريف كيوان، عضو جمعية أبو النضارة للمخرجين المُتمردين، بمشهد الحبّ:” رؤية جسد امرأة في الفيلم مَلأني بشعور حرية عارم، لقد تخطّى المشهد الحدود إذ أثّر فيي أكثر من أيّ شيء سياسي مباشر “. [3]

ما زال الفيلم يُذكر خارج منطقة الشرق الأوسط: اختار مهرجان بوسان الدولي في كوريا الجنوبية عام 2005 فيلم الفهد كأحد “الروائع الخالدة في السينما الآسيوية.”

يُجسِد المالح تناقض السينما السورية؛ على الرغم من تلقيه تمويل المؤسسة العامة للسينما  إلا  أنّ المالح يُعامَل كمنفي، تمييزٌ يعتبره المالح شرفاً.  لقد مكّنه التمويل الحكومي بالتخلي عن مصادر تمويل خارجية، الأمر الذي منحه بحسب اعتقاده مصداقية محلية أكبر.  على غير عادة الأفلام العربية نال الفهد كغيره من أعمال المالح وخصوصا الكومبارس، على حدّ سواء الإعجاب العالميّ والشعبية المحلية. عُرض في أكثر من عشرين صالة عرض سورية لأكثر من ثلاثة أشهر، أسّس العمل لسمعة رائعة في العالم العربي وخارجه.

وعلى الرغم من التدخُّل المُشتِّت من مُمثّلي الدولة الذين وصف المالح تصرفاتهم بـ “تصرفات أشبه بالمخابرات أكثر من كونها تصرفات وكلاء ومديري مشاريع ثقافية،” كانت فترة السبعينات مُثمرة للصناعة السورية الحديثة. عقدت دمشق عام 1972 أول مهرجانها السينمائي الدولي السنوي مُعزّزة السينما العربية البديلة. أنتج المالح خلال هذا الوقت العديد من الأفلام القصيرة التجريبية، بما في ذلك  ” نابالم” ذو التسعين ثانية، الذي يربط بين حرب فيتنام والاحتلال الإسرائيلي مستوحياً قصته من الحروب في فلسطين وفيتنام لينال عليه الجائزة الأولى في مهرجان تولون السينمائي. وفيلم ” الصخر”  الذي  ناقش ظروف العمل المحفوفة بالمخاطر لعمال المقالع السوريين. وأخرج أيضا عمل ” المخاض” الجزء الأول من ثُلاثية ” رجال تحت الشمس”، الثلاثية التي تناقش وضع الفلسطينيين والتي عُرِضت عام 1970.  وقد قدّم عمله ذو المُحاكاة الساخِرة والمُموِّل من القطاع الخاص ” غوار جيمس بوند” دريد لحام كشخصية تلفزيونية كوميدية إلى الشاشة الكبيرة عام 1974. فيما ناقش  “السيد التقدمي” عام 1975 تحقيقات صحفية لكشف فساد الطبقة الوسطى. لكن تمّ حظر الفيلم في سوريا لتصويره السلبي لصورة النظام/الحكم.

بحلول نهاية فترة السبعينيات، واجهت سوريا توتراً متزايداً مُتمثّلاً بتحديات الإسلاميين المُسلّحة والتي بلغت ذروتها في القمع الوحشي للانتفاضة في حماة عام 1982 .وفرضت دولة البعث سيطرتها على التعبير الإبداعي. يقول المالح “تعارضت مع البيئة الثقافية المتحجرة في شعارات التقدم الزائفة “، ولكنه واصل عمله. وشهد العام 1979 إطلاق رائعته الثانية ” بقايا صور” معالجة واقعية لرواية السيرة الذاتية التي كتبها حنا مينا، مُؤرّخاً الحياة الاجتماعية في الريف السوري. [4] أٌعجب المالح بأسلوب مينا الغني في رسم شخصياته وإحساسه ببيئته الريفية، الأمرالذي قد يؤدّي إلى ” الوجود الإنساني الهشّ والبحث عن حياة كريمة”  صوّر المالح فيلمه المُلوّن ناسباً إياه لعشرينات القرن الماضي.  يروي الفيلم قصة صراع أبو سالم السكير في محاولاته الحثيثة  لاستعادة أرض زوجته التي انتزعها منهم الأتراك، كما يحكي الفيلم عن  جهود أبو سالم الضائعة للحفاظ على أسرته الفقيرة. تنازل البحار الخبير فقبل بوظائف غريبة في قرية ساحلية، روى أبو سليم لجيرانه قصص البحارة  ” أوه مصر والمرأة”   ولم يجيد الأعمال الوضيعة التي قُدّمت له ،   لم تناسبه حياة اليابسة، ولم يلبث أن تحوّل إلى التهريب ولكنه خُطف. تسولت زوجته أم سليم(الممثلة والمخرجة المسرحية نائلة الأطرش) للحصول على الطعام وطلبت من جيرانه ذلك ، بما في ذلك الأرملة الجميلة  )سمر سامي) والتي تربطها بزوجها علاقة غرامية. تفاقم الجوع و منع أطفالهم الثلاثة من تناول الطعام حتى يحيط ظلّ بعد الظهر صخرة بعينها.

انتقلت العائلة إلى الجبال، حيث يجد عمّ أم سالم، برهوم عملاً لأبو سالم مع  مُختار القرية البخيل النزق الذي يغسل ثيابه بنفسه. ولكن البحّار تعب بسرعة من العمل في الأرض. أُجبرت الابنة الكبرى للزوجين والتي لازالت في سن المراهقة، على الخدمة  المنزلية في بيت المختار لإعالة أسرتها .  حملت تربية دود القزّ وعود الخلاص، تُظهِر بعض اللقطات فرحة القرويين وهم يُعاملون دودة القزّ برفق على أوراق التوت،  لكن تُغرِق الهند سوق الغزل والنسيج الدولي بمواد أرخص.  تعاظمت ديون الأسرة للمختار، الذي يسيطر على الإمدادات الغذائية ، فيتم إرسال الابنة الأصغر للعمل في منزل أحد آغوات السهول بالقرب من الحدود التركية. انضمت الأسرة لها بعد تسريحهم ابنة العم برهوم البكر من الخدمة لدى المختار.

وتقع القرية في حالة اضطراب، إذ سُرق مستودع الآغا.  يبدو أن لا أحد يعرف أو يهتمّ بوظيفة وسكن أبو سالم الموعودين. تشهد الأسرة مُواجهة بين رجال الزعيم والقرويين . تخطو الشجاعة زنوبا  )المظفرة منى واصف(، التي سُمّيت باسم الملكة المُحارِبة التاريخية في سوريا، ضاحكةً بخطوات واسعة ، متهمة مختار القرية بسرقة الحبوب نيابة عن الآغا. “أنت كلب”، تسخر قائلة “هزّ ذيلك للآغا وسوف يعطيك عَظمَة” يحاول أبو سالم الاقتراب من الآغا ولكنه يُزجر .  يتعرّف عبدو أحد جنود الآغا على ابن عمه أبو سالم ويجد للبحّار وظيفة حِراسة مستودع الآغا . يُعطّى بُندقية ليكسب شبهة جيرانه الجُدد، باستثناء زنوبا التي أصبحت صديقة الأسرة. كانت تأخذ ابن سالم الجائع في رحلات طويلة إلى النسخة المحلية من حساء المطبخ، وتغسل عيون الصبي الصغير الملتهبة بماء البحر.

حاول عبده مهاجمة زنوبا، ولكن أبو سليم قام بحمايتها. وازداد التوتر بين الرجلين أكثر بسبب موقف الجندي من الفلاحين، الذين كما يقول:”لا يخرجون للعمل إلا تحت تهديد البندقية.” استفحل الخلاف بعد اتهام المُزارعين الجائعين بسرقة الطعام من الآغا، ليجد أبناء العمومة أنفسهم على طرفي نقيض من معركة بين القرويين والجنود. تجمّع المزارعون لاقتحام المستودع “لاسترجَاع حقنا” حاول الجنود منعهم وحصل تبادل لإطلاق النار. قَتلَ البحّارُ الغاضب ابنَ عمه . أضرمت زنوبا الضاحكة بجنون النار في مستودع الآغا، وتمّ إطلاق النار عليها من أعلى السطح . ليبلغ أبو سليم الجريح مشارف الفيلم النهائية  وصوت ابنه المذعور يُردّد  “ضاعت الحياة.”

يعزف الفيلم على وتر تحولات الضعف والقوة. على الرغم من كونها شخصية ثانوية، فإن برهوم طويل القامة، القوي، يسعى في حين أن أبو سالم، الذي يُجسد دور البطل الأعلى. أضعفت زنوبا كلا من القرويين والجنود على حدّ سواء بعدوانيتها. يوسع الفيلم المشهد المحلي الحميم للرواية ليغطي موضوعات الهيمنة والقمع. حوّل المالح شخصية مينا  )أبو سالم( الماجن، و مُحبّ النساء السكير، إلى شخصية مُحبَطة ولكن كريمة “بصراحة، لم أكُن أحبّ كونه مُدمِن على الكحول، كان لدى أبو سالم شيئاً نبيلاً وصادقاً ، لقد سعى لحياة كريمة. لم أستطع تجاهل كلّ هذا. لم أحبّ تجربة المؤلف، لذلك قمتُ باختيار ما أحبّ في الناس: قُدرة المشقة والفقر على خلق النبل”.

[هذا المقال هو نسخة مختصرة من “نبيل المالح: فهد سوريا،” في عشر مخرجين عرب، الذي حرره جوزيف غوغلر (بلومينغتون: مطبعة جامعة إنديانا، 2015).]

[ترجمه إلى العربية رفاه برهوم. للنسخة الإنجليزية اضغط/ هنا]

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
من أين أنت في سوريا؟

من أين أنت في سوريا؟

(إذا كنتُ سوريّاً، فما العجبُ أيُّها الغريب؟
نحن نحيا في وطنٍ واحد هو العالم)

ميلاجر، شاعر سوري فينيقي

من أين أنت في سوريا؟

يربكني هذا السؤال، يجرحني في الصميم، ويُخَلْخِل تكويني، يُشعرني أنني ابن القوالب الاجتماعية القديمة، أنني أنتمي إلى ما قبل إنسان الحداثة، إلى ما قبل إنسان الحقوق والقوانين، ينبّهني إلى السجن الذي أعيش فيه، وإلى الجدران التي تخنق فرديتي بهوائها المحبوس الملوّث، ويجعلني ذرة باهته لا مرئية متراصة مع ذرات أخرى، وبالتالي يلغي اختلافي، ويُجرم بحقي. يعرّيني في قفص الحزب الواحد، والمذهب الواحد، والإيديولوجيا الواحدة.

أعشق كلمة سوري حين تكون طبيعية كالهواء الذي نتنفسه، لا يفرضها أحد عبر لعبة التصنيف أو التسمية ذات الطابع الإقصائي أو الإلغائي. وفي خضم المأساة، وفيما السوريون يموتون على الجبهات أو الطرقات أو في المنازل أو في أعالي البحار، أو يعانون في مخيمات اللجوء والمنافي، أو في بيوتهم من الظمأ والجوع والبرد والعتمة والحزن، وفي ظل هذه الحرب المدمرة التي اتخذتْ طابعاً طائفياً، والتي قادت إليها سياسات وجملة ظروف وتدخلات نجحت في تحويل حراك مدني إلى حراك عسكري ثم إلى حرب طائفية دفعت سوريا إلى حافة الهاوية، فقدت كلمة سوري قيمتها وصارت بحاجة إلى تعريف، عرّشتْ عليها الأسماء التصنيفية، وظلتْ، كما كانت، منفصلةً عن مفهوم المواطنة، وعن الحرية والديمقراطية، وعن جملة الحقوق التي تحدِّد الإنسان كإنسان حديث، ظلت كلمة مرتبطةً بانتماءات إلى أحزاب حاكمة أو تطمع بالحكم، مكيّفةً مع ولاءات فئوية مستعادة من القرون الغابرة، في سياق اجتماعي نبدو فيه كما لو أننا ننتمي إلى منظومات متباعدة زمنياً ومتجاورة كالطبقات الجيولوجية )كما عبّر المفكر عبد الله العروي(، والتي ترتبط الآن بمشاريع إقليمية ودولية الهدف منها تدمير سوريا.

كانت البداية ملحمة مدنية ألّفها جيل جديد، مغاير ومختلف، صادر عن قطيعة ثقافية مع النخب والإيديولوجيات السائدة، تظاهر مطالباً بحريته وكرامته ضمن دولة القانون والمواطنة، دولة الحقوق والحريات، لكن فتح النار على المتظاهرين، وركوب المتطرفين والغرب للموجة وعسكرة الانتفاضة، والتدخلات العابرة للحدود وأدوا الحلم في مهده، وقضوا على الجيل المدني الذي فجّر الانتفاضة، كي يخلو المكان لأصوليات شرسة، عثرت على التربة الخصبة الملائمة، وعلى الحاضنة المناسبة في البيئة التي أنشأتها البراميل المتفجرة.

ثمة من يستخدم سوريا كوقود للحفاظ على الكرسي، ويضحّي بها كلها للبقاء عليه، وثمة من يقوم بالعمل نفسه كي يستولي على الكرسي. ثمة من يحتكر سوريا في الخطاب، ويمارس القتل لترويجه، وثمة من يزجّ بسوريا بأكلمها في سجون العقائد، ويمارس الذبح باسمها، والذين يموتون هم أبناء سوريا، والقتل هو واحد سواء تم باسم الوطن أو باسم الجنة، من أجل الثأر أو من أجل العرش.

سوريا تتفكك وتنصهر لا لكي يعُاد سبكها وفق رؤية أو مشروع وطني مدني وديمقراطي، بل كي يهيمن على أشلائها النازفة أمراء الحرب، كي تتحول خريطتها إلى قطع صغيرة في أفواه ذئاب كثيرة. ففي هذه البلاد الممزقة والنازفة والمدمرة، التي شُرِّد أبناؤها، المليئة بالجرحى والأرامل والمبتورين والمعطلين والعاطلين عن العمل، تنتشر فوهات القتل على امتداد الخريطة، ويتبخر الشبان تحت شمس الهجرة، فارين من الجحيم، تائقين إلى المغادرة حتى لو كان ثمنها الموت غرقاً، لأن الحياة ضيقة، منعدمة، لأنهم يُسَاقون إلى حروب خاسرة ويُضحَّى بهم على مذابح العروش.

إن الذين يدّعون الدفاع عن الوطن يعرفون في سريرتهم أنهم لا يدافعون إلا عن السلطة واميتازاتها، ليس عن سلطة تمثلهم، انتخبوها ديمقراطياً، أو عن حقوقهم التي يدوسون عليها فيما هم يُستخدمون كأدوات لقمع من ينادي بها، وبإعلانهم عن استعدادهم لحرق البلد من أجل الكرسي، يرسّخون ثقافة الانتقام، ويحاربون بلا بوصلة، مختارين الانتحار ومضحين بأنفسهم مجاناً على مذبح السلطة. أما الذين يقولون إنهم يقاتلون من أجل الإسلام وباسمه ودفاعاً عن أغلبية الشعب فيدمرون الوطن بعقليتهم الثأرية مرسخين الهويات القاتلة. فهل لغة الثأر لغة الحضارة أم لغة البداوة؟ هل نريد “ثواراً” يقفزون فوق القانون ويرسخون شريعة الغاب، يعبّر عنهم ويسوّغ لهم مثقفون تحريضيون يصفوّن حسابات طائفية؟

سوريا السجينة في قوالب السياسة الإيديولوجية الأحادية والتطرف العسكري، في قوالب التدين النفطي المهادِن والمُشترى، في قوالب التطرف المُعَد في المخابر الأمنية، سوريا التي يتسلّل إليها القتلة عبر الحدود، ويُربى فيها القتلة داخل الحدود، ما الذي حدث فيها ولها؟ وما الذي يمكن فعله من أجلها؟

تتبلبل الأذهان وتعجز الألسنة أمام هول الدمار والقتل والتشريد والنفي والاعتقال.

اقتتال شرس على السلطة، هذا ما تشهده سوريا، والغائب الأكبر هو رؤية واضحة، خريطة طريق نحو وطن يتعانق فيه جميع أبنائه، وطن المواطنة والحرية والكرامة. هل صار هذا حلماً بعيداً؟ لا شك أنه حلم بعيد، ذلك أن سوريا على طريق الهاوية. إنها بحاجة إلى معجزة والمسؤولية جماعية.

ستنفق سوريا سنيناً طويلة في بناء بيوتها ومعالجة جراحها والشفاء من رضوضها وصدماتها، ستستغرق سنيناً طويلة للتحرر من أفكار كثيرة يسوّقها ناطقون بأسماء الجماعات المتناحرة. والآن، يدفع المجتمع السوري ضريبة حلمه المدني، وتطلعه إلى حياة حرة وكريمة، يدفعها على كل مستوياته وفي كل مناطقه، لكن بالرغم من التشرد والنفي والموت والاقتتال والدمار، سيسير السوريون إلى العناق في النهاية فوق الأنقاض، لا لكي يتصالحوا قابلين الأوضاع القائمة، بل ليتصالحوا مجمعين على استمرار سيرورة التغيير في إطار عناق مدني وحراك مدني يخرجان من أنقاض المدن والقرى نحو بناء سوريا للجميع، بعيداً عن المحاصصة الطائفية، والصفقات الإقليمية والدولية، وتسوّل التدخل الخارجي، وتسوّل التدخل العربي، وبعيداً عن كل العصبيات الدينية والإيديولوجية.

هذا هو الحلم، هذا ما يجب أن نصبوا إليه بالرغم من طبقات الألم والقهر المتراكمة، بالرغم من أسوار الكراهية التي تعلو.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
سوريا خارج الإطار: فنانون معاصرون من سوريا

سوريا خارج الإطار: فنانون معاصرون من سوريا

“سوريا خارج الإطار، فنانون معاصرون من سوريا” (2016) ، عنوان جميل لكتاب مهم صدر مؤخراً في إيطاليا (Imago Mundi, Luciano Benetton Collection). يعكس الكتاب جهداً حقيقياً بذله كل من الباحثة الإيطالية المتخصصة بالدراما والفن السوري دوناتيلا ديلاراتا، ومساعدة التنظيم رولا علي ولوشيانو بينيتون المشرف على “Imago Mundi” ولفيف من الأصدقاء والفنانين والباحثين الذين تعاونوا لتحقيق المشروع. العنوان هو أيضاً الاسم الذي أُطلق على المعرض الذي افتتح في 31 آب/أغسطس،2015 في مدينة البندقية بإيطاليا، وذلك في إطار معارض أخرى ل”Imago Mundi” الذي يرعى ويشرف على معارض من كل أنحاء العالم.

وهدف معرض الفن السوري هذا إلى كسر الصورة النمطية السائدة عن سوريا بأنها بلد الصراع الطائفي والحروب الأهلية واختزالها في موضوع اللاجئين والمآسي، متجاوزاً في ذلك الدور الذي يثير الشكوك للإعلام في عصر العولمة. فسوريا، في هذا المعرض، هي بلد الفن على مر العصور، وبلد الثقافات والحضارات المتنوعة والمختلفة، وبلد فنانين من مختلف المناطق يتجاوزون بفنهم وشعرهم وإبداعهم التقسيمات الضيقة واختزال البلد في عقلية القاعدة أو الإيديولوجيا الأحادية التي تنسج قناعاً من خيوط العلمانية والتدين.

وبين دفتي هذا الكتاب الضخم توثيق لعدد كبير من الفنانين والشعراء والمصورين. ويشكل هذا الكتاب ـ الوثيقة الذي يتألف من أكثر من 400، صفحة من القطع الكبير خطوة مهمة في التوثيق للفن السوري وتسليط الضوء عليه، ويحتوي على السير الذاتية للفنانين وصور الأعمال الفنية، ويحتفي بالعمق الثقافي والفني والشعري السوري في وقت يتم فيه تهديد تراث سوريا الحضاري والثقافي ويتعرض للتدمير، سواء بالقصف العشوائي أو بالتدمير المنظم الذي تمارسه تنظيمات دينية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية.

يعكس الكتاب جهداً كبيراً في محاولته إلقاء الضوء على فنانين سوريين من مختلف المشارب والاتجاهات والأجيال والمناطق، وهو بصدوره يؤكد أن العمق الحضاري والثقافي في سوريا هو الذي سينتصر في النهاية مهما طال التدمير والتخريب ومهما استمرت الحرب الحالية والتي دمرتها وحولتها إلى ممالك للوردات الحرب.

صدر الكتاب بالإنكليزية والعربية والإيطالية وقدم له لوشيانو بينيتون، الذي ذكر في مقدمته إن سوريا تقاوم الصراعات الداخلية وشلل الدبلوماسية بقوة الجمال، وبالهيام الحيوي للفن. وسوريا هذه تهدف إلى تجاوز التصوير الإعلامي لها: “الحرب والدراما واللاجئين الذين يضغطون على حدودنا”.

وأضاف أن جمع وعرض 140عملاً فنياً لفنانين سوريين من داخل سوريا ومن المنفى، والتي تعبر بشكل حقيقي عن سوريا اليوم، عَنَيا التغلب على تعقيدات تتعلق بالصراع، وتبدلات مفاجئة في الجبهة (أحياناً في التحالفات بين الأطراف)، ومجازفات وصعوبات بلد يعاني من الوحشية. لكن “Imago Mundi” تمكن من التغلب على هذه التحديات، وجمع مجموعة فريدة، عبر جهود كبيرة بذلها الذين ساهموا في تنظيم المعرض.

قدمت الناقدة الفنية مالو هالاسا أيضاً للكتاب وذكرت في مقدمتها أن رعاية دوناتيلا ديلا راتا للمعرض تجاوزت الحدود التقليدية بين الفن التشكيلي وأشكال أخرى من التعبير الفني. فما هو تجريبي أو شعبي تحدى ووسّع وجامل الأشكال الفنية الأكثر تقليدية. أي أن هناك، بحسب هالاسا، مقاربة توفيقية لا تهدف إلا إلى تأكيد حضور الفن عبر معرض واسع الطيف كهذا.

وتضيف هالاسا: “يعبر المعرض عن الدوافع الأولية للإبداع والتعبير الحر في ثورة بلاد اسمها سوريا. فبعد خمس سنوات من الحرب في سوريا تقريباً، يساعدنا الفن أيضاً في معرفة أين يجد بعض السوريين أنفسهم اليوم. وتلعب أعمالهم الفنية دوراً مهماً كمضاد لإحصائيات اللاجئين والوفيات وتطويع الجهاديين التي اختُزلوا إليها عالمياً هم وبلادهم”.

منظمة المعرض دوناتيلا ديلاراتا قدمت للكتاب أيضاً وذكرت في مقدمتها أن المعرض يفكك الصورة النمطية التي تسوق إعلامياً عن سوريا، وأن اللوحات المائة والأربعين المعروضة تشير إلى ما هو غير مرئي وغير معلن وغير مسموع، وتقترح وسيلة جديدة لطرح أسئلة على قصتنا غير الدقيقة عن سوريا وابتكار القصة الحقيقية من جديد عبر النظر إلى أنفسنا كبشر يتوقون إلى الحياة والجمال.

وأضافت أن “سوريا خارج الإطار” يقدم 140 فناناً سورياً من مجموعة واسعة من الأجيال تمتد من الخمسينات إلى التسعينيات. ومن عدة مدن وقرى سورية ومن خلفيات دينية وعرقية متنوعة. ويضم المعرض رسامين ومصورين ورسامي كاريكاتير وشعراء وخطاطين وفناني مسرح ومخرجين وفناني غرافيتي وصانعي أفلام. وهو يشمل كلاً من الفنانين المعروفين الذين يتم عرض أعمالهم وبيعها عالمياً، وطلاب الفنون الجميلة الواعدين الشباب الذين بدأوا للتو مسارهم الفني.

وقد احتوى الكتاب على لوحات وصور ونصوص لكل من هاني عباس ونضال عبد الكريم ومحمد عبد الله، وهبة العقاد ودينو أحمد علي وفادي الحموي ووضاح السيد وأسامة إسبر ولارا حداد وهالا محمد وكفاح علي ديب وحسين غرير وعلا الأيوبي وريم يسوف ولاوند ظاظا وعليا خاشوق ومحمد ديبو وياسمين فضة وأمير فخر الدين وهبة الأنصاري، ودلير موسى وجون إيف بيزيان ونهاد الترك وهاني موعد ورزان حسان، بالإضافة إلى فنانين آخرين لا يتسع المجال لذكر جميع أسمائهم هنا.

كما وجه معدو الكتاب الشكر إلى رولا علي، مساعدة التنظيم، والتي من دونها ما كان معرض “خارج الإطار” ليرى النور، وللوشيانو بينيتون الذي منح فرصة استضافة المعرض ولمجموعة أصدقاء من مختلف الثقافات ولسوريين بقيت أسماؤهم مجهولة.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
Available Now: The Political Theology of ISIS by Ahmad Dallal

Available Now: The Political Theology of ISIS by Ahmad Dallal

Ahmad Dallal’s The Political Theology of ISIS: Prophets, Messiahs, & “the Extinction of the Grayzone” is now available for purchase on TadweenPublishing.com! Read a description of the book below and place an order today:

Description

The Political Theology of ISIS: Prophets, Messiahs, & “the Extinction of the Grayzone”

More than any other actor on the contemporary Arab political landscape, ISIS represents the most expansive and potent threat to the territoriality of the modern Arab nation states, and it has exceeded the expectations of all observers in its expansiveness and resilience. While it is true that the rise of ISIS was enabled by a confluence of interests, it is now abundantly clear that ISIS has a dynamic project of its own and is not a mere proxy for such interests. ISIS entirely rejects the current order and its beneficiaries, and as such, it claims to carry the revolutionary project to its conclusion. The ISIS alternative to the failed Arab states is not just a normative Islamic cultural identity that guides the actions of the state, but an Islamic State that is itself the embodiment of the imagined new order. By examining the political theology of ISIS, this essay aims to understand the challenge posed by ISIS to the struggle for justice in the contemporary Arab and Muslim World.

Table of Contents

Introduction
The Religiousity of ISIS
Pedigrees of the Political Constructions of ISIS
The Pillars of the ISIS Ideology
The Conflation of Prophetic and Messianic Justice in the ISIS Tradition
Endnotes
About the Author

Praise

Ebrahim Moosa, professor of Islamic Studies, Keough School of Global Affairs, University of Notre Dame: In a nuanced but bitingly critical reading of the ideology and ideologues of the proponents of the Islamic State in Iraq and Syria (ISIS), also known as Daesh, as well as the propaganda of al-Qa’ida, Ahmad Dallal points out the threat these groups pose to Muslim thought and practice in the world today. Dallal points out that the political theology of ISIS is nihilistic: to sacrifice self and other for the sake of a blind justice that justifies unlimited retaliatory cruelty. In many ways ISIS is an extreme throwback of similar mid-twentieth century radical groups who mocked the entire complex history of Muslim thought by turning to hollow slogans such as “sovereignty derives from God.” The ideologues of ISIS are shrewd: they deploy narratives of truth in the service of falsehood-kalimatu ḥaqqin urīda bihā bāṭilun-as a well-known Muslim theological aphorism states. They succeed in hoodwinking the naive and lead astray the earnest Muslims onto a path that Dallal describes “a twisted model of prophetic justice.” In Dallal’s view, with which few can disagree, ISIS and radical groups consist of a cocktail of maladies and poisons dating back decades. They are the harvest of failing and corrupt political orders in Muslim majority societies tied to the merciless politics of globalization and ambitious Western political designs. This is compulsory reading for its incisive, bracing and honest accounting of ISIS and a more than subtle indictment of the reigning theologies of contemporary Islam.

About the Author

Ahmad Dallal has a storied intellectual history between Lebanon and the United States, where he has demonstrated his core interest in research and teaching about the cultural traditions of the Islamic world. Dallal is currently professor of history at the American University of Beirut. Between 2009 and 2015 he served as Provost of the American University of Beirut. Prior to that, between 2003 and 2009, Dallal served as chair of the Department of Arabic and Islamic Studies at Georgetown University. He had previously taught at Stanford University, Yale University, and Smith College. Dallal has written and lectured widely on a variety of topics, including the Islamic disciplines of learning in  medieval and early modern Islamic societies, the development of traditional and exact Islamic sciences, Islamic medieval thought, the early-modern evolution of Islamic revivalism and intellectual movements, Islamic law, and the causes and consequences of 11 September 2001 attacks. Dallal earned his PhD from Columbia University in Islamic studies, and his BE in mechanical engineering from the American University of Beirut. He is the author of An Islamic Response to Greek Astronomy: Kitab Ta‘dil Hay’at al-Aflak of Sadr al-Shari‘a (1995), and Islam, Science and the Challenge of History (2012).

[This article is published jointly in partnership with Jadaliyya.]

كانت الوردة في يدي

كانت الوردة في يدي

صاحبة القبو تشكو دوماً، تكرّر الكلمات نفسها كلما جاءت لقبض الأجرة في نهاية الشهر. لديها أربع شقق تؤجرها، في أربعة أحياء في دمشق. تفترض أن المستأجر مليء، تنبت على رأسه نقود بدل الشَّعر. حين سألتُها عن الدهان الذي يهرُّ من السقف، وعن رائحة رطوبة قديمة في الزوايا كما لو أن النوافذ لم تُفتح منذ عام، وعن الحنفيات التي تسرّب الماء، وعدم وجود لمبات في السوكات المتدلية من السقف، سدّت أذنيها، مدعية الطرش، ثم غيرت الموضوع وتحدثت عن ابنها، استجدتْني من أجل تأمين أي عمل له.

قلتُ لها إن بلاطات الأرضية مخلخلة، وثمة بقايا لفئران وصراصير ميتة فحلفت أنها شطفت القبو البارحة. شعرتُ أن الرائحة قديمة، متوارثة، كما لو أنها جزء من عملية الاستئجار، وقد كافحتها طويلاً بالمنظفات حتى طردتها. حين أسمعها تشكو يخطر لي أن أخرج من جيبي مبلغاً وأحشره في فمها كي تخرس. لم تكن تشبه النساء. حاولت أن أتبين في شكلها عرق أنوثة، ذكرى حسية. لا بد أنها كانت تفعل كل شيء مع زوجها في الظلام. أما ابنها فيخلو من الرجولة، لا أذكر إلا طريقة كلامه التسوّلية، وكان عليَّ أن أدفع إجرة القبو، وأعطيهم من ملابسي وأغراضي.

استأجرتُ القبو وفرشتهُ بأثاث اشتريته بالتقسيط، وبدأت التأقلم مع الحي بصعوبة. كان أول من تواصل معي صاحب بقالية، طرق الباب وقال: “جار، حان موعد الصلاة، هل ستذهب معنا؟” لم أفتح له الباب فرحل بعد أن قرعه بشكل ملح ومزعج. في اليوم نفسه، وبعد أن عدت من العمل وتناولت غدائي المؤلف من بيض مقلي، وقرص شنكليش مع الزيت، وقطعتي مكدوس وبعض حبات الزيتون المرصوص، نادتني صبية. أتى صوتها من الشرفة التي أترك بابها مفتوحاً من أجل تنقية الجو، وهي الفسحة الوحيدة غير المسقوفة لكن الجلوس فيها خطر، بسبب رمي القمامة من الطوابق العليا. كانت أكياس القمامة تتطاير في الحي في كل الاتجاهات، ولم يكن سكان الطوابق العليا يتعبون أنفسهم في النزول إلى الحاوية الوحيدة للحي، والتي تكدست فيها القمامة على ارتفاعات عالية، وتخيلت أحياناً القمامة تعلو وتبز البنايات، وأن أكياس القمامة جبال يعيش الناس في سفوحها. حين خرجت إلى الشرفة لمحتُ رأس فتاة فوق الحائط الفاصل. كانت قد وضعت كرسياً ووقفت عليه كي تتمكن من التحدث معي: “جار، هل عندك قهوة؟”. دخلت وأنا أنظر نحو الأعلى حذراً من سقوط كيس قمامة طائش، ملأت لها كأساً متوسط الحجم بالبن وأعطيته لها. نادت في اليوم التالي أيضاً:” جار، هل عندك رغيف خبز زيادة؟” بدأ الطلب يتكرر كل يوم. لم يلفت صوتها أو وجهها نظري. كان صوتها كغيره من الأصوات ووجهها كغيره من الوجوه، لكنني كنت أمنحها كل ما تطلبه من أشياء، هذه هي العادة المتبعة، غير أنه كان من الصعب أن أفهم إن كانت تريد شيئاً آخر. زوجها خياط، ووالد زوجها خياط، وكل أخوته خياطون. لديهم ورشة في الحي، ويعملون في المنزل أيضا، إذ إن أصوات آلات الخياطة لا تتوقف. والجميع يعيشون في القبو المجاور لقبوي. الأب والأم، الأخوة وزوجاتهم وأولادهم، واختلط الأمر عليَّ كثيراً إذ لم أستطع التمييز بينهم أحياناً. وفي الليل كنت أسمع أصواتاً مكتومة، ثم صوت شخير، ثم صوت تدفق مياه من الصنابير، وكانت المياه تنقطع كثيراً، ويضطر الجميع إلى الاستيقاظ في الليل كي يملأوا الآنية حين يُفرج عن الماء من سجون التقنين الأبدية، ومن أجل هذا اشتريت من البقالية المجاورة بيدونين من البلاستيك، واحداً للاستحمام والآخر للشرب والطبخ والشاي والقهوة . وحين تنقطع الكهرباء أشعل شمعة وأجلس أحياناً صامتاً لفترة طويلة.
كان الحي الذي أسكن فيه بعيداً عن مركز المدينة، سِحْنتهُ رملية صحراوية، والتلال المحيطة به جرداء، يمنحك الغبار، و يشعرك بالانفصال، ورغم أن الطريق يمرّ في مساحة من الخضرة حيث تكثر المطاعم والمتنزهون إلا أن انقطاع الماء والكهرباء اليومي يشعرك بأنك من سكان الصحارى. نعم الصحارى، هذا إذا تخيّلنا الكتل الاسمنتية خياماً، وكل مجموعة من الخيام قبيلة، وفي وسط أرض كل قبيلة بئر ماء. وكان يجب أن أذهب إلى إحدى الكتل كي أملأ البيدونين كل يوم. “بالدور يا جماعة”. “هنا دور النسوان”. “النسوان أول شي”. يأتي دوري، يتدفق الماء،الأعين تراقب الصنبور، ألمح قشاً في المياه المتدفقة، أوساخاً سوداء، ربما يجب أن أغلي الماء لكنني غالباً ما أنسى ذلك. النساء بلا رؤوس وأعني أن شعرهن مغطى، لا أعرف كيف يحدّقْنَ بالصنبور، وأي انعكاس لمنظر الماء وصوته على وجوههن. أضع البيدون الثاني تحت الصنبور، الذي يخف ماؤه قليلاً ثم يتدفق بقوة أكبر. أحمل البيدونين وأعود، أتخيل نفسي من سكان الزمن القديم، لكن في الزمن القديم كان هناك ضفة نهر أو بحيرة، مساحة رحبة للمياه، وليس ماسورة معدنية مستقيمة تُخرج الماء كما لو أنها تطلق عليك النار وأنت في صف، محكوم عليك بالإعدام ظمأ.

في أحد الأيام بعد أن فتحتُ الباب ودخلتُ وضعت البيدونين في المطبخ الضيق. وما أن ملأت الركوة كي أغلي القهوة حتى سمعت صوتاً من فوق الحائط لكن النبرة مختلفة هذه المرة. شيء ما في الصوت شدني. كان صوت فتاة تطلب مني بعض القهوة، غير تلك الفتاة التي طلبت أول مرة. ثمة عذوبة هائلة في صوتها، لم يسبق أن سحرني صوت بهذه الطريقة، فيه بحة غريبة، إيقاعات قادمة من أعماق النشيد، من كثافة جمال الصوت الأنثوي، كما لو أن العذوبة تنتقل عبر الدم إلى الصوت. ملأتُ لها كأساً بالبن وناولته لها. “يسلمو جار”. كان لكلماتها وقع خارق للمألوف جمّل المكان حولي وشحنه بالألفة، خفَّ اغترابي داخل البيت وقويتْ علاقتي به. بعد ساعتين جاء شخص آخر، ربما زوجها أو أخوها، من الصعب معرفة الأمر، وطلب مني بعض السجائر وقال إنه مقطوع. كنت وقتها أدخن الحمراء لأسباب اقتصادية. كنت على وشك أن أقول له: سأعطيك السجائر لكن شرط أن ترسل صاحبة الصوت الجميل كي تطلبها، لكنني تمالكت نفسي. طال غيابها. صرت أسترق السمع علّني أسمع صوتها في الليل، علّ نثرة إيقاعٍ من صوتها تصل إليَّ. أين صوتك؟ كنت أهذي في الليل. خذوني إلى حيث أسمع صوتها.

في أحد الصباحات، سمعت الصوت يناديني: “جار!” الجيم والألف والراء خرجوا من حنجرتها كدواء أنعش وجودي بعد أن كان ميؤوساً منه. أسرعت إلى الشرفة حيث الحائط الملاصق لشرفتهم. نظرت إلى الأعلى. كان في العينين سطوة سحر، دعوة عالم من الدهشة والإغواء. أمعنتْ النظر في وجهي والتفتت إلى الخلف كما لو أنها تتأكد أن لا أحد يراها. “جار، هل يمكن أن أستعير بعض البن؟” تخيلتها تشرب القهوة معي وتبصّر لي، تقرأ مستقبلي في خريطة البن داخل الفنجان. لم يكن قد مضى على سكني في هذا القبو شهران. اعتادوا عليَّ بسرعة. وكرمى لصوتها صرت حريصاً على أن تكون الأشياء متوفرة دائماً. يجب أن يكون كيس البن ممتلئاً على الدوام، والثلج جاهزاً في الثلاجة حين لا تكون الكهرباء مقطوعة. كنت وقتها أتلقى راتباً تافهاً من عملي في محطة إذاعية، أعمل على تصحيح الأخطاء والتخلص من الركاكة وعلى صياغة الأخبار، لكنني لم أشعر أنني أنتمي إلى المكان أبداً. كان كريهاً وكنت دوماً أشعر بضيق نَفَس فيه. وكان قلمي مغمّساً بحبر الكذب ويداي مصبوغتين به. أكاذيب لم أشغل نفسي بتفكيكها كثيراً. كنت بحاجة إلى الراتب التافه الذي بالكاد كان كافياً للدفع لصاحبة القبو التي لا تتوقف عن الشكوى. كنت أعتبر زيارتها في نهاية الشهر كابوساً، لم أكن أطيق كلماتها، ولا طريقة ابنها في التحدث. حين يدخل يعرض خدماته: أستطيع أن أشطف، أن أجلي، أن أغسل وأكوي. جميع أنواع الخدمات، مقابل مبلغ تافه. كانوا يعبدون النقود، ومنفرين، مثل الجمل التي كنت أحاول صياغتها مرغماً كي تتقبلها الآذان المفترضة، الآذان التي تفضل محطات إذاعية أُخرى، أو أَخْرى.

ناولتها القهوة، امتدت أصابعها! يا إلهي! لقد خطفني البياض والرشاقة واللون القرمزي على الأظافر، أي وجود مكتمل مكتنز بالحياة هنا! أية رقّة مكثّفة لا تُضاهى! أية نعومة في ظلمات القبو قربي وأنا أعيش وحيداً، فيما وراء الجدار حديقة أنوثة تتفتح أزهارها وتنصب فخاخ عطرها في طريقي!. حين أمسكتْ بالكأس المليء بالبن والتفّت أصابعها عليه تخيلت ما الذي سيحدث لي لو أن هذه الأصابع مرت على بشرتي، لا شك أنني سأعيش الفردوس بكل نعيمه في لحظات مقطرة تنعش وتحيي في ظل واقع صعب لا يُحتمل. “شكراً جار! عمبنغلّبك معانا”، قالت هذه الكلمات وابتسمت، لا بد أنها شعرت بأنني أتلقى رسائل منها، لكنها بدت حذرة وخائفة ومتحفظة وكنت أشطح في تخيلي. كانت تلفّ شعرها بإشارب. منحني هذا وقتاً جميلاً كي أتخيل لون شعرها، أهو أشقر أم أسود؟ هل يصل إلى أسفل ظهرها؟ هل هو سابل أم مجعد؟ هل هو طويل أم قصير؟ أسئلة لا تنتهي تلهب مخيلتي في الليل، وفي الصباح يقودني الشوق إلى سماع كلمة:”جار!” أجمل كلمة في القاموس الدمشقي! أجمل جيرة في المدن التي تتحدث لغات غامضة غير قابلة للفهم إلا في لحظات إشراق معينة.

في أحد الأيام بقيت صامتاً طيلة الوقت في مكتبي في الإذاعة التي كنت أعمل فيها، مما لفت نظر أحد الموظفين، فبدأ يتهامس مع ضيف لديه من دائرة أخرى. الضيف كان ينظر من البداية إليَّ ويركز على شعري ثم ما لبث أن تحدث:
– أستاذ، أريد أن أسألك سؤالاً لو سمحت.
– تفضّل.
– ما المادة التي تستخدمها لشعرك كي يبقى طويلاً ومنتعشاً هكذا؟
نظرت إليه وضحكت، تخيّلت ماء الصنبور المتّسخ يتدفق على رأسي كي يزيل رغوة لوح صابون الزيت. لم أكن أستخدم الشامبو وقتها. ولم يخطر في بالي أبداً أن يُطرح عليَّ سؤال كهذا، وكان يبدو متجهاً نحو الصلع. ركزت على عملي، ثم غادرت وأنا أطلق ضحكة رنانة. تخيلت وقوفي أمام صنبور الماء في الصيف وصنبور المازوت في الشتاء والأوقات التي تبددت بينهما، كما لو أن أعمارنا تسيل من صنابير الزمن وتُسفَح على الطرقات ويُداس عليها في العبور، كما لو أننا أشباح، أو نسائم عابرة مثقلة بروائح التلوث غير قادرة على أن تبث رسائل بهجة وانتعاش.

عدتُ إلى البيت في السرفيس. كان انتظاره كارثة من نوع آخر، تشعر كما لو أنك حيوان يُحمّل كيفما اتفق، أو ربما صندوق أشياء تالفة أو كيس قمامة. يتدافع الجميع كقطيع، يدوسون على بعضهم ويدخلون حاشرين أنفسهم وعليك أن تكون جزءاً من هذا، ومن أنت كي لا تكون جزءاً من هذا؟ نجحت في دخول ميكرو وهو يسير، أي لم يصفّ بشكل طبيعي ليستقبل الركاب. أحتاج إلى الوصول بسرعة فقد اتخذتُ قراراً، يجب أن أتحدث معها، بعد أن تتفوه بكلمة جار، الكلمة التي تلهبني بإيقاعاتها الخارجة من فم ساحر، من بين شفتين تختزنان تاريخ الوردة الجورية. بعد أن وصلت لم يحدث شيء. لم تأت. لم يطلب أحد منهم شيئاً. خيم الليل، نمتُ واستيقظت. أمضيتُ اليوم التالي كله، وكان يوم جمعة، أي يوم عطلة، منتظراً أن أسمع صوتها يناديني، لكنني لم أسمع، كنت أسمع أصوات تحريك أثاث، أصوات مكانس تعمل على الأرض، فتخيلت أنهم ربما يشطفون المنزل، وربما سيحتاجون إلى بعض الماء أو سائل الجلي، أو أي من سوائل التنظيف، أو قد يقومون باستراحة وتناديني كي تطلب بعض البن كي تعد لهم القهوة، لكنها لم تأت. خيم الليل من جديد، وفي الحلم جاءني صوتها في حديقة من الورود، على درب محاط من جانبيه بالوردة الدمشقية، تجسّد صوتُها في شكلها وحين مددت يدي نحوها اختفت من جديد وبقيت كلمة جار تتردد في الهواء، كما لو أنها تخرج من بين تويجات الورود. وفجأة تصحّر كل شيء، صار الحي الذي أسكن فيه خياماً واتسعت الصحراء، جفت المياه في الصنبور، ووجدت نفسي في خيمتي وحيداً دون حائط يفصل بيني وبينها، أو بيني وبين صوتها. استيقظت فجأة على صوت سيارة مندفعة، كان الفجر قد قارب الطلوع. فتحت كتاباً لكنني لم أستطع التركيز. وضعت شريطاً في المسجلة لكنني انتبهت إلى أن الكهرباء مقطوعة. بحثت عن بطاريات فتبين أنها مستنفذة. اللعنة! ما من مشكلة، الصباح يقترب، وستأتي الجملة الساحرة: “جار! هل لديك قهوة؟”
قرع الباب في الثامنة صباحاً، هل هي يا ترى؟
فتحتُ الباب فإذا بصاحبة البيت ووراءها ابنها، دخلا دون أن أطلب منهما ذلك.
– خير!
– خير إن شاء الله!
– نريد شخصاً مثلك، أكابر!
– ولماذا؟
– كي نؤجره القبو الثاني!
– أي قبو ثان؟
– هذا المجاور لك؟
– لكنه مسكون
– لا لقد تركوا.

أسرعتُ إلى الشرفة مذهولاً. نظرتُ إلى الحائط فرأيت فوقه وردة جورية تويجاتها مدارة نحوي. حملت الوردة ودخلت. خرجتُ من الباب الرئيسي، صعدتُ الدرج إلى الشارع، كانت الشاحنة قد بدأت بالانطلاق، وكانت هي هناك مع النساء الأخريات جالسة بين الأثاث، وفي اللحظة التي انتبهتْ فيها إلى وجودي انعطفت الشاحنة إلى اليمين وغابت عن البصر. عدتُ وأنا أصارع حزني وأروّضه، كما لو أنني قبر من الأحزان المدفونة. كانت الوردة في يدي، كانت تويجاتها تتفتّت في يدي.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]