بواسطة Haitham Hussein | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري هيثم حسين
تسعى السلطات عادة إلى تضييق الهامش المتاح للناس، لكنّ الأدباء لا يفتؤون يجاهدون لتحدّي مسعى تلك السلطات، وتوسيع الهامش ذاك ليغدو ميدانًا رحبًا ينطلقون فيه ومنه إلى عوالمهم، يهندسون فضاءاتهم، يتحرّرون من القيود المفروضة عليهم، يقفون في خطّ مواجهة مباشر مع السلطات القامعة، يكشفون إجرامها بحقّ الإنسان والوطن، يرشّون ملحًا على الجرح كي لا يتمّ إهماله، أو التعامي عنه. وللأسف فإنّ جروح بلدنا كثيرة، دائمة النكء، لا تكاد تلتئم من شدّة العمق والإيذاء، حتّى تنزف مرة أخرى وتخلّف مرارة أشدّ.
تتمثّل محاولات الروائيّين في مواجهة الخراب عبر تصويره بطريقتهم الخاصّة، عساهم بتركيزهم عليه، وتحذيرهم منه، يساهمون بجزء بسيط في تبديده، أو التخفيف من حدّته الكارثيّة. أعتقد أنّ الكتابة حلم ورديّ بطوق نجاة مأمول للروائيّ نفسه قبل قارئه، لأنّ الخراب المعشّش ترسّخ في النفوس، ودمّر ما دمّر منها، ويكون الأمل بانتشال ما ومَن تبقّى من مستنقع الخراب مثيرًا للاهتمام، وربّما باعثًا على الشفقة ومثيرًا للرثاء في بعض الأحيان.
تكتسب الكتابة أهمّيّة في مختلف الأزمنة والأمكنة، هي مهمّة الآن بقدر أهمّيتها أمس وغدًا، فهي الشهادة الحيّة على الجريمة الماضية المستمرّة بحقّ الإنسان والبلاد معًا، هي الإشعار بالحياة في مواجهة جنون الحرب والموت والتعصّب ودعوات الثأر المستعرة. الكتابة كالأمل لابدّ أن تبقى حاضرة في كلّ الأوقات، ولولا ذلك لتركنا المجال للعتمة كي تتسيّد وتمضي بنا من هلاك إلى آخر أكثر إيلامًا وتعتيمًا.
يعيد الروائيّ صياغة الواقع بحسب رؤيته، يستلّ قلمه ويعلن رفضه للجنون المتعاظم، وبرغم أنّ الدعوات الإنسانيّة، والشهادات الروائيّة، تكون الصوت الأخفض وسط ضجيج المدافع وأزيز الرصاص، إلّا أنّها تعيد التذكير بالجانب الإنسانيّ الذي يجب أن يعود للصدارة ويقود البلاد وسط حقول الألغام الطائفية والسياسيّة التي تخلّفها الحرب.
يتبدّى تفوّق الروائيّ على الطاغية في إعلائه من شأن الإنسانيّة، والحرص على التفاصيل كلّها، يدوّنها كأنّه يوثّق تواريخ الجروح النازفة ويحصي أنفاس الشهداء، ينتصر للتاريخ والمستقبل في محنة الواقع وقهره. يسعى إلى ترميم جروح الأرواح، يكتب بإصرار وحرص ليخفّف من الدمار، ويؤكّد أنّ الأدب يبقى بوصلة الإنسان في الملمّات، وأنّ الابتعاد عن القراءة والأدب بداية الانزلاق إلى هاوية الاقتتال والحرب. القرّاء والكتّاب لا يشهرون أسلحة، إنّهم يشهرون الأفكار ويحاربون بها الرايات السوداء التي ترتفع حيث ينتعش الجهل ويتفشّى التجهيل. يشهررون “أسلحة الروح” ويحاربون بها.
الطغاة ليسوا جهلة بالتاريخ، بل هم على عكس ما يشاع عنهم، تراهم يحاولون تحدّي عجلة التاريخ ويقعون في وهم قدرتهم وجبروتهم على تغيير مساره وفق مشيئتهم، كلّ واحد منهم يتخيّل أنّه ليس كغيره، يعميهم التاريخ، يمكر بهم ويلعنهم، ثمّ يأتي الروائيّ ليصوّر عماهم ومكرهم وتعميتهم، ويعيد الاعتبار للأدب والتاريخ أمام جنون العظمة البائس الذي يقود ويعمي ويدمّر لديهم.
ما يحدث في سوريا يتفوّق على أيّ خيال إجراميّ أو قدرة أدبيّة على تخييل الكوارث والفجائع، إنّه مأساة عصر برمّته. لحظة انهيار قيم الديمقراطية ومزاعم حقوق الإنسان، ساعة انكشاف حقيقة الأنظمة المتاجرة بالبشر، خريطة تحرّك العصابات العالمية المتاجرة بالدين والسلاح، وثيقة إدانة للنفاق العالميّ، مجزرة مفتوحة على عدم يدور حول نفسه، لذلك فإنّ تداعيات هذه الحرب لن تتوقّف عند حدّ معيّن، ستظلّ دوائرها تتّسع باطّراد بمرور الأيّام وتقادمها.
وحسب أيّة رواية أن تلتقط مشهدًا صغيرًا من لوحة الأسى التي باتت مسلسلًا عالميًّا دمويًّا مرعبًا لا تنتهي حلقاته. لا شكّ أنّ هذه المأساة ستساهم بإنتاج روايات مميزة مستقبلًا، ستكون لكلّ واحد حكايته المختلفة، لن تكون هناك رواية يمكن تنسيبها إلى منتصرين في هذه الحرب، لأنّ لا منتصرًا فيها، الكلّ مهزوم بطريقة ما. وتبقى أعظم الروايات تلك التي لم ولن يتمكّن أصحابها، من الشهداء والقتلى والراحلين الغارقين، من تدوينها وروايتها.
لا أعتقد أنّ مسعى الرواية يتمثّل في الارتقاء إلى مستوى الإجرام الوحشيّ المدمّر، بل يتجلّى في تفصيل منه بانتشال ما يمكن إنقاذه من إنسانيّة مهدورة في ظلّ الانحدار المريع الحاصل، وما يجري في معمعة قاع ظلاميّ منفر تجتهد الرواية لتبديد ظلمته وظلاميّته بتسليط الأضواء على زوايا منه.
حين كنت في ريف دمشق منتصف 2012، قبل أن أغادر بلدي، كانت المعارك تحتدم بين الليلة والأخرى، بدأت بمناوشات ليليّة، ثمّ تصاعدت إلى اشتباكات دائمة في محيط البلدة؛ شبعا، وحين انتقلت إليها، شهدت لحظات مريعة، ورأيت مشاهد فظيعة، رائحة البارود كانت تزكم الأنوف في الغوطة الشرقيّة، الطائرات تقصف بلداتها، والانتقامات قائمة على قدم وساق، كانت الجثث تبقى في الشوارع لساعات ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، وكان من السهل على كلّ طرف اتّهام الآخر بالخيانة وتبرير قتله.
حاولت توثيق جزء من التجربة، لكنّني وجدت الجرح أعمق من محاولة توثيقه، فانتقلت إلى إجراء دراسة عن (أدب الحرب)، وكتبت كتابي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، حاولت توثيق شهادات روائيّين، في الشرق والغرب، عالجوا وتناولوا وحشية الحرب وكانوا شهودًا عليها أو مشاركين فيها بطريقة ما، ولكن للأسف اكتشفت أنّنا نعيد قراءة التاريخ ولا نستقي منه أيّ عبر، نقرأ عن وحشيّة الحرب لكنّنا نتفوّق عليها بوحشيّة معاصرة. فقدت بعد ذلك عنصر الاستغراب من أيّ فعل إجراميّ فظيع قد أسمع عنه أو أشاهده. أيقنت أنّه في أوقات الشدّة، وحين تجد الموت قريبًا منك، يدور من حولك، تكتشف فداحة الخسارة التي يتعرّض لها الإنسان في حربه الخاسرة ضدّ الحياة، وضدّ الحرب نفسها.
عندما انطلقت شرارة الثورات العربية هناك من استمرأ توصيف عمله أنه استشراف الأحداث، أو قراءة المستقبل، أعتقد أنّ هذا يأتي من باب تلبيس الحدث رؤية رغبويّة بعينها، وتأويل الجاري وفق المتخيّل، وتأطير الصورة الجديدة بإطار قديم. ما حدث ويحدث فاق كلّ التوقّعات، وتجاوز خيال أيّ متشائم. ساهم بعض الروائيّين بإطلاق شهادات الرفض والاحتجاج على واقع البؤس والعنف، وناشدوا التغيير عبر لعن العنف والسجون، لكنّ زعم الاستشراف يفتقر للدقّة.
الكاتب الذي يحتفظ في رأسه بشرطيّ يحصي عليه أفكاره وأنفاسه لن يستطيع التحرّر من سطوة الأوهام وسلطة الشرطيّ المتأصّلة في روحه. الكتابة تحليق في الأعالي وتحطيم لكلّ القيود، فثورة تقتلع أساس الطغيان كلّه ولا تحرّر كاتبًا من مخاوفه لا تليق باسمها، ولا يليق ذاك الكاتب بوصفه كاتبًا. الحرّيّة شرط الإبداع الرئيس، والكاتب المسكون بقلاقل الرقابة ووساوس الاستجوابات عليه أن يكسر قلمه ويمضي إلى أقرب حانة ليسجن نفسه في دهاليزها، ويختبئ فيها هربًا من تحدّيات الواقع ورهانات التاريخ.
هناك مثل يقول “النيّات الحسنة تنتج أدبًا رديئًا”، ذلك أنّ الأدب لا يكتب بنوايا حسنة أو سيّئة، بل يكتب بجودة وأصالة، ولا يكفي أن ينتصر الأديب لقضية عادلة، أو يكتب عنها، حتّى يوصف عمله بالمتجاوز والمميّز والتاريخيّ، بل هناك أعمال ذات سويّة متدنّية تشوّه القضايا العادلة بمقارباتها الممسوخة، وتنقل صورة لا ترتقي لسويّتها، ترتهن للشعارات وتخمّن أنّها قد تضلّل القرّاء بتلك الشعارات. لا يتعلّق الأمر بمن كتب أوّلًا أو لم يكتب بعد، بل يتعلّق بروح الأدب وجوهر الإبداع.
لا يمكن انتظار الحرب حتّى تنتهي، لينكبّ الروائيّون على أعمالهم، ذلك أنّ الحرب أصبحت طقسًا يوميًّا بعد أن كانت بؤرة متفجّرة يُتوقّع خمودها في وقت قريب، فحتّى لو وضعت هذه الحرب أوزارها، ستنشب حروب جانبيّة كثيرة لأتفه الأسباب في مناطق متناثرة على خريطة الوطن، لأنّ اعتياد لغة السلاح يفقد لغة الحوار معناها، ويساهم في تضييعها وإظهار دعاتها سذّجًا في نظر المحاربين القدماء والجدد. تحتاج الحروب عادة إلى عقود كي تلتئم بعض الجراح التي تنتجها، ولا أحد يضمن أنّ تلك العقود قد تمضي بهدوء وسلام، أو تنعم بالأمن والطمأنينة، فتجارب التاريخ في الشرق لا تبشّر بخير في هذا السياق.
ولا يخفى أنّ الكتابة تحت ثقل اللحظة الراهنة تظلّ كمن يقبض على الجمر ويحاول أن يحافظ على توازنه وموضوعيّته، ويكون ذلك من الصعوبة بمكان. قد تنجو أعمال تقارب اللحظة، تتمترس بالتاريخ والممهّدات التي قادت إلى الأحداث الراهنة، لكنّ المشهد ما يزال مفتوحًا على فظائع أكثر، والروائيّ يوقف شريط الزمن ليلتقط زاوية من زوايا الحدث، ويقوم بتظهيره.
للأسف الغيوم السوداء لن تنقشع في وقت قريب، تصوّر إن كانت هناك أطراف ما تزال تحارب من أجل أحقّيّة مَن بالخلافة منذ عشرات القرون، وهناك مقاتلون يؤمنون بتلك الأفكار التي تدسّ في بنادقهم وعتادهم لتبقيها ملقّمة مصوّبة إلى الأخ المستعدَى، كيف يمكن أن تتأمّل منها أن تستدلّ إلى أيّ درب للخلاص في وقت قريب..! سنبقى في متاهة حروب الأحقّيّة والأفضليّة والثأر. وكأنّه مقدّر على الإنسان الحرب، ولا يسعنا في هذه الحالة إلّا القول على الوطن “السلام” إلى إشعار آخر، لم تلح بوارق أمله في الأفق بعد.
*************
هيثم حسين في سطور:
هيثم حسين ناقد وروائيّ ومترجم كردي سوري، من مواليد مدينة عامودا 1978 في محافظة الحسكة، سوريا، ويقيم حاليًا في أدنبرة بالمملكة المتحدة.
أسّس ويدير موقع «الرواية نت»، كما يعمل ككاتب مستقل ومتعاون مع عدد من أبرز الصحف والمواقع والمجلات العربية، وهو متخصص في النقد الروائي إلى جانب القضايا الثقافية الأخرى.
جرّب صاحب “إبرة الرعب”، مرارات الحروب والخذلان والمنفى، لكنه مع كل ذلك يرى أنّ الرواية تقدّم دواء ناجعًا وأجوبة شافية، وقد تعين في تجاوز تلك الآثار السلبية التي تتراكم بفعل المصائب التي تُحيط بنا. يقول في كتابه “الرواية والحياة”: “يطغى اعتقاد بعبثية الرواية أمام الفجائع، أمام تكاثر المآسي وتناثرها، وخصوصًا في بحر الثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، وهنا فإن مرارة المفارقة تكون مضاعفة حين التسليم بتعديم الرواية أو تهميشها تحت زعم أنها لا تستطيع التغيير أو التأثير”.
وفي كتابه النقدي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، يقرع “حسين” طبول الحرب بقلمه وكتابته وتصويره لعوالم الحرب، يقرع الطبول ليوقف القرع الذي يدمي القلوب ويفتّت البشر، يقرع لينذر ويبشّر في الوقت نفسه. وفي فصول الكتاب السته، يحاول السارد أن يقدم بعين الناقد قراءات لعدد من الروايات التي “حفرت” في الحروب، سواء في الشرق أو الغرب، وقدمت شهادات ووثائق عن المراحل التي سعت إلى تأريخها.
أما في روايته “رهان الخطيئة فيعالج “حسين” إشكاليّة الحدود الواقعة بين سوريا وتركيا بأبعادها المختلفة، السياسيّة، الدينيّة، الفكريّة، والإجتماعيّة، عبر شخصيّات متعدّدة، منها مَن يرتهن لتلك الحدود ويتقيّد بها، ومنها من يتجاوزها ويتخطّى كلّ العقبات الموضوعة. ويكون التقسيم الجغرافيّ شرارة تقسيم إجتماعيّ، حيث الأكراد موزّعون على طرفي الحدود، توضع بينهم أسلاك شائكة مكهربة، وتزرع بينهم حقول ألغام أودت بالكثيرين ممّن حاولوا التخطّي من جهة إلى أخرى.
كما تتناول الرواية تأثير التحالفات العالمية والأحداث الكبرى على الأكراد، خاصة حالة أفراد يبدون مهمّشين بعيدين عن الاهتمام، في حين تقع على عاتقهم الآثار الناجمة عنها.
تتّخذ الرواية من بقعة جغرافيّة مُهمَلَة خلفيّة رئيسة تدور فيها الأحداث، وتكون الشخصيّة الرئيسة امرأة عجوزًا، تنتقل بولديها من قرية إلى أخرى لتحميهما من بطش الجهل والتخلّف، وتبعدهما عن قيم الثأر المعمول بها. وهي تتكتّم على قصّتها، قرابة نصف قرن، محاولة التغلّب على الماضي، لكنّها، وهي تحتضر، تبوح لحفيدها الوحيد بقصّة الترحال الذي فرض عليهم.
وفي روايته “إبرة الرعب” يتناول “حسين” عبر الشخصيّة الأساسيّة في العمل (رضوان)، موضع الفساد الذي عمّ مؤسّسات الدولة، وانعكاسه على المجتمع، فيحضر في سرده تفاصيل ومجريات مستوصف الخدمة الإلزاميّة، الذي تدرّب فيها أثناء خدمته، وكيف كانوا يتّجرون، بالأدوات، والمواد، وحتّى أجزاء الجسم، باشتراك الضّابط المسؤول، حتّى عندما عمل لدى المشفى الحكوميّ، والحديث الذي دار بينه وبين طبيب التخدير، وقصص كثير من هذا القبيل، لتشكل بالمحصلة حالة رعب، وهلع للمجتمع من هكذا حالات.
صدر لهيثم حسين من الروايات:
– “آرام سليل الأوجاع المكابرة”، دار الينابيع، طبعة أولى السويد 2006، ط2: دار النهرين، دمشق 2010.
– “رهائن الخطيئة”، دار التكوين، دمشق 2009. وقد صدرت حديثًا، في براغ عاصمة جمهورية التشيك النسخة التشيكية من هذه الرواية، بترجمة الأكاديمية التشيكية يانا برجيسكا، وتقديم الشاعر والكاتب التشيكي ييرجي ديدجيك، رئيس نادي القلم التشيكي. وتم اختيار عنوان مختلف لهذه الترجمة عن العنوان الأصلي للرواية وهو “أين بيتك، خاتونة..؟”.
– “إبرة الرعب”، منشورات ضفاف (بيروت)، الاختلاف (الجزائر) 2013.
ومن أعماله النقدية:
– “الرواية بين التلغيم والتلغيز”، دار نون، طبعة أولى: سوريا 2011.
– “الرواية والحياة”، صدر ككتاب مرفق مع مجلة “الرافد” الإماراتيّة، عدد آذار/ مارس 2013.
– “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، دار ورق، دبي 2014.
– “الشخصيّة الروائيّة.. مسبار الكشف والانطلاق”، دار نون، الإمارات 2015.
وله في الترجمة:
– “مَن يقتل ممو..؟”، (مجموعة مسرحيّات مترجمة عن الكردية)، دار أماردا، بيروت 2007.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Mamduh Azzam | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري ممدوح عزام
لا عمل للكاتب غير أن يكتب، ليس لأن الكتابة تفيض عن الحبر الذي في قلمه، بل لأنها طريق المواجهة الوحيد لديه في هذا العالم الذي يندفع بلا ضابط ولا رادع نحو تدمير نفسه ومن حوله. وبهذا المعنى فإن الكتابة لا تنجي الكاتب، بل تورطه (بالمعنى الإيجابي والتفاعلي). ويمكن أن تكون ورطة الكاتب الروائي السوري، أكبر منها في أي وقت آخر.
أول ورطات الكاتب هي أنه يقف في مواجهة ساحة يصل الدم فيها إلى الركب. وأخذ البشر فيها، أو قسم منهم، ممن كان يعرفهم بالأمس، ويعيش معهم، ويبيع أو يشتري منهم. منهم من هو قريبه، ومنهم من كان حتى الأمس صديقه الحميم، ومنهم من كان جاره الذي يأتي للسهر في بيته، أو يستضيفه، ويحكي له عن إبنه الذي نجح في الصف التاسع. أخذ هؤلاء يمجدون الحرب، أو يرقصون في ظلال الجدران المهدمة، أو يطلقون سعار التصفيات، أو يعملون في تهريب السلاح والوقود والطحين، في لحظة نكوص أخلاقي وفكري ووجداني مريعة.
وعلى الكاتب أن يكتب عن هؤلاء جميعًا، في الوقت الذي قد يكون ثمن الكتابة كلها رصاصة رخيصة يلوح بها أي قاتل مأجور يمكن أن يفلت من العقاب، إذا ما شعر أن الجرائم التي يرتكبها تتحول إلى كتابة روائية تعري أفعاله وأقواله ونهجه كله. وسوف تضاف إلى هذه الورطة الجديدة التي يأخذ فيها المجتمع مهام الرقابة، والملاحقة البوليسية، ميل السلطة إلى إفلات الغرائز، وتجاهل التجاوزات، وتقديم صور لا تنتهي من احتمالات القمع والتصفية، في وقت تتحول فيه أقسام من “معارضة” مسلحة إلى قرين مواز لهذا، يقلد ما يعترض عليه.
وثاني ورطات الكاتب هي في مواجهة القراء. فالجميع ينتظرون كلمة الروائي في مواجهة الحرب والثورة والطائفية والقتل والتهجير والتدمير. والمرجح أن الانتظار يضع الروائي أمام مسؤوليته الأخلاقية والفكرية والسياسية، والأهم من ذلك مسؤوليته الفنية. وقد يحدث التناقض والإفتراق هنا. فالمطلوب من الكاتب، هو أمر مختلف عن المأمول من الكتابة. تختلف هموم الكاتب عن هموم القارئ، حيث يكون عليه، أي على الكاتب، أن ينجز عملًا فنيًا، لا نسخة مرجعية، أو وثائقية، أو تسجيلية. ويكون عليه أن يسخر أدوات الكتابة الروائية، وعلى رأسها المخيلة كي ينجز نصًا لا يعيد إنتاج الواقع، كما هو، ولا يخون التضحيات العظيمة لبني البشر.
وثالث ورطة هي أن يكون قادرًا على اجتياز اللحظة التاريخية الراهنة. وهذا في واقع الأمر سؤال عصي. فتاريخ الأدب يشير إلى المصاعب التي تواجه الكتاب الروائية تجاه الراهن واليومي. أو يشير إلى زمن الحرب، والتبدلات الكبرى، واللحظات التي تقطع مع التطور الخطي في التاريخ. ولكن هذا يفترض شكلًا محددًا لهذا الاستجابات. وهو شكل غامض على أي حال، وغير معروف. والجهة الوحيدة التي تؤيد القول أن الرواية تحتاج لوقت آخر، يعقب صمت المدافع، ترسل الأسئلة أكثر مما تقدم الوقائع. دون أن يكون لدى الروائي، الأدلة الكافية التي يثبت بها خطأ، أو صحة السؤال. ومع ذلك فإن بوسعي القول إن هذا الكلام يمكن أن تقبله الرواية التي تحكي عن التاريخ، ولكن الرواية اعتادت أن تكون قرينًا للواقع الذي تحيا في جدران زمنه.. ومع ذلك فإن “صمت البحر” لفيركور، التي لم تتضمن أي طلقة، أو معركة، أو وثائق للوقائع. قد كتبت في خضم الحرب العالمية الثانية، وطبعت في زمن الحرب، ووزعت، وقرئت في الزمن ذاته. ومع ذلك فإن الجواب غير نهائي. وطاقات الفن والإبداع شاسعة. وثمة احتمالات لا حصر لها، وأشكال رواية لا تعد، قادرة على أن تكون تمثيلًا روائيًا، أي فنيًا، للراهن الذي تشهده سورية. سواء تعلق الأمر بالحروب التي تتوالى، أو مفهوم الثورة، أو الهجرات المليونية، أو التهجير المدمر، أو التدخلات الخارجية، ومواقف الدول، أو مصائر الأفراد والجماعات التي تعرضت للاقتلاع.
وبوجه عام فإن الإقرار بنهائية نتائج هذا الميل الذي يزعم عجز الرواية عن تمثيل الراهن، قد يعرض الروائي لدفعة من الإحباط، أو يضعه في مسائل إشكالية مع الأسئلة التي تتناول قضايا الرواية والواقع الاجتماعي. أو هو يعلن أن الرواية إما أن تكون عن الماضي أو لا تكون. ولهذا فإن من الصعب أن يتمكن أحد من التكهن، أو من وضع الشروط المسبقة لما ستكون عليه الرواية الجيدة التي تتناول الحاضر. وفي كل الأحوال فإن عدد الروايات السورية المنشورة حتى الآن عن موضوع الثورة، ما يزال محدودًا، ولا علم لنا بما يخبئه الروائيون في أدراجهم، من المنجز، أو ما يسعون إلى إنجازه. لهذا تبدو بعض الأسئلة وكأنها تحاول استباق الكتابة، أو تحديها، أو قوننة الموضوعات. وذلك حين تتحدث عما لم يكتب بعد، أو عن السري، الخاص، الذي لم يعلن الكتاب الروائيون عنه. ومن الصعب على الروائي أن يصرح بهواجسه. يعرف هذا كل من كتب الرواية، وعلم أن جودتها، وكمالها، يكمنان في الصمت، أو المكتوب المخبأ الذي لا يعلن عنه الكاتب أثناء العمل. لهذا أميل إلى القول أن من غير المجدي استنطاق الروائي حول النص القادم. إذ يخيل لي أن شهادته سوف تكون نوعًا من المراوغة، ومحاولة إبعاد الشبهات عن نفسه، أو قول كلمات نظرية، تأتي روايته فيما بعد كي لا تتطابق معها.
*************
ممدوح عزام في سطور:
ولد القاص والروائي السوري ممدوح عزام في السويداء (جنوب سوريا) عام 1950.
عاش طفولته متنقلًا بين العديد من المناطق والبلدات السورية، بسبب طبيعة عمل والده بالدرك الخيالة آنذاك. اشتغل في التعليم مدرسًا في مدينته السويداء.
كتب/ ويكتب مقالات أدبية في عدد من الصحف العربية.
بدأ بالكتابة مبكرًا أي منذ مرحلة الشباب، وفي العام 1985 صدرت أول مجموعة قصصية له بعنوان” نحو الماء”، عن وزارة الثقافة السورية. وقي عام 2000 صدرت المجموعة الثانية بعنوان “الشراع”، عن وزارة الثقافة أيضًا.
امتاز “عزام” بسلاسة كتاباته وتشويقها وبأسلوبه الروائي الساحر، وهو يعد من الروائيين المؤرخين للعصر الحديث في سورية بكتاباته الأدبية، وقد رافقت رواياته الكثير من الجدل و النقاش، وكان أن تعرض في العام 2000 لمحنة كبيرة، حيث أصدرت الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها في شهر حزيران/ يونيو من ذلك العام، بيانًا طالبت فيه بـ”إهدار دمه بحجة أن روايته (قصر المطر) أساءت إلى المجتمع الدرزي وأخلاقه، وشوهت عاداته وتقاليده ومقدساته وأبطاله الأسطوريين”. وطالب البيان الذي وقعه –حينها- مشايخ طائفة عقل الدرزية الحكومة السورية بمنع تداول روايته وسحبها من الأسواق”، علمًا بأن الرواية كانت قد صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1998.
وقد تجاهل الإعلام السوري ذلك البيان وردود الأفعال الأخرى، مثل “بيان المثقفين للتضامن مع الكاتب”. كما تجاهل اتحاد الكتاب العرب بدمشق الحدث، ولم يتضامن مع الكاتب بل دعاه إلى طلب الغفران والتراجع عما فعل ومصالحة شيوخ طائفته !.
في العام 2016، وقد دخلت الثورة السورية عامها السادس، يقول “عزام”: “كيف سأكتب روايتي حول ما يجري وقد فاضت الأرض السورية بالحكايات؟ الحكايات هنا يومية، تداهم الكاتب وتسحب منه القدرة على المتابعة، ولكن لا مفر من أن يسمع ويرى. فالعالم هنا يعاد تشكيله ورسمه وابتكاره وتدميره وإحراقه أمام عيني الروائي. الأرض تتغير، والقوى تبدل مواقعها، والناس الذين نعرفهم ما عادوا هم الناس الذين نعرفهم. تهدمت الصداقات وعلاقات القرابة والمواقف السياسية. نحن الآن أمام مشهد قيامي بامتياز، ولن تكون سوريا في الغد ما كانت عليه بالأمس، ولا على ما هي عليه اليوم، فأين يجد الروائي مشروعه إذن؟ هذا هو السؤال الذي أحاول الإجابة عنه فنيًا”.
كتب “عزام” حتى يومنا هذا خمس روايات، وبحسب النقاد، فإن قارئه يعرف أن فكرة الثورة، أو أحلام التغيير، حاضرة بقوة في كل أعماله. فنحن نراها في الثورة السورية الكبرى داخل “قصر المطر” روايته الأبرز، ونراها في انكسار أحلام كريم الزهر وعموم أهالي “السماقيات” و”السويداء” داخل “أرض الكلام”، وفي تمرد “عصابة الكف الأسود” داخل “نساء الخيال” آخر رواياته الصادرة في العام 2011.
ويؤكد “عزام” في حوار معه، أنه “إذا كان فكر الثورة حاضرًا في أعمالي، فإن الحقيقة الأكيدة هي أنني لم أتنبأ بها، لم أتوقع حدوث ما حدث. ولهذا فإنه لما يُشرّف المرء، وهو الروائي هنا، أن يكون قد استطاع تسجيل تلك اللحظات المضيئة في الجسد العربي، في حين كانت قيم اليأس واللامبالاة تسبغ حضورها على الحياة اليومية العربية”.
صدر له من الروايات:
1- “معراج الموت”، دار الأهالي، طبعة أولى: دمشق 1989. وقد طبع من هذه الرواية خمس طبعات في السنوات التالية في دور نشر مختلفة داخل سورية وخارجها، كان آخرها في العام 2013. كما ترجمت إلى اللغة الألمانية، وصدرت عن دار لينوس “lenos” في سويسرا، وترجمت كذلك إلى الأنكليزية وصدرت عن دار “hauspublishin” في لندن.
2- “قصر المطر”، وزارة الثقافة السورية، طبعة أولى: دمشق 1998. ط 2: المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، ودار البلد، دمشق 2003. ط 3 دار أطلس، بيروت/ دمشق 2012.
3- “جهات الجنوب”، دار ورد، دمشق2000.
4- “أرض الكلام”، دار المدى، دمشق/ بيروت 2005.
5- “نساء الخيال”، دار أطلس، بيروت/ دمشق 2011.
كما كتب ممدوح عزام سيناريو فيلم “اللجاة” بالإشتراك مع مخرج الفيلم الراحل رياض شياـ وهو مأخوذ عن روايته “معراج الموت”، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما (القطاع العام)، دمشق 1996.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Fawwaz Haddad | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري فواز حداد
المؤسف أن الأدب بشكل عام، لا يغير من موازين القوى على الأرض، ولا يشكل مركز ثقل في الثورة والحرب، ومن نافل القول أنه بلا جدوى، مع أن الأدب سلاح، لكنه غير قاتل. من هذا الجانب، يتبين لنا ما فعلته الرواية مثلًا لهذه الثورة التي قدمت مئات آلاف الشهداء، أو لهذه الحرب التي أصبحت لغزًا قاتلًا بتحولاتها الدموية، واختزنت في داخلها حروبًا أهلية ومذهبية وطائفية وأقليمية، وتجاذبات دولية.. واسقطت ما قامت الثورة لأجله، حتى تبدو وكأنها عودة الى الأيديولوجيات التي كان من شعاراتها؛ الحرية والعدالة، فالحرية أدت الى المعتقلات، والعدالة إلى الظلم.
مع أنه كان في التظاهرات والاحتجاجات إعادة اعتبار لهذه الشعارات، وأيضًا لشعب واحد وسورية موحدة، تلك التي غيبت في السجون، وكانت مفتقدة طوال أربعين عامًا، جرت استعادتها كهتافات مضادة للطغيان. أجاب عنها القناصة، والبراميل المتفجرة والسواطير، والأعلام السوداء وقاطعو الرؤوس والميليشيات المذهبية… هذا المشهد يتكرر يوميًا بشكل أو بآخر دونما انقطاع على مدار خمس سنوات، يستعصي على كاتب تجنبه، ولو كان بأمان منه، ونجاته كانت محض مصادفة، كاد أن يكون قتيلًا، أو ميتًا تحت التعذيب، جريحًا أو معوقًا، سجينًا أو محاصرًا معرضًا للجوع أو الركوع. الخيارات القسرية متعددة، ونهاياتها محددة بالموت.
الأدب قاصر لأنه يؤثر في العقول والقلوب، وما تأثيره فينا إلا في رفع قدرتنا على التعامل مع الحياة، والدفع إلى تغييرها بجهد إنساني، واكتشاف منابع السعادة والفرح. وهي نظرة متفائلة إلا أن الواقع ضنين بها، لكن الإنسان يتغلب عليها. الأدب فظ أيضًا، لا يخفي جوانب الحياة السيئة والأسوأ، مهما كانت واقعيته طبيعية أو سحرية، أو لها علاقة بالأحلام، ما دام بمقدور الطغيان تحويلها إلى كوابيس. الأدب لصيق بالبشر وبالحرية، ثمة علاقة حميمة تربطه مع الكثير من التساؤلات التي تمسنا، وماذا تكون إلا عن حياة بلا حرية، وعيش بلا كرامة.
الكتابة أشد ما تكون ضرورتها للكاتب، فهي تعبير عن موقف، احتجاج على القمع، الدفاع عن القيم الانسانية… وفي هذا لا يعبر عن نفسه فقط، بل يعبر عن شريحة كبيرة، اضطرهم الاستبداد إلى الصمت، ومعهم جحافل من البشر المغيبين، والمحاصرين تحت وطأة الجوع والموت.
في أزمنة الثورة والحرب، تتولى الكوارث صناعة الأدب، وربما في الكتابة في آتون الحرب حرارة قد تفتقد فيما بعد، ففي جانب منها تكتب التاريخ كشاهد عيان، فالأحداث طازجة، عدا حيويتها المريرة والفاعلة كتسجيل مضاد لحاضر يزور الآن، كما نشهده في وسائل التواصل والإعلام التي تنشر الحقائق مع أكوام من الأكاذيب، فظاهرة إنكار البراميل المتفجرة وقصف المدنيين والمستشفيات والأفران تسهم في التعمية عليها دول كبرى، رغم أن الحرب اليومية تؤكدها بالصور الحية، وما إنكارها من المجتمع الدولي إلا ليغطي عجزه عن منعها. ومهما كان ما يكتب الآن، فالحكم على مقدار جودته، يستحسن تركه الى ما بعد، الأفضل أن نبحث عن مقدار الحقيقة التي يحملها، والجيد منها لن يعوزه الفن. أما إدعاء النقد المشبوه أنها بلا قيمة فكذبة كبرى، فالصحافيون والمتشبهون بالنقاد، يتعاملون مع الكتابة حسب انحيازاتهم، لذلك لن نعدم قراءات طائفية من الموالين للأنظمة سرًا أو جهرًا، وفي أفضل الأحوال قراءة سياسية تأخذ جانب ما يدعى محور الممانعة والمقاومة الذين يتعيشون في دعاواهم على خلط أوراق الثورة بالإرهاب.. وعلى رأسهم مثقفون يتسترون بالعلمانية، فلا عجب أن يقرأ النقد المحابي للنظام الرواية بعين إرهابية، لإنكار ما يجري على الأرض.
لم يمتد العمر بالروايات الكبرى إلا لأنها تواطأت مع الحقيقة، وكانت المرآة لمسيرة الإنسانية الظافرة والمؤلمة… التي لا تنفصل عن واقع معاند وقاس، فكانت الاختبار الصعب للبشر. وإذا كانت الرواية عاجزة عن تغيير الواقع، فلأنها لا تملك وسائل الإجبار، وهذا من حسن حظها، لكنها تمنح القدرة على التأثير في البشر من خلال إعادة النظر الى كل ما ألفناه واعتدنا عليه، والتجرؤ عليه، ورؤية تعدد أساليب تغييره، بحيث يصبح نضال الإنسان ما هو إلا العمل المتواصل على إزالة أقانيم الطغيان والاستبداد والخرافة والأفكار الثابتة، وما الروايات التي تكتب إلا انعكاسًا وتكريمًا لهذا الجهد الانساني.
منحتنا الثورة فاصلًا من الحرية على الرغم من هذا الخراب الشامل الذي امتد إلى دواخلنا، ولا شك أن لاشيء يشجع على الشعور بالحرية، لكن لابد من الإحساس بها، والتعبير عما اختزناه من قهر وقمع وتشويه، وإذا كنا غير متفائلين، فلأننا ربما كنا على أهبة دخول عصر طغيان آخر، هذا ما يبشرنا به الروس والأمريكان وداعش والقاعدة.
*************
فوّاز حدّاد في سطور:
فوّاز حدّاد كاتب سوري من مواليد دمشق 1947.
حصل على إجازة في الحقوق من الجامعة السورية 1970. وتنقل بين عدة أعمال تجارية، امتدت سنوات طويلة.
كتب ويكتب المقالة الصحفية والقصة القصيرة والمسرح والرواية، دون أي محاولة للنشر قبل مطلع تسعينات القرن الماضي.
شارك قبل الثورة السورية كمحكم في “مسابقة حنا مينة للرواية” التي تشرف عليها وزارة الثقافة، و”مسابقة المزرعة للرواية” في السويداء. كذلك ساهم في الإعداد لموسوعة “رواية اسمها سورية”.
في العام 1991 أصدر “حدّاد” روايته الأولى “موزاييك – دمشق 39″، والتي أعادت “دار رياض الريّس” في بيروت نشرها مؤخرًا إلى جانب روايته “تياترو 1949″، ويستمد الإصداران –بحسب الناشر- راهنيتهما في أن الرواية الأولى تتحدث عن المخاض الذي عاشته سوريا ودمشق خاصةً زمن الانتداب الفرنسي في سوريا وكيف كانت تلك السنة الحاسمة وما فعلته دمشق مع الفرنسيين وعلاقة السكان مع بعض ومع الاجانب في المدينة وعن الحياة الاجتماعية وقتها والعادات والتقاليد التي كانت سائدة تحديدًا في 1939، حيث يدخل “حدّاد” شوارع دمشق وحاراتها ناقلًا تفاصيل انطباعات الناس وحتى الوزارات، والدوائر الحكومية، ورئاسة الحكومة، ويرصد التطورات السياسية التي جرت في تلك الايام ووقعها على الناس في دمشق.
أما “تياترو 1949” فيعود فيها السارد إلى أواخر أربعينيات القرن العشرين، وبالتحديد إلى الفترة الممتدة ما بين عامي 1948 و1950 لا ليرصد الصراع على السلطة، الذي وجد تعبيراته في الانقلابات العسكرية فحسب، بل ليصوّر ما تركته تلك الانقلابات من آثار سلبيّة على مجمل الحراك الإجتماعي وفعالياته وآفاقه السياسية والفكرية والإبداعية في سوريا، ليحضر التاريخ لا بوصفه بنية فوقية وغاية للخطاب الروائي، بقدر ما يحضر عبر علاقته العضوية بالقاع الاجتماعي وتحوّلاته المعلنة والمُضمرة.
ويعد فوّاز حدّاد صاحب تجربة سردية مميزة لاقت صدى كبيرًا لدى القراء والنقاد، لتصل روايته “المترجم الخائن” إلى القائمة القصيرة لبوكر العربية 2009، وتجد روايته “جنود الله” طريقها إلى الترجمة بالألمانية وتصدر تحت عنوان “سماء الله الدامية”. فيما رُشح للقائمة القصيرة لجائزة “فريدريش روكرت” الألمانية العام 2013 مع ثلاثة كتّاب سوريين آخرين هم سمر يزك وروزا ياسين حسن ونهاد سيريس، الذي حاز الجائزة.
ومنذ باكورة أعماله الروائية اختار صاحب “خطوط النار”، الحفر في التاريخ السياسي لسوريا، وجعله مجرد خلفية للمشهد الاجتماعي، راصدًا مشاهد من المعيش السوري ذات محامل سياسية وإجتماعية وثقافية، مسائلًا إياها أسئلة لا تكتفي بالظاهر من أحوالها وإنما تغوص إلى حقيقة أعماقها. ولعل هذا ما دفع صديقه الناقد والروائي السوري نبيل سليمان إلى القول: إن “روايات فوّاز حدّاد هي غالبًا من «العيار الثقيل»”.
يقول “حدّاد”: “ما أنا على يقين منه، أننا نحن أيضًا لدينا حياتنا وما يعصف ببلداننا، التخلف المستحكم، رياح الأصولية، والربيع الذي جاء متأخرًا، ثم انقلب إلى فصل متقلب، وفي غزو العراق شاهد قوي، وحاليًا هذه الاضطرابات التي لا تستقر على حال.
المنطقة العربية من أكثر المناطق عرضة للمؤثرات الداخلية والخارجية، وما ينجم عنها من متغيرات هزيلة، إن لم يكن تراجعات وطنية وقومية وإنسانية، تعقبها فترات ركود، هذا ما ندعوه بفترات سلام، لا تخلو من القمع والمصادرة. لذلك لا بد أن تنعكس هذه الأحوال على الرواية، وأية رواية غير بريئة منها، حتى بمحاولات تجنبها، ونادرًا ما يفلت الروائي منها، ما دام يعيشها”.
وتعالج رواية “المترجم الخائن” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، مسألة ثقافة السلطة وسلطة الثقافة وما ينجم عنها من إفساد للضمائر وترويج للغث وكسب للولاءات، بعد زمن من الصمت واعتماد الترميز والمواربة، وقد باشرت بمعنى ما في ذهابها إلى الهدف تمامًا.
وتعتبر روايته “السوريون الأعداء” الرواية السورية الأولى التي ترصد، في شكل بانورامي، حقبة سورية مديدة، تمتد بين لحظتين تاريخيتين فاصلتين في التاريخ السوري المعاصر “تحتلان مكانًا رمزيًا عاليًا في المظلومية السورية”.
أعماله الروائية الصادرة:
– “موازييك دمشق 39″، دار الأهالي، طبعة أولى: دمشق 1991.
– “تياترو 1949″، إصدار خاص، طبعة أولى: دمشق 1994.
– “صورة الروائي”، دار عطية، دمشق 1998.
– “الولد الجاهل”، دار الكنوز الأدبية، دمشق 2000.
– “الضغينة والهوى”، دار كنعان، دمشق 2001.
– “مرسال الغرام”، دار رياض الريّس، بيروت 2004.
– ” مشهد عابر”، دار رياض الريّس، بيروت 2007.
– “المترجم الخائن”، دار رياض الريّس، بيروت 2008.
– “عزف منفرد على البيانو”، دار رياض الريّس، بيروت 2009.
– “جنود الله”، دار رياض الريّس، بيروت 2010.
– “خطوط النار”، دار رياض الريّس، بيروت 2011.
– “السوريون الأعداء”، دار رياض الريّس، بيروت 2014.
صدرت معظم أعمال فوّاز حدّاد في أكثر من طبعة في دمشق وبيروت. وله مجموعة قصص قصيرة تحت عنوان “الرسالة الأخيرة”، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1994.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 11, 2017 | Culture, News
“الوطن ليس أشخاصاً فالأشخاص عابرون زائلون
والأوطان باقية .. منتخب الوطن يلعب بإسم البلد وللبلد
بكل فئاتها وأطيافها ومن حق السوريين الفرح.”
من صفحة مشجعي النجم ولاعب كرة القدم السوري عمر السومة الرسمية
”مملكة الوفاء البشري هذه التي تُمارس في الهواء الطلق“، هكذا وصف أنطونيو غرامشي لعبة كرة القدم، كما يذكر إدواردو غاليانو في كتابه ”كرة القدم بين الشمس والظل“، الذي يضيف أن المثقفين اليمينيين واليساريين كانوا يحتقرون هذه اللعبة، فاليمينيون كانوا يعتبرونها لعبة غوغائية مستندة إلى غريزة القطيع فيما اعتبرها اليساريون تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري، غير أن الجدل الذي يحيط بإنجازات الفريق السوري لكرة القدم في وقت تعيش فيه سوريا أكبر مآسي القرن، يوحي بما هو أعمق من ذلك وهو أنه كما يتعلق الغريق بقشة تعلّق السوريون بفريقهم الرياضي لكرة القدم في إطار التصفيات القائمة من أجل المشاركة في كأس العالم، وحدثت تغييرات مفاجئة في تركيبة الفريق أربكت طرفيْ المعادلة في الساحة السورية، فما هو غير متوقع حدث، وعاد لاعبون لم يكن أحد يتصور أنهم سيغلّبون فن الجماهير الرياضي على الانقسام السياسي والطائفي الحاد، مما يوحي بأن هناك في الجو فرصة لبناء فضاء مشترك، بأن هناك شيئاً متوفراً يجب أن يتمسك به السوريون كالهواء الذي يتنفسونه للخروج من نفق الحرب.
لم تحقق الفرق السورية لكرة القدم في الماضي انتصارات عالمية يشهد لها كفرق أمريكا اللاتينية التي أذهلت العالم، ولم يولد لدينا نجوم سُلطت عليهم الأضواء كبيليه وهرنان كريسبو ودييغو مارادونا وروماريو وألان شيرر وغيرهم من أساطير كرة القدم القديمة والحديثة، لكن الإجماع الجماهيري المذهل على إنجازات الفريق السوري في مبارياته مع قطر ومع إيران وعودة لاعبين معارضين إلى الفريق، وعودة الجمهور الرياضي إلى تشجيع فريق البلد في تجاوز للطائفية وللانقسامات الحادة، يؤكدون أن الفضاء السوري رحب وأن السوريين متمسكون بالأرض السورية الواحدة وبدولة الحلم الواحدة والتي تحتاج إلى ما يجب أن يجمعوا عليه، وهل هناك أفضل من دولة القانون، الدولة المدنية بتعدد أحزابها وجرائدها وتياراتها الفكرية والسياسية وتعدد فرقها وأنديتها الرياضية، الدولة التي تسودها الانتخابات الحرة، وتتحرر فيها المرأة وتصبح مستقلة في حياتها، وتتحقق فيها شخصية المفكر وشخصية السياسي وشخصية الرياضي وشخصية الإنسان الذي ينتمي إلى الإنسانية وليس إلى الأديان والأحزاب والعشائر والطوائف ولا يعاني من مرض الرهاب الأمني.
تُعد الرياضة في عصرنا الحديث ديناً قائماً بذاته وتمارس طقوس العبادة عبر الإدمان الهائل لمشاهدة الألعاب المهمة ومتابعتها، بل أن هناك رياضيين حققوا جماهيرية لا يحلم بها لا السياسيون ولا غيرهم، وحين تذكر اسم لاعب من أساطير كرة القدم، ستجد أن جماهيريته وثروته تحققان حضوراً قياسياً في عالمنا المعاصر، وكيف لا، خاصة أن الجماهير في هذا العصر الحديث تبحث عما يمتعها ويسليها، ويخرجها من روتين ساعات عملها وملل حياتها، ذلك أن الرياضة فن، وفيها إبداع يعادل الإبداع الفني أحياناً ولو كان مختلفاً عنه، ذلك أن مهارة اللاعب وذكاءه ومناورته وسرعة بديهته وسرعة حركاته وقدرته على الإدهاش كلها عناصر فنية في اللوحة المشهدية التي تصل إلى أوجها لدى تحقيق هدف على نحو مفاجئ، كما أن بعض الفرق تتحرك متناغمة كما الألوان في لوحة كي تقدم لنا زبدة مشهدية تتجسد في الركلة الأخيرة التي تحقق الهدف.
أما في الساحة السورية فالوضع مختلف الآن، ذلك أن البلد لم يخرج بعد من الحرب الطاحنة المدمرة، ولم يشف الشعب السوري من جراح الدمار والقتل والسجن واللجوء، لكن رغم التفكك الذي طرأ على المشهدالسوري، والانقسام الطائفي الحاد، الذي يهدد البلد، رأينا السوريين يخرجون من انقساماتهم ويتحلقون أمام الشاشات أو في الملعب متابعين لإنجازات فريقهم، الذي لا ينتمي لهذا الحزب أو ذاك، أو لهذه الطائفة أو تلك، بل هو فريق كل السوريين، الذين انسحروا بلوحته المشهدية اللعبية التي حققت انتصارات مفاجئة في الطريق الصعبة إلى المشاركة بنهائيات كأس العالم ألهبت قلوبهم.
وكما خرج السوريون كي يحتفوا بفريقهم ويشجعوه في مسيرته الصعبة بوسعنا القول إنهم بحاجة إلى فريق لكرة السياسة يجمعون عليه، كما يجمعون في الرياضة على فريقهم، لكن الفريق السياسي الذي يجب أن يجمع عليه السوريون، يجب أن يخرج من أنقاض الحرب بفنية أعلى وذكاء أكبر، ورؤية أشمل لبناء سوريا، ويجب أن يكون أعضاء الفريق من كل المناطق والطوائف والتيارات السورية التي يهمها بناء سوريا الدولة المدنية التي يحكمها القانون، دولة الحريات وحقوق الإنسان، دولة الصحف الحرة والأحزاب الحرة، دولة الانتخابات الحرة، الدولة الحلم، ولم لا، فالسوريون شعب مثقف ذكي، يمتلك خبرات يُشهد لها عالمياً، وكما يتعلم المرء من التجربة ودروس الحياة وعِبَرِها، لا بد أن السوريين، جميعاً، وفي مختلف مواقعهم، سواء في الرياضة أو في الحياة المدنية أو العسكرية أو في المخيمات أو في بلدان اللجوء، لا بد أنهم تعلموا من دروس هذه الحرب المدمرة، ضرورة بناء المستقبل، ووضع أسس متينة وصحيحة له، كي لا تتكرر المأساة من جديد، ويعتم المستقبل في وجه الأجيال السورية الجديدة.
وإذا كان السوريون قد خرجوا لتشجيع فريقهم الرياضي واضعين خلفهم كل العصبيات والخلافات فأنا واثق أنهم سيخرجون وراء فريق سياسي يؤمن بأن الحكم يجب أن يكون في خدمة الإنسان وليس العكس.
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 6, 2017 | Culture
قصة قصيرة
عربات الخضار في مكانها المألوف. بندورة، بقدونس، نعنع، بامية ديرية، ملوخية، بطاطا، فاصولياء، لوبياء، باذنجان، كوسا، كلمات تخرج من الحناجر في إيقاعات رتيبة في أفق الحي. قرب عربة أخرى بائع يصيح: “خاين يا طرخون”. المأذنة هي الأعلى في الحي. شكلها عادي، لا يعكس عراقة معمارية. السماء غبارية، تتناثر فيها غيوم قطنية. دخان السيارات مرئي بحدة في الشارع العريض. يتعالى الأذان في الجو، صريحاً آمراً ومألوفاً. تُغلق المحلات، تُغطى بعض العربات، ويذهب عدد كبير من الأشخاص إلى الصلاة، لا يتسع المسجد فتركع الحشود على الرصيف وفي الشارع، مما يوقف حركة المرور. يصطفون في خشوع ويركعون. تمتمات شفاه، حركات أيدٍ، انحناءات أجساد، تسبيحات وتكبيرات.
الجو حار والرطوبة مرتفعة، ولم يتبق إلا مائة متر في الشارع الرئيسي وبعدها انعطافة إلى اليسار في زقاق طوله مائتا متر. أُخْرجُ المفاتيح، أفتحُ باباً حديدياً يصدر صريراً مزعجاً وأدخل. كان شريكي في الغرفة يطبخ مجدّرة وبدلته معلقة إلى مسمار في الحائط. رائحة البصل المقلي تغطي رائحة بوطه العسكري. أتناول عباءتي الصيفية، أخلع ثيابي وأرتديها. أتمدد على الأرض، على الحصير وأسند ظهري إلى مسند. ذهني يقودني في اتجاهات مختلفة، اكتشفت أنني كنت جامداً طول تلك السنين السابقة، لم أفعل شيئاً، استسلمتُ للمستوى الذي أنا فيه. لم أمتلك أفكاراً عن الطموح والمغامرة، شعرت أنني ما أزال طفلاً جاهلاً، أو ربما كنت منتظراً، لأبي كي يفعل لي شيئاً، لأخي كي يخرج من أنانيته ويساعدني في إطلاق مشروع. وظيفتي الأولى كان تأمينها كالمهزلة. قريب لي يعمل في سفارة تحدث مع مدير دائرة. ذهبت إلى الدائرة، فرفض الحارس إدخالي في البداية، ثم بعد أن ألحّيت، أطلق ضحكة كريهة مفتعلة وقال بعد أن تأكد من أن المدير طلبني:
– ادخلْ، قَطْع الأعناق ولا قَطْع الأرزاق.
كانت جملته غريبة، أراد أن يمنّني بعد أن عاملني بمهانة. طلب مني مدير مكتب المدير العام أن أوقع بعض الأوراق وأرسلني مباشرة إلى مكتب كي أباشر عملي. كان المكتب صغيراً، حُشرتْ فيه أربع طاولات وأربعة كراس. طاولتي كانت مقابل الباب الذي يبقى مفتوحاً، حيث تمر موظفة كل عشرين دقيقة. تفعل هذا باستمرار، بإدمان، ثم تمط رقبتها وتنظر إلى الداخل. شكلها يدفع إلى النفور، ستفضّل أن تنظر إلى قطة أو كلب، ولذلك درّبْتُ نفسي على ألا أرفع رأسي عن الأوراق التي أمامي حين أسمع صوت كندرتها على البلاط وهي رائحة غادية. لم أشعر بالزمن الذي مر في الدائرة، كان التكرار هو حياتي المبددة في أعمال لا قيمة لها، وفي نهاية الشهر، كنت أنتظر في الدور ثلاث ساعات كي أقبض راتبي. ازدحام رهيب من أجل راتب تافه لا يبقى منه أي شيء بعد أن أقتسم أجرة الغرفة مع صديقي. كان صديقي الذي يؤدي خدمته العسكرية يتحدث في الليل متظاهراً بالنوم، يتحدث كثيراً، في البداية ظننته مريضاً، لكنني اكتشفت أنه يريد أن يوهمني بذلك، ويريد أن يحكي لي ما يجري معه بطريقة غريبة، تبرّئه من المسؤولية، لا بد أن هناك شيئاً في أعماقه جعله مرتاباً بي، كلنا نخفي أموراً في ظلمات النفس وطبقاتها المجهولة، هل لأننا غير قادرين على الانفصال، على التحرر، وإذا ما انفصلنا لا نستطيع أن نكون جذريين؟ لست أدري. أنا أعتزّ بصداقته، وأحبه، ولكنه عاملني بطريقة غريبة، حيرتني. في المرة الأولى التي تحدث فيها، كانت الساعة الواحدة ليلاً، وكان اليوم يوم جمعة، حيث كان لديه مبيت، سمعته يقول:
– أغمضوا أعينكم، تخيّلوا، ماذا ترون؟
ذكر الاسم، فقالوا إنهم يرونه ممتطياً صهوة جواد من نور، يخترق عوالم الظلمة، يوزع الأقمار، يعلق قمراً في سقوف الغرف، وفي كل شارع وزقاق. تنتشر الأقمار في المدينة وتنيرها. وبعد أن يجوب عوالم الظلمة يعود، وتستقبله الحشود، تجرح أيديها وتكتب له بالدم عبارات الحب: انتظرناك طويلاً، بددنا أعمارنا ونحن ننتظرك، أيها الفارس العائد من الظلمة، لك الملكوت، لك عطر العهود، لك الأبدية أيها الخالد، لك الأرض بساحلها وداخلها، لك الرجال، كرمى لك يرمون أنفسهم في التهلكة. وحيث يمرّ ترتفع قباب النور، تتدفق الأنهار بقوة، يطلع الشجر بسرعة وتجود المواسم.
صارحْتُهُ، قلت إنه يتحدث عن أمور معينة فأنكر ذلك. هل يوصل إليَّ رسالة متظاهراً بالبله أو الجنون؟ لم يكن يتوقف عن الكلام حين تنقطع الكهرباء ولا يبين أي قمر من أقمار الفارس الذي يتحدث عنه. حين أقف في صف طويل كي أشتري عشرين لتراً من المازوت أتمنى لو أن الفارس المُبدِّد للظلمة يقتحم المشهد ويفرض سحره ويملأ البيدونات المصطفة. وحين أنتظر الميكرو لمدة ساعة أحياناً وأجري مع المحتشدين كي أؤمن مقعداً، أتمنى لو أنه يجيء على حصانه ويوصلني إلى العمل، وحين أحاول تأمين جرة غاز، أفكر به كثيراً، متمنياً أن يأتي في أية لحظة وينتزع لي جرة من البائع ويوصلها لي إلى البيت على ظهر حصانه. تمنيت قدومه أيضاً حين فاضت المجارير في الحي ودخلت إلى البيوت، ووضعنا خفّافات كي نسير عليها للدخول إلى الغرفة. كانت أم صاحب البيت التي تسكن مع ابنها في الطابق الثاني مصابة بالسعال الديكي. لم تتوقف لحظة واحدة. تمنيت لو أنه جاء وأخذها إلى العلاج، كان وجهها سمحاً ويفيض بالحب والطيبة. اعتدنا على سعالها حتى صار جزءاً من وجودنا، جزءاً من إيقاع حياتنا، وبعد فترة توفيت، وساد الصمت في الليل، لم يعد هناك سعال. شعرت بحنين، بشوق إلى هذا السعال. انتابتني تهيؤات عديدة حول كائن يسعل حتى الموت، دون أن يأخذه أحد إلى العلاج. كان الابن قاضياً مشهوراً بامتلاكه للعقارات في أحياء المخالفات، كان يؤجر مستودعات وشققاً، لكن أمه كانت تسعل طول الوقت. وحين جاءت معي سلافة، وكانت أول عشيقة لي في المدينة أحبتني في ظروف لا يمكن أن يستمر فيها الحب، كان هناك استنفار في البلد وصديقي نام في القطعة، فخلا الجو بالنسبة لي. سارتْ سلافة على الخفافات كي لا تتلوث قدماها بمياه المجارير، كانت الروائح تملأ الحي. لم تقل شيئاً، لكنها قررت أن تشرب الشاي وتذهب، ظل كأسها مليئاً. تذرعت بشيء ما.
ألححت عليها كي نمارس الجنس، وكان بي ظمأ إلى ذلك، وبدأت أمد يدي وأتحسس، قالت مازحة:
– يا لك من عجوز شبق!
كان السير معها في الشارع جميلاً في ذلك اليوم، أذكر وجهها، ربما تغير الآن، دخل في شكل آخر، في قناع مرحلة أخرى من حياتها. لم تقل أي شيء عن ماء المجارير ولا عن السعال، أنا أحضرت لتر العرق وبدأت بشربه في كؤوس صغيرة. كنت أشرب كل يوم إلى أن أشعر بالاسترخاء ثم بالخدر وبعد ذلك أنام. كانت أم شريكي في السكن ترسل له المونة من الضيعة كالزيتون المرصوص والعيطون الأسود والكشك والشنكليش والمكدوس. كانت مأكولات شهية، وكان هو شهماً. لم يدقق أبداً في مصروفاتنا، لكنني شعرت أنه خائف مني، هل يتخيلني منهم؟ لماذا لا يثق بي؟ بدأت تخطر لي أفكار من هذا القبيل. لم أخنه، لم أخن أحداً، ولا أريد أن أقدّم اعترافاً حول الأمر، لم يتعرض لأي موقف من قِبلي وهذا كاف لجعله يبتعد عن هواجس من هذا النوع. أم هل لأنني من طائفة أخرى؟
– أغمضوا أعينكم، تَخيّلوا من جديد، ما الذي ترونه؟
كان مفروضاً على الجميع أن يجيبوا على السؤال. أحدهم قال إنه من نور خالص، وهذا النور يضيء الكون فيما قال آخر إنه الشمس التي تشرق كل يوم.
– أريد أكثر، ألا تفكرون إلا بالشمس والقمر!
أحدهم تلعثم قليلاً، لم يستطع أن يعبّر، عجز عن تصوير ما تخيّله في كلمات، فأخرجوه من المجموعة المتمددة على ظهورها في ساحة رملية مسورة تحت شمس حارقة، حلقوا له على الصفر وحرموه من المبيت. كانت الإهانات تنصب عليه من كل حدب وصوب، عومل كحشرة تُسحق تحت الأقدام.
مرة قلت لصديقي أن لا داعي للمناورة وأن بوسعه أن يحكي لي ما يجري معه بصراحة، وأنه يجب أن يثق بي، لكنه تظاهر بأنه لا يفهم قصدي. قبلها كنت أضع لتر العرق وأحضر بعض المازة وأبدأ بالحديث معه، لكنه كان يغيّر الموضوع، وبعد أن ينام، أو يتظاهر بالنوم، يدخل في الموضوع.
–أريد أكثر، من رأى أكثر؟
جاء دور صديقي، قال عنه إنه مجترح معجزات، مرة نقل جبلاً من مكانه، وغيّر مسار نهر كي يخصب مناطق مجدبة، وفي المناطق التي لا تصل إليها المياه يلمس الأرض فتنبجس الينابيع. صارت الحناجر تهتف باسمه حتى في بعض المدن الحاقدة. لم يعد سكان هذه المدن قادرين على السيطرة على حناجرهم التي بدأت تهتف فاعترفوا بأنهم مخطئون وأن حناجرهم صادقة، وقد فعلتْ هذا من تلقاء نفسها.
حصل صديقي بعد أن قصّ ما رآه على إجازة لمدة أسبوع كجائزة له. سافر كي يزور أمه وأباه وأخوته، في الريف البعيد. بقيت لوحدي. خطر لي أن أسافر إلى بلدتي لكنني لم أشعر برغبة في ذلك فقررت أن أمضي وقتي في التسكع في مركز المدينة. ثم في المساء أعود إلى غرفتي. كان لدي بعض الكتب التي كنت أتسلى بها وحين تنقطع الكهرباء أستسلم للنوم. يجيء الصباح معتماً بين الأزقة في الحي الذي أسكن فيه. البنايات متلاصقة والأصوات متلاصقة، ولا يفصلك عن آخرين لا تعرفهم إلا حائط سمكه ٢٠ سم وأحياناً أقل. كان لون الاسمنت طاغياً، والخفّاف غير مليّس في معظم الأبينة، وكل يوم يولد بناء جديد، بسرعة البرق، قبل أن ينشف اسمنت الأعمدة. تحولت أصوات شاحنات نقل الخفاف وأكياس الاسمنت والحديد ومجابل الباطون وصيحات العمال، وقرع المسامير في خشب السقوف إلى خلفية يومية تدجنت الآذان على قبولها، وفي الليل تأتي أصوات أغنيات لمطربين جدد لم يُسمع بهم من قبل، أصوات تتناهب الأفق، تسوّره، تحجبه، ثم تتبدد في خواء المدينة.
أحياناً أنظر إلى سرير صديقي الفارغ، أحاول أن أجمع خيوط كلماته، وأتساءل لماذا يحدث هذا؟ لماذا؟ لماذا؟
في إحدى الليالي رأيت حلماً، قُرع باب الغرفة وسمعت أصواتاً غير مألوفة تنادي باسمي، فتحت الباب، كان شكلاً من النور على جواد من النور، فضح بريق النور غرفتي وأثاثها الفقير، بانت قطرميزات المكدوس والزيتون والعيطون وربطة الخبز، ظهرت الأغطية المتسخة التي لم تُغْسَل منذ فترة، انكشفت ثيابي المعلقة بالمسامير، والمرآة ذات الإطار البلاستيكي، أُضيئتْ فرشات الإسفنج غير المُلبَّسة والتي ننام عليها صيفاً وشتاء، تبدّتْ البقع الصفراء على المخدات، وكراسي البلاستيك المتسخة، وأوراق الجرائد المبعثرة.
– هل يمكن أن أدخل؟
استغربت أنه استأذن مني. دخل على حصانه إلى داخل الغرفة، ترجّل، لمسَ حصانه فاختفى، جلس وقال:
– أعدّ لي مائدة مما لديك.
شعرتُ بالخجل. ماذا يمكن أن أطعم النور؟ أشار إلى القطرميزات، فذهبتُ إليها، لكن كان عليَّ أن أجلي الصحون، وحين فتحت الحنفية لم ينزل ماء. نهض لمس الحنفية فتدفق الماء، غسلتُ الصحون وسكبت له صحن زيتون وصحن عيطون وصحن مكدوس، ذكّرني بالشنكليش فأخرجتُ له قرصاً مستوياً من قطرميز ووضعته في صحن وسكبت عليه الزيت. ثم رتبت الصحون في الطبق القشي ووضعته أمامه. طلب كأس عرق. ذهبت وأحضرت اللتر الذي كان فيه ثلاثة أرباعه. نظر بشهوانية رهيبة إلى الصحون وبدأ بالتهامها، أكل كل شيء وشرب العرق كله، ثم طلب المزيد إلى أن فرغت القطرميزات، ثم نهض دون أن يصافحني، تمتم فجاء حصانه النوراني، وفيما هو ينهض أطلق بعض الغازات، ركب عليه واختفى، وبقيتْ خلفه رائحة غازاته الكريهة. جمعتُ الصحون، كوّمتها على المجلى، وفتحت الحنفية كي أغسلها لكن الماء كان قد انقطع.
كان حلماً غريباً، غير أنني شعرت بالراحة أنه لم يكن فيه أحد يأمرني بأن أغمض عينيَّ وأتخيّل وأروي، ربما لن أجرؤ على قول ما أريد أن أتخيله، ولكن هنا، في غرفتي، في ظلمتي السرية، في الحارة البعيدة عن المركز والتي يلتهمها الاسمنت كوحش مدرّب، وتنهش لحمها الأصوات المسنونة، أمرتُ نفسي:
– أغمضْ عينيك؟ تخيّلْ. ماذا ترى؟
– هاوية، هاوية، نندفع إليها جميعاً.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Aws Yacoub | سبتمبر 6, 2017 | Culture
في كتابه “تطور المجتمع السوري 1831 – 2011″، الصادر موخراً عن “دار أطلس للنشر والترجمة” في بيروت، يقدّم الكاتب السوري نشوان الأتاسي قراءةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا عند نشأة كيانها ثم دولتها بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الانتداب الفرنسي وما رافق ذلك من مفاوضات وانتفاضات أفضت حدوداً واستقلالاً وطنياً، محاولاً تقريب تاريخ سوريا الحديث إلى القراء دفعة واحدة بأحداثٍ متسلسلة كثيفة مترابطة على مدى قرن ونصف دون محاولات لإخفاء حقائق أو أدلجتها، عبر تشخيصٍ دقيقٍ للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها سوريا وقاطعها مع التاريخ وعلم الاجتماع السياسي.
يرصد نشوان الأتاسي (مواليد حمص عام 1948، والمقيم حالياً في باريس)، في كتابه الأول، الذي وضعه في العام 2013 واستغرق تحريره حوالي العام والنصف ليرى النور في أيلول 2015، يرصد التطوّرات التي طرأت على المجتمع السوري سياسياً واجتماعياً بين أربعينات القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مقدّماً محاولة هي الأولى ربّما لكاتب سوري للخوض في تاريخ سوريا الحديث بمراحله المختلفة وصولاً إلى مرحلة حكم حزب البعث والرئيسين الأسد الأب والأبن، وانتهاءً باندلاع ثورة السوريين في منتصف آذار 2011.
وفي (375 صفحة) يستعرض المؤلف أهم الاستراتيجيات التي أسست تناقضات وبؤر الانفجار في المجتمع السوري بما فيها تشويه العلاقة بين المدينة والريف والخلافات المذهبية والطائفية والإشكاليات المناطقية دون إهمال هيمنة العنصر الاقتصادي والصراعات الطبقية.
أربع حقبات زمنية وسياسية..
يبين الكاتب والباحث السياسي اللبناني زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بباريس، في توطئته للكتاب أن الأتاسي قسم دراسته إلى أجزاء أربعة.
جاء الجزء الأول تأسيسياً، ينطلق بعد تمهيد تاريخي من أحداث النصف الثاني من القرن التاسع عشر اللاحقة لحملة إبراهيم باشا على سوريا، ليصل إلى الحرب العالمية الأولى ثم الثورة العربية (1916) اللتين ستُخرجان سوريا من السلطنة العثمانية المتهالكة.
أما الجزء الثاني فيخوض في تطوّر المجتمع السوري بين حدثَين: حدث وصول فيصل ومحاولته تأسيس دولته في دمشق ثم هزيمته أمام الفرنسيّين وبسط سلطة انتداب الأخيرين، وحدث نهاية الانتداب وجلاء القوات الفرنسية عن سوريا المستقلة العام 1946.
وفي الجزء الثالث يعالج الأتاسي العناوين الأعرض للتاريخ السوريّ الحديث، أي التالي على استقلال 1946، حيث تحضر في المقدّمة الانقلابات العسكريّة، من حسني الزعيم في 1949 إلى حافظ الأسد في 1970. مبرزاً أهم المواضيع المتّصلة بالحياة السياسية السورية وبأحوال المجتمع بين ما يعتبره “انتدابين”، الانتداب الفرنسي الآفل و”الانتداب البعثي” المقبل العام 1963.
ووفقاً للباحث اللبناني فإن مؤلف الكتاب تعامل في دراسته مع التاريخ السوري بوصفه “ملكاً للسوريين”، فهو (الأتاسي) يخرق الحظر المسدل على رواية الأحداث منذ العام 1970 من خارج سير النظام الرسمية، أي تلك النافية لوقائع والمستبدلة إياها بأخرى مخترعة أو محورة لتناسب المشروعية المراد كسبها، وهو يعيد الاعتبار إلى مرحلة من التاريخ (لاسيما مرحلة الخمسينات) وهو في كل ذلك يضيف إلى المراجع العربية أو المكتوبة لمؤرخين عرب واحداً تغطي صفحاته المدى التاريخي الأرحب بعد أن كانت أعمال أسلافه ألبرت حوراني وفيليب خوري وحنا بطاطو وكمال ديب وآخرين معنيّة بحقبات سابقة أو متخصّصة ومتوسّعة في مراحل محدّدة.
ويأتي نصّ الأتاسي بالتالي كنصّ جديد يبني على ما سبقه، ويكمل كرونولوجيّاً الفراغات والنواقص متعرّجاً في التحليل وفي المقارنات ليُبيّن الأبعاد الداخلية والخارجية للأحداث، وليقابل بين الدولة والمجتمع وجدليّات علاقاتهما ونزاعاتهما في منطقة “شرق أوسطية” حبلى بالأزمات، وفي سياق دولي من الحرب الباردة ثم من العالم الأحادي القطبية.
ويبين الكاتب السوري في هذا الجزء (الثالث) بتحليل عميق، الاصطفافات والتحالفات وأدوار الجيش وبعض الأحزاب أو التيارات الرئيسية والزعامات الوطنية والمحلية. وكيف هيمن حزب البعث على المجتمع والدولة والسلطة، هيمنة وصفها الكاتب بأنها “انتداب ثان”، قضى على التعدّد السياسي والتجربة الليبرالية التي عاشتها سوريا في الخمسينات قبل أن توهنها الانقلابات العسكرية، وكذلك على تجربة الوحدة مع مصر التي قضى عليها النظام البعثي.
أما الجزء الرابع والأخير فخصصه الأتاسي لدراسة “العصبية والدعوة والمُلك” بوصفها دعامات حزب البعث وقوام نشاطه وتنظيمه المُفضي بعد انقلابه العسكري سيطرةً على سوريا و”قيادةً للدولة والمجتمع فيها” لغاية العام 2011 تاريخ بدء الثورة الشعبية ضدّه.
كما يستعرض الكاتب مرحلة حكم الرئيس حافظ الأسد وتأثيره على الحرب الأهلية اللبنــانية، وعــلاقته بإيران، والاتحــاد السوفييتي ومن بعده روسيا، ومن ثمّ تطييفه الجيش والأمن، وصراعه مع أشقائه على السلطة وتأهيله لأولاده لوراثة الحكم، وهذه المرحلة بالذات هي من المراحل التي حاول الكثير من الكتّاب السوريين تجنبها، غير أن الأتاسي خاض فيها وفي وقائعها بتوسع معرّجاً على الخمس عشرة سنة من حكم ابنه بشار الأسد، ومن ثمّ إلى السنتين الأخيرتين من الثورة السورية وتشكيل تنسيقياتها وتياراتها السياسية وعسكرتها. دون أن يفوته تناول استراتيجية حافظ الأسد المستندة إلى جعل عدد كبير من مضموني الولاء ينتسبون إلى البعث، وتزيينه الحكم بما عرف بـ(الجبهة الوطنية التقدمية)، وإقراره لدستور منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية كافة، جعلت منه شخصياً حاكماً بأمره. وكيف حوّل تدريجياً البلاد في عهده إلى “دولة أمنية” تسيطر عليها فروع الاستخبارات وقوات الوحدات العسكرية الرديفة للجيش النظامي، كالحرس الجمهوري والوحدات الخاصة.
وفي هذا المبحث اعتمد المؤلف المنهج “الخلدوني” في مقاربة الحقبة البعثية، من خلال اعتبار العصبية مدخلاً لفهم الولاءات والخصومات والتضامن داخل دوائر حزب البعث وقيادته وداخل الطائفة العلوية.
كما وثقت صفحات الكتاب لمحاولات تأسيس منتديات للمجتمع المدني وحلم البعض من المثقفين بترسيخ حرية الرأي والتعبير، وكيف وأد بشار الأسد هذه المحاولات.
كذلك يستعرض الكتاب علاقة نظام الأسد الأب السلطوية الإملائية ما بعد حكم البعث بالمنظمات الفدائية الفلسطينية، ورفعه شعار “الصمود والتصدي والتوازن مع العدو الصهيوني” كعنصر من عناصر شرعيته، متطرقاً في هذا الصدد إلى مفاوضات السلام مع “إسرائيل”، وموقف الرئيس حافظ الأسد من اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج، والتحسن السريع في العلاقة السورية التركية زمن الأسد الابن ومن ثمّ انهيارها بنفس السرعة.
كما يتعرض الأتاسي لـ”ورطة” اغتيال الحريري في لبنان التي أجبرت القوات السورية على الخروج منه والقيام بتغييرات عسكرية داخلية أطاحت بالرعيل الأول لتستقدم شريحة جديدة أكثر فساداً وطائفيةً، وكيف أن كل المحاولات للانفتاح على المجتمع الدولي باءت بالفشل.
إماطة اللثام عن قصة اغتيال المالكي..
من أهم القصص التي أماط الأتاسي عنها اللثام في كتابه هذا، قصة اغتيال الضابط السوري عدنان المالكي في منتصف خمسينات القرن الماضي. كاشفاً في الصفحتين (214 – 215) من الكتاب تفاصيل القصة الحقيقة –كما يدعي- والتي يرويها لنا على النحو التالي: “كانت إحدى نتائج الإطاحة بالشيشكلي إعادة بعض الضباط الذين سرّحوا من الخدمة في عهده، وكان أبرزهم عدنان المالكي، حيث تم تكليفه بمنصب معاون رئيس هيئة الأركان. وفي شهر نيسان 1955، وأثناء حضوره لمباراة في كرة القدم، قام رقيب في الشرطة العسكرية يدعى يونس عبد الرحيم (علوي) باغتياله، وعلى الفور قام شرطي آخر (علوي) بإطلاق النار على عبد الرحيم فأرداه قتيلاً، وبذلك طُمست معالم الجريمة ولم تُعرف دوافعها. لكن حزب البعث اعتبر اغتيال المالكي ضربة موجهة له على اعتبار أنه كان صديقاً لهم، كما كان شقيقه رياض عضواً في الحزب، لكن عدنان نفسه لم يكن بعثياً.
كان ممن شاركوا في عملية الاغتيال ثلاثة من عناصر الشرطة، أحدهم الرقيب محمد مخلوف (شقيق زوجة الرئيس السابق حافظ الأسد وخال الرئيس الحالي بشار، ووالد رجل الأعمال السوري الذائع الصيت رامي مخلوف). ولما كان الثلاثة أعضاء في الحزب القومي السوري الذي كان يسعى لإلحاق سورية بحلف بغداد، فقد اُعتبر الاغتيال جزءاً من محاولة عراقية لقلب نظام الحكم في سورية. كما وجهت التحقيقات أصابع الاتهام إلى زعيم الحزب الذي خلف أنطون سعادة، اللبناني جورج عبد المسيح، لأن حزبه كان قد وجه سابقاً اتهاماً للمالكي بأنه كان وراء تسريح رفيقهم المقدم غسان جديد (الشقيق الأكبر لصلاح جديد، عضو اللجنة الخماسية العسكرية البعثية، والرجل الأول في سورية بين عامي 1966 و1970)، وكان المالكي قد سرّحه فعلاً متهماً إياه بالتعامل مع الأميركيين. وعلى هذا شُنّت حملة تصفيات واسعة ضد الحزب أدت إلى انتهاء دوره ووجوده في سورية، وحُظر الحزب قانونياً، كما حُكم على مخلوف بالسجن المؤبد ولم يُفرج عنه إلا إثر انقلاب البعث عام 1963. وجرى اغتيال غسان جديد في بيروت. وبذلك تمكن البعثيون من التخلص نهائياً من أكثر منافسيهم خطورة على الساحة السياسية والعقائدية في سورية.
وقد ظهرت لاحقاً نتائج تحقيقات متعددة، نفت ضلوع الحزب في عملية اغتيال المالكي، وعزتها إلى المخابرات المصرية، في إطار الصراع بين العراق من جهة ومصر والسعودية من جهة أخرى. كما أن الحزب نفسه نفى بشدة ضلوعه في العملية واعتبرها ذريعة لتصفيته سياسياً وتنظيمياً. وفي مطلق الأحوال، فقد أدت العملية، وبغض النظر عن هوية مدبريها الفعليين، دورها كاملاً، بحيث أطلقت يد البعث في توجيه السياسة السورية، بتعاون – مرحلي – مع الحزب الشيوعي”.
وقد قسّم الأتاسي في سياق اطروحاته، الحقبة البعثية إلى مراحل ثلاث: مرحلة محمد عمران (1963 – 1966)، فمرحلة صلاح جديد (1966 – 1970)، ثم مرحلة حافظ الأسد الذي خلفه ابنه بشار (2000 – حتى يومنا هذا). مستعرضاً كيف تخلّلت هذه المراحل تبدّلات في القيادة البعثية وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، كما تخلّلتها حربا العام 1967 و1973 مع “إسرائيل” وجرى خلالها اجتياح لبنان وتطوير تحالفات إقليمية مع إيران. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحليف السوفياتي، تبدّلت بعض أدوار سوريا الخارجية وبدأت التحوّلات الاقتصادية داخلها، واستُبدلت لاحقاً القيادات السياسية بأُخرى أكثر ارتباطاً بالعائلة بعد توريث بشار الحكم العام 2000. فحكَم الأخير عقداً من الزمن قبل أن تبدأ الثورة على حكمه في أول العقد الثاني وتفتتح تاريخاً جديداً.
وتجدر الاشارة إلى أن الكاتب نشوان الأتاسي، ضمّن كتابه مجموعة من الملاحق (ديمغرافية وجغرافية واقتصادية)، حاشداً مراجع مهمّة وحواشي غنية بالتفاصيل والمعطيات، مستنداً على كم كبير من المراجع والأبحاث ومذكرات عدد من السياسيين السوريين الراحلين الذين كان لهم أثر كبير في الحياة العامة السورية، من أمثال خالد العظم وأكرم الحوراني وبشير العظمة.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]