صورة الشاعر ما بعد الحداثي

صورة الشاعر ما بعد الحداثي

حوار مع الشاعر والمترجم السوري عبد الكريم بدرخان

١لماذا اخترت أن تترجم بوكوفسكي بالذات، ما الذي جذبك إلى عالمه؟

انتبهتُ إلى بوكوفسكي قبل سنواتٍ عديدة، إذ لفتَني أنه مختلفٌ عما قرأته من الشعر العربي والأجنبي، ومختلف عن مُجايليه من الشعراء الأمريكيين أيضاً. إن مُغرياتِ عالم بوكوفسكي متعدّدة ومتنوعة، منها البساطة والمباشرة، الطرافة والبذاءة، العبثيّة والسُخرية، وهنالك الاحتفاءُ بالخمر الذي يبرزُ كثيمةٍ أساسيّة في أدب بوكوفسكي، وهي ثيمةٌ شائعة الشعر العربي والفارسي، لكنها نادرةٌ في الشعر الغربي والأمريكي بالخصوص. ثم قرّرتُ جمعَ ترجماتي المتفرّقة له، والإضافةَ إليها، والتقديمَ لها، بغية إصدار كتاب مختاراتٍ شعريةٍ جيّدٍ من حيث الحجم والاختيار وجُودة الترجمة، بعدما عانتْ قصائد بوكوفسكي من استِسْهال المترجمين والهواة على مواقع التواصل الاجتماعي وخارجها.

٢ما الإضاءة الشعرية الجديدة التي يمكن أن يكتشفها القراء العرب لديه؟

يمكن للقرّاء العرب اكتشافُ العديد من الأفكار والآراء ووجهات النظر الجديدة عند بوكوفسكي، والعربُ يحبّون بوكوفسكي عموماً. أوّلُ ما نلحظه عند بوكوفسكي هو أنه يُدمّر أسطورة أمريكاويقدّم لنا الوجه -لا القبيح، بلالحقيقي لها. ثم نراه يحطّم الصورة النمطية للشاعر، الصورة المكرّسة في الثقافة المركزية والمتوارَثة في المؤسَّسة والأكاديميّة، ويقدّم بدلًا  عنها صورةَ الشاعر بعد الحداثي، شاعر الهوامش الـمُهمَّش والشَّغُوف بالـمُهمَّشين. وكما قال عنه ليونارد كوهين: “إنه يُـنـزِلُ كلَّ شيءٍ إلى الأرض، حتى الملائكة.” شِعريًّا؛ يلفتُ بوكوفسكي الانتباهَ إلى إنّ الشِعر ليس محدّدًا في موضوعاتٍ معينة، ولا يمكن حصْرُهُ في أساليب تعبيرية محددّة، فالسيّد بوكوفسكي يذهب إلى أبعد المواضيع وأغربها، ويتناولُها بأكثر الأفكار والأساليب غرابةً. إنّ أهمّ درسٍ تعلّمتُهُ من بوكوفسكي؛ هو أنّ على القصيدة أنْ تحتشد بكلّ ما لا يتوقّعه القارئ.

٣ما أوجه الاختلاف بينه وبين الشعراء العرب من جيله على صعيد الرؤية الشعرية؟

جيل بوكوفسكي من العرب هم جيل السبعينات. بالتأكيد الاختلاف كبير من حيث المرجعيّة الفكرية، واللغة الشعرية، وفهم طبيعة الشعر ودوره، وكذلك رؤية الشاعر لنفسه وبلده والخارج… وإنّ هذه الاختلافات كما أرىتعودُ وتُـرَدُّ إلى أسبابٍ تاريخية ومادية، لا إلى أسباب ثقافية أو لغوية.

الشاعر العربي الذي أجد تشابهًا بينه وبين بوكوفسكي؛ هو محمد الماغوط. فكلاهما حطَّما صورة الشاعر الفارس الذكوريّ المغرور، وقدَّما نفسَيهما بصورةِ الشاعر البائس والفاشل. وكلاهما ناقشا موضوعاتٍ كُبرى بشيءٍ من السُخرية واللامبالاة، إذ تطغى على نصوصهما حالةٌ من اليأس الذاتي والعام، وفقدانِ الأمل من إحداث أيّ تغييرٍ في أي مجال. إن الوحدة والرعب اللذين عاشهما الماغوط في دمشق وبيروت، يشبهان الوحدة والرعب اللذين عاشهما بوكوفسكي في لوس آنجلس.

٤ما الدور الذي تلعبه الترجمة حالياً في إغناء الشعرية؟

للترجمة إلى العربية دورٌ رياديّ في تطوير الشعر العربي ودفعه من مكانٍ إلى آخر، وهذا معروف منذ أوائل القرن العشرين، فما نشأتْ تيّاراتُ الرومانسيّة والواقعيّة والواقعيّة الجديدة وما سُـمّي الحداثةإلا بعدَ الـتأثُّر بالنصوص الأجنبية المترجمة. واليوم ثمة من الشعراء العرب مَنْ يُقلّد بوكوفسكي، فيستعيرُ صوتَ العابث اللامبالي ويكتبُ عن بيئته بصورةٍ مباشرة. وثمة شاعراتٌ يُـقلّدن بلاث وسكستون وغيرهما، فيكتُبن ما يُشبه الاعترافاتمع جُنوحٍ مُبالَغ فيهِ نحو العزلة واليأس والانتحار. لطالما كان الشِعرُ المترجَمُ بوصلةَ الشاعر العربي على مدار قرنٍ كامل. دعْ عنكَ مقولاتٍ مثل الشِعر لا يُترجَمأو ترجمة الشعر خيانة، وأحيانًا تغدو الترجمةُ كلُّها خيانة“! فهذا الكلام لا قيمةَ له. إنّ تأثيرَ الشِعر المترجم في الثقافة العربية لظاهرةٌ تستحقُّ التأمّل، حيث أن معظمَ المثقفين العرب فهِمُوا الحداثة وكتَبُوا عنها تأييدًا أو نقدًا، مُنطَلِقين من فهمِهم وتصُوُّرهم الشِعري لها. إنّ كلمة حداثةعند العرب تأخذُ الأذهانَ باتجاه الشِعر قبل أيّ شيء آخر!

٥ما الذي شعرت أنك خسرته في الترجمة، وما الذي ربحته؟

الترجمة تُعلِّم الدقّة، وهذا الأمرُ حسَنٌ في مجال الكتابة البحثية، لكنه مُقيِّدٌ في مجال الكتابة الإبداعية. خسرتُ حريّة وفوضوية التعامل مع الكلمات، خسرتُ متعة القراءة باللغة الأجنبية دون أنْ يعمل ذهني لا شعوريًّافي ترجمة ما يقرأ، حتى أثناء مشاهدة الأفلام أجدُ نفسي أترجم ما أسمع بدلًا  من الاستمتاع به فحسب. في المقابل، كسبتُ معارفَ عديدة في اللغة والأدب والثقافة العامة، وحتى اللغة الأم فإنها تتطوّر وتُغنى أثناء الترجمة إليها.

٦بماذا يتميز بوكوفسكي عن أقرانه من الشعراء الآخرين في سياق الشعر الأميركي؟

يتميّز بأنه لا يشبههم، ولم يقبل التصنيفَ ضمن تيارٍ من تياراتهم، فلا هو تقليدي ولا حداثوي، لا اشتراكي ولا مناهض للاشتراكية، لم يكنْ من المؤمنين ولا الوثنيين، ولم يُعرَف عنه الاصطفاف إلى جانب الملوَّنين أو الوقوف ضدّهمأما من حيث الاتجاه الأدبي، فإن الحركة الأدبية التي أسَّسَها بوكوفسكي، والتي ينتمي إليها وتنتمي إليه بوصفه عرّابها، فهي الواقعية القذرة، وقد باتَ من المعروف أنها اتجاهٌ أدبي يهتمُّ بالحياة العادية والبائسة للطبقة الفقيرة، ويركّز على نماذج من العمّال والمشرّدين والسكّيرين والعاهرات (عاملات الجنس)، ويتميّز بتصوير الواقع المعيش بكلّ تفاصيله القاسية والصادمة والقذرة. إذًا، فإنّ بوكوفسكي مؤسّسٌ لتيّار أدبي! وهذا ما لا يستطيعُهُ إلّا  بضعةُ شعراء معدودين خلال قرنٍ كامل!

٧كيف تنظر الآن إلى واقع الترجمة الشعرية إلى اللغة العربية؟ لماذا برأيك تتفوق الرواية على الشعر؟

في الواقع لا يمكن الحديث عن حركةِ ترجمةٍ شعريةٍ إلى العربية، إذ توجد مساهمات فردية متفرّقة وسطَ حالةٍ من الفوضى العامة، وقد باتتْ هذه المساهماتُ تجدُ مكانًا لها في الصحافة (ورقية وإلكترونيّة) أكثر مما تجدُ مكانًا في دور النشر. كل ذلك، وغيره، يجعلُنا لا نعتقد بوجود حركة ترجمة شعرية إلى العربية. السبب فيما أرى هو غياب المؤسسة الثقافية العربية، وفي حال وجودها فإنها تعمل دون خططٍ أو رؤىً مستقبليّة. أما دور النشر الخاصة فلها اعتباراتها الخاصة، مثل تحقيق نِسَبٍ جيّدة من المبيعات، وهذا ما لا يحقّقه الشِعرُ عادةً. لكن لماذا تحقق الرواية مبيعات أكثر من الشعر؟ أعتقد لأنّ لغة الرواية تصلُ إلى شريحةٍ واسعة من القرّاء، هي أوسع بكثيرٍ مِنَ التي تصل إليها لغةُ الشعر. كما تصلُ مقولةُ الرواية سواءً كانت تاريخيّة أو سياسيّة أو اجتماعيةإلى شريحةٍ أوسعَ بالعموم من الشريحة التي تصلُها مقولةُ القصيدة. الشعرُ مُتطلِّب، ويحتاجُ إلى قارئٍ مُهتمّ به، لأنّ آليّات القراءة في الشعر تتطلّب إلمامًا خاصًّا بها. وهنالك أيضًاأسبابٌ تتعلّق بطبيعة الحياة اليوم، وبكثرة الـمُغرَيات التكنولوجيّة التي تُبعد الناسَ عن القراءات الـمُعمَّقة والـمُتأنّية، وعن القراءة مرّةً تلو الأخرى، في سبيل التلذّذ بالنصّ وإعادة خلْقِ أبعاده ودلالاته لدى المتلقّي، وهذا ما يتطلّبه النصّ الشعر في نماذجه الرفيعة.

أجري هذا الحوار بمناسبة صدور الترجمة العربية لمختارات من شعر تشارلز بوكوفسكي بعنوان وحيداً في حضرة الجميعوالتي ترجمها الشاعر السوري عبد الكريم بدرخان وصدرت مؤخراً عن عن دار فضاءات في عمان، الأردن.

كيف يفكر الشباب في سوريا في ظل الحرب

كيف يفكر الشباب في سوريا في ظل الحرب

ملف أعده عمر الشيخ وأسامة إسبر

ننشر المساهمات التالية لكتاب وشعراء وصحفيين وموسيقيين سوريين شباب في إطار ملف يركز على رؤية جيل الشباب في سوريا لتأثيرات الحرب الدائرة حالياً على كافة المستويات.  سننشر المواد تباعاَ ونقوم بتفعيل روابطها.

وقد عالج الكتاب المساهمون قضايا مختلفة في إطار أجوبتهم على الأسئلة التالية:

1- ماهي برأيك أكثر الظواهر الإنسانية التي كانت في الظل وعرتها الحرب في سورية وبات حلّها ليس متوقفاً على توقف الحرب وحسب، بل وعلى تغيير شامل وحقيقي.. سياسي فكري.. اجتماعي؟  

2- هل كانت غلبة الحضور الديني في المجتمع أساسية ومسيسة، كيف برأيك انعكست على الأحداث في البلاد ومن أثر بها واستثمرها؟

3- كيف ترى الثقافة كمصدر تنويري يمكن أن ينشر الوعي في المجتمع في مواجهة أي تطرف اجتماعي أو ديني أو عسكري أو اصطفاف عقائدي أو مناطقي؟!

4- كيف تنظر إلى ما يجري في سوريا في الوقت الحالي؟

5- كيف أثرت الحرب على حياتك؟ كيف عشت\تعيش حياتك في ظل الحرب؟

6- كيف أثرت الحرب على علاقتك بأصدقائك؟

7- هل تتصل مع شباب آخرين من طوائف أخرى؟ هل تشعر بأن الطائفية صارت علنية في سوريا؟

8- برأيك إلى أين تتجه سوريا؟

9- هل هناك أنشطة أو مشاريع في ظلّ الحرب تشعر أنها تعبّر عنك؟

10- هل هناك أفعال يجب أن يقوم بها الشباب في ظل الحرب كي يحافظوا على ما يمكن المحافظة عليه؟

11- برأيك من المسؤول عن إيصال سوريا إلى هذا الوضع الحالي؟

12- كشاب\شابة ما هي الأولويات بالنسبة لك في ظل الأوضاع الحالية؟

13- كشاب\شابة كيف يمكن أن يلعب جيل الشباب دوراً لإنقاذ سوريا وهل هذا ممكن؟

14- برأيك كيف يمكن التخلص من الطائفية في سوريا، كيف يمكن محاربة هذه الظاهرة والمنظومات التي تحاول أن تغذيها؟

الكتاب المساهمون في الملف

 ١: رهانات خاسرة
عامر العبود

٢: الموسيقيون السّوريون في نفق الحرب
عامر فياض

٣: تعايشاً مع الحرب: هكذا تمضي الصداقة
أحمد محمد السح

٤: تناقضات فكرية في الحرب تضيق وتتسع في آن معاً!
ملك بيطار

٥: أن تتعلّق بقشّة
شمس حمود

٦: صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ!
علا حسامو

٧: مُفارقات الكتابة في الكارثة السّوريّة
عمر الشيخ

٨: مشاهد في ظلّ الحرب
قصي زهر الدين

٩: نجوم شباك نشرات الأخبار
فريد حسن ياغي

١٠: ماذا عن الوطن؟
لبنى أبو خير

١١: كنت أخاف المسلمين وكل من كانوا لا يحملون ديانتي
يارا عيسى

‘How can I support this team?’ Divided loyalties for Syrians haunted by civil war

‘How can I support this team?’ Divided loyalties for Syrians haunted by civil war

“Like the country itself, feelings about Syria’s national football team, who play Australia tonight, are complex.

When the Syrian national football team walks onto the pitch in Sydney tonight , Obay Al-Akul won’t be inside the stadium cheering but outside protesting.

He won’t be alone. A Syrian national who grew up in Damascus before arriving in Australia in 2014, Al-Akul is one of the 5.1 million people who have fled Syria’s civil war as refugees.

For many, the national side’s unlikely progression to the playoffs for 2018 World Cup qualification is less a fairytale and more a continuation of the nightmare that has seen more than 400,000 people killed since the Syrian uprising began in 2011.

“How can I support this team when so many civilians have been killed in Syria,” Al-Akul said on Tuesday. “How can I when too many athletes have been arrested and some of them killed by the regime because they supported the Syrian revolution.”

But like the country itself, feelings about the Syrian national team – who could end the Socceroos’ World Cup qualification hopes tonight – are complex and divided.

When Syria secured their two-legged playoff against Australia with a dramatic late equaliseragainst Iran last month, it prompted celebrations in the streets of Damascus.

The result seemed so unlikely for a team ranked 75th in the world from a country ravaged by civil war, that many, like George Salloum from Granville in Sydney’s west, saw it as a rare reprieve from all the “bad news” the country his family migrated from faces.

Salloum was born in Australia, but many of his family still live in Zweitina, a Greek Orthodox Christian village near Homs in the country’s west.

“It’s good for Syria – with what’s happening there you’d think there would be no soccer team,” he said.

“People think the whole country is in ruins, but it’s showing the world we’re still up there and thriving. The country is still up and running, and people are so proud of Syria.”

But is Syria an example of triumph over adversity, or a cynical propaganda display from a despot?

After the Iran match, in an eerie demonstration of the cult of personality that surrounds the Assad regime, the players assembled on Syrian television to praise the dictator.

Among them were Firas al-Khatib and Omar al Somah, two players who before the Iran match had not played for Syria since 2012 in a boycott of the regime.

“First, we thank president Bashar al-Assad for honouring all the players,” al-Khatib said in a broadcast translated to English on Youtube. Al Somah mimicked him: “I thank president Bashar al-Assad for his support of sports and athletes,” he said.

Anas Ammo, a Syrian sports writer who has lived in Turkey for the past five years after fleeing the civil war, said the staged press conference was a display of how the national side has been co-opted by Assad.

“All the people in Syria love football, and six years ago we would be celebrating,” he said. “But this team – this is not a football team – this is a political team. This is a dictator’s team.”

Ammos, who says he’ll be supporting Australia, said the reasons for the player’s support for the national team were also varied and complex.

Some genuinely support Assad, while he believed others, such as al-Khatib, faced political pressure.

“Whatever happens, 12 million Syrians will love me,” he told Fainaru. “Another 12 million will want to kill me.”

Like many, al-Akul, who now lives in western Sydney, believes Assad is using the national team to project an image of normality to the international community.

“He didn’t care about football or sport before this – in Syria we had bad teams, bad funding, now all of a sudden he supports all of that?” he said.

“He wants the propaganda to show the world ‘look, after seven years of war we don’t care, we go to the World Cup qualifier’.”

It’s certainly true that the regime’s support for its athletes is newly found. Ammos believes at least 13 league football players are missing or in government detention. Almost 50 have been killed by government forces. And many have come up against the regime since the 2011 uprisings.

This week the website of the Asian Football Confederation published an interview with Syria’s most capped player, goalkeeper Mosab Balhous, on the country’s unexpected success.

Balhous, 34 and now based in Omar as a coach for Dhofar, predicted the team would beat Australia on the back of the “spirit, desire and determination of the players”.

He also expressed regret that he wouldn’t be there, telling the website that it was “an honour for any player to represent his country”.

What it didn’t mention was that Balhous was arrested by government forces in 2011 on charges of supporting opposition movements and sheltering rebel fighters, and vanished for a year before suddenly rejoining the national squad in 2012.

Jihad Qassab, a former Syria captain who led his club al-Karama to the 2006 Asian Champions League final, died inside Saidnaya military prison in Damascus in late 2016 after being accused by authorities of making car bombs, an allegation he denied.

A second person named George Salloum, this one from Avondale Heights in Melbourne’s north-west, has been watching Syria’s matches on television.

Salloum moved to Australia from Syria 45 years ago as a 19-year-old. Usually he’d be supporting Australia, but he says the sentimental pull of Syria is too great.

“I should be supporting Australia because I have been here all my life [but] it’s human nature, you always have a soft place in your heart for the place that you’re from,” he said. “Plus, Syria are the underdogs.”

But, Salloum said, he understood why many didn’t feel able to support Syria.

“What has happened is a catastrophe in any way you want to measure it, cities and villages have been destroyed and people have been killed on both sides,” he said.

“The hatred and division is so profound it will take generations and generations to heal it.

“I don’t have any grudge against anybody.””

[This article was originally published by The Guardian.]

غيهب مدينتي

غيهب مدينتي

وصلتْني منه صورةٌ سوداء معتمة بعد أن أرسلتُ إليه لقطةً للمدينة التي أعيش فيها سمّيتُها مدينة الضوء. في البداية ظننت أن صورته لقطة فاشلة التقطتْها الكاميرا نتيجةً لخطأ ما. كانت حالكة السواد، وكتبَ تحتها:”صورة مدينتي”. نظرتُ إلى الظلمة المؤطرة، إلى الأعداد الغفيرة التي تعيش فيها، إلى حيوات مدفونة وذكريات مطموسة وطفولات وأحلام مجهضة. هل غمرتْ الظلمة مدينة بأكملها، بحيث لا يومض ضوء واحد في هذا الغيهب؟

نَفَضْتُ هذه الإيحاءات من ذهني، وأغمضْتُ عينيَّ متخيّلاً مدينة مضاءة، مدينة النور، الوجوه فيها نورانية ليس من ضوء خارجي بل من ضوء ينبع من الداخل، الأعين تتوهج وهي تنظر إلى الآخر، الجمال أفق ومتعةُ العيش هوية تنير الوجوه، ثم فتحتُ عينيَّ ونظرتُ إلى الصورة التي أرسلها صديقي: ظلمة لا تُخترق، قال إن الوطن غرق فيها.

أخرجَ من القاموس مرادفات لكلمة ظلمة ودَوَّنَها تحت الصورة. كان مولعاً بالكلمات، قال إنه حين يقرأها يشعر بأنه يمسّد فراءها، ويلمس بشرتها.

كانت مرادفات كلمة ظلمة كثيرة: إِسْوِدَاد، جَهْمَة، دَجْن، دَيْجُور، دُجًى، دُجُنَّة، دُجْنَة، دُهْمَة، سَدَف، سَدَفَة، سَوَاد، سُدْفَة، طَسَم، ظَلاَم، ظَلْماء، عَتْمَة، غَبَش، غَسَق، غَطَش، غَيْهَب، غَيْهَبَان، غُبْسَة، قَتام، لَيْل. لم تكن أيّ منها تعبّر عن الظلمة التي في الصورة. كان في الصورة جاذبية هائلة، جاذبية الظلمة، التي توحي بأفكار لانهائية، فقد بدا كما لو أن الضوء مطرود منها، أو منفيّ، مثلي رغم أنني لا أعدُّ نفسي ضوءاً فأنا مزيجُ أنوار وظلمات، أحلام وكوابيس، نجاحات وإخفاقات، تطلعات وانهدامات.أما حيث هو، أعني صديقي، وحيث كنتُ، أي وطن ولادتي، فمن غير المسموح لك أن تضيء أو تستضيء، قد تلجأ إلى أضوائك الخاصة، كأن تتخيلها في الداخل، وتحوّل النور من بُعْد خارجيٍّ إلى بعد داخلي، ولكن الليل المعتم المكثّف الذي في الصورة، كان قوياً وحاداً كنظرة أسد جائع.

بحثتُ في قاموس ما أزال أحتفظ به عن مرادفات كلمة ضوء، كان هناك الكثير منها، وجاءت تحت عنوان “أضداد كلمة ظلمة”: النّور، الضِّياء، السَّناء، إِشْراقٌ، إِصْباحٌ، التماعٌ، بهاءٌ، بَرِيقٌ، تَبَيُّنٌ، تَلأَلُؤٌ، سطوعٌ، صَبَاحٌ، ضُحًى، ظُهُورٌ، فَجْرٌ، لامِعٌ، لمعانٌ، لياحٌ. لم أشعر أن لهذه الكلمات وقعاً، أو أن فيها بعداً إيحائياً كمرادفات كلمة ظلمة، هل السبب هو أنني أميل إلى الأسرار، إلى ما هو مبهم وعصيّ على التفسير؟ أم هل لأن انشغالي بالظلمة في تلك الصورة، صورة مدينة من الوطن، هو الذي ولّد لدي هذا الإحساس؟ هل كانت حياتي في كل تلك السنوات السابقة بهذا السواد؟ أتذكّر أنني كنت أرى ضوءاً وأنا أتنقل أو ألتقي بالآخرين. أتذكر أن الشمس كانت تشرق، وأنني كنت أشعل اللمبة أو أشعل شمعة حين تنقطع الكهرباء. هل فقدتُ كل هذا؟ هل مُحيَ كلُّ هذا من ذاكرتي بحيث أنني لا أذكر سوى الظلام؟

أرفقَ الصورةَ بوصفٍ موجزٍ للظلمة التي تُكوِّنها. قال إنه منذ أن تشكّل وعيه شعر أنه مؤطر بالظلام، فشاشات التلفزيون، كانت معتمة طيلة عقود، لا شيء يشتغل عليها حين تضغظ الزر، فيما يصدر من المحطات الإذاعية هدير كأصوات أنهار خفية ترفد الظلام. أما الصحف، فكلها حبر أسود، هناك أحياناً سطور، عبارة عن خطوط سوداء، لكن دون كلمات. أما المدينة فتعيش حياتها بشكل باطني، لا أحد يتحدث إلا عن فضائل الظلمة.

قال إن النبي يونس رُميَ في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، والجنين يعيش في ظلمة جدار البطن، وظلمة جدار الرحم، وظلمة المشيمة بأغشيتها، ثم يولد في ظلمة الكلمات كي يُرْمى فيما بعد، معنا، كباراً وصغاراً، في مائة ظلمة وكل ظلمة أشد من الأخرى.

لم يتغيّر شيء في بلادنا طيلة عقود، لم تنزع عنها غشاء الظلمة وتخرج إلى الضوء. كان هو الصديق الوحيد الذي حافظتُ على صلة به، وكان يتحدث دوماً بهوس عن الهجرة والسفر لكنه لا يقوم بأي فعل في هذا الاتجاه، ثم أحياناً يتحدث عن السفر داخل المكان، أي حين ترفض الانتماءات الضيقة تتحول إلى غريب في هذه الأمكنة، ومن ثم فإن الإحساس بهذه الغربة يتحول إلى معينٍ لا ينضب لأفكار مثيرة، تُغْني حياتك.

صارت علاقتي معه عبر الكلمة والصوت بعد أن صدر قرار بمنعي من دخول البلاد بسبب مقالة ساخرة تحدثت فيها عن خطاب للرئيس، قلتُ فيها إنه لولا عيب واحد لكان عبقرياً في انتباهه إلى التفاصيل، ينتبه إلى كلّ شيء باستثناء حقيقة ما يجري في البلاد، يتحدث عن التقدم العلمي في كل أنحاء العالم ويغفل انهيار التعليم في بلاده، يتحدث عن أنواع الأزهار، يركز على الأوركيدا، وأحياناً يستخدم الشاشة كي يعرض أمثلة عن أنواع الورود المستوردة في قصره، فيما الوردة الجورية والياسمينة لا تُلْمحان في شوارع البلاد. يجتمع بالخبراء لكنه يستولي على الحديث، ولا يصغي. كان جميع زواره يجدون أنفسهم مجبرين على الصمت. كان علّامة في كل شيء والذين يصمتون في حضرته ويصغون إليه ويداهنونه هم الذين يتولّون المناصب. بعد ذلك ينتقل إلى حديث عن الجرذان والجراثيم مشيراً إلى بعض منتقديه، متبجّحاً أن شعبه، (لا أعرف ما الذي عناه بهذا المصطلح الغامض)، رمى في القمامة شخصيات كثيرة.
كان يحصي كل يوم عدد مسامير الكرسي الذي يجلس عليه، اكتشف مرةً أن مسماراً نُزع منها فقصف بلدة يُشَكّ بولاء سكانها، وحين نُزع المسمار الثاني قصف بلدةً ثانية، وكلما نُزع مسمار محا بلدة عن الخريطة بسلاح الطيران، وحين نُزعتْ المسامير كلها اختفت المدن، ولم يتبق إلا المطارات والطيران.

أحد العائدين من مخيمات اللجوء خارج الحدود قام برحلة بحث عن منزله فلم ير إلا حطام المنازل وطائرات حربية في مطارات مهجورة. كان البرد شديداً فبدأ البحث عن الحطب، عثر على بعض القطع الخشبية، كانت هذه قطع أخشاب كرسي الرئيس. كوّمها وكونه لا يملك عود ثقاب أو ولاعة بحث عن حجرين بدأ يحكهما ببعضهما حتى أشعل ناراً، في هذه اللحظة دوّى الرعد وانهمرتْ أمطارٌ غزيرة أطفأتْ النار. لعن اللاجئ خشب البلاد وسماءها وأرضها المدمرة، وقال: من الأفضل لي أن أعود إلى الخيام.
أما الذين فرّوا فقد غرق قسمٌ منهم في البحر، وأُعْدم قسمٌ آخر على الهوية بعد أن عمّتْ الفوضى وتشكلت جيوشٌ كثيرة، الأثرياء تمكنوا من عبور الحدود وتوكيل محامين والحصول على لجوء في بلدان أخرى. الفقراء تكوّموا في الخيام. بضعة أخشاب ومسامير دمرت بلاداً بأكملها.

أرسلت لصديقي صورة ثانية للمدينة التي أعيش فيها، وهي صورة ملتقطة في الليل عن سطح بناية مرتفعة. الأضواء ترسم مخطط المدينة، شوارع من الضوء تتفرع في أزقة من الضوء وعلى أطرافها نوافذ من الضوء، فرد صديقي قائلاً: إن هذه الأضواء التي ترسلها ليست إلا ديكوراً للظلمة، وأرسل مرة أخرى الصورة السوداء، المعتمة، التي ليس فيها سوى الحلكة الشديدة وكتب تحتها: هذه هي مدينتي، ليس حين تنقطع الكهرباء، بل في الأوقات كلها.

أطّرتُ الصورة التي أرسلها إليَّ، مسحوراً بالظلمة التي حين أنظر إليها تُضاء بلادي بكل تفاصيلها في ذهني، صارت هذه الصورة السوداء ضوئي المتوهّج في ظلمات المنفى. أعادت الحياة إلى أفكاري، وشعرتُ بتوثب العشرينات من عمري، ذروة الاندفاع نحو حياة بحاجة للاستكشاف والتجريب، كمراهق يسرج فرس رغباته وينطلق.

أمعنُ النظر في الصورة المعتمة كل يوم مخترقاً حجاب الظلمة مشاهداً الضوء في كل مكان، في جميع الوجوه، في الابتسامات الجميلة المرحبة، في وجوه الشبان والشابات، في وجوه العابرين في الشوارع، أضواء تنبع من هذه التفاصيل وترفد المدينة بضوء آخر، وكم أحن إلى هذا الضوء القابع تحت العتمة في صورة مدينتي، كم أتوق إلى الحفر والوصول إلى ينابيعه ونزع أختامها كي يفيض.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
كتابة الحرية

كتابة الحرية

[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري نبيل الملحم

قد يكون منظرو الرواية هم أسوأ الروائيين، تمامًا كما تكتب الرواية التاريخية على أيدي أسوأ المؤرخين.. فالرواية بالنتيجة ليست “الحدث”، وليست “القضية”، الرواية هي من يروي.. كيف يروي؟
وعندما تتحول القضايا الكبرى إلى عكّاز لقدم الروائي، فلن يلغي هذا كون الروائي “أعرج”.

الهزّات.. الحوادث الكبرى ليست أكثر من استفزاز لذاكرة روائية.. أو لصياغة ذاكرة جديدة تأخذ مساحتها في الرواية ففي المحصلة الرواية هي “ذاكرة”، والأهم هو كيف تتذكر؟

تتذكر بشر بما يحمل البشري من تنوع يتأرجح ما بين الفضيلة والرذيلة، الحب والكراهية، الإعصار والرماد، وهذا بالتحديد يتصل بمن يتذكر، وكيف يصيغ هذه الذاكرة، وكيف يحييها أو يميتها، فالحرب، العنف، السطوة، الاستبداد، هاجس العدالة، كلها لاتكفي أن تكون الصلصال الذي يمنح منحوتة روحها.. بالنتيجة يد النحّات هي التي تُقرر.

كل ماسبق كلام عام، كلام في الموقف من الرواية كفعل إنتاج حياة على الورق، غير أنه حين يتصل الأمر بفعل محدّد هو الحرب السورية، بما مهّد لها وآلت إليه، فمن الصعب العثور على رواية هي رواية أولًا والحرب مادتها ثانيًا، وهذه إشكالية وقعت فيها القصيدة كما وقعت فيها الرواية، وربما يكون السبب هو استجابة الروائي لمتطلبات الرأي العام لا احتياجات الرواية بما جعل الرأي العام مادة خام، والقارئ زبونًا، وبوسعي أن أحكي عن أعمال روائية محدّدة وعن روائيين محددين خارج استطلاع رأي، وإذا كان كلامي صحيحًا (كليًّا أو جزئيًا)، فلهذا معنى واحد هي أننا أمام رواية عرجاء، عكازها “قضية بساقين مكتملتين”.

هذا عن رواية الحرب، أما عن رواية الاستبداد، فالاستبداد لم ينبت اليوم، والرواية لم تستنبته، الاستبداد متراكم عمره أعتق من عمر جيلنا والأجيال اللاحقة، ولا أظن أن “كريزا الحريّة” تكفي لانتاج رواية.. الرواية تطلقها تلك الحريّة الداخلية المُعاشة، المتراكمة فينا، تنتجها الشجاعة الأصيلة في الكاتب، والذي يكتب روايته حتى ولو كان بين فكي الغول.. ونحن اللحظة، في مساحة الكلام السهل، غير المكلف، الكلام الذي لايحمل مجازفة الحياة ولا مغامرة الكتابة، وهذا سيقلّل كثيرًا من قيمة منتجنا، وحين تسألني إذا ماكان الروائي مؤرخًا للّحظة فأقول لك:”ليس من رواية تؤرخ، فللمؤرخ مقعد المؤرخ، وللروائي مقعده، وحين يأخذ الروائي مقعد المؤرخ فهو مقعد إما فضفاضًا وإما ضيّقًا وفي الحالين مسخ.. في توثيق الحادثة التاريخية ليس ثمة علامة صحيح 95 بالمئة، أو واحد بالمئة، ثمة 100 بالمئة أو صفر، فالحادث التاريخي إما أنه وقع أو لم يقع، ولا مكان لنصف أو ربع وقع، أما في الخيال الروائي فإما أنه خيال خلاّق وإما أن يكون خيال شاحب، والفوارق شاسعة ما بين المورخ والروائي، وبين متطلبات الأول ومتطلبات الثاني، وأدوات الأول وأدوات الثاني، وتبادل المقاعد يخسر التاريخ ولا يربح الرواية، ويحصل الآن هذا التبادل، يحصل بشدّة استجابة لروح الدعاية، ولمتطلبات الرأي العام، بل لمتطلبات الراعي السياسي للرواية من قوى سياسية وصحف ومواقع ترويج، بما جعل الرواية بضاعة مؤقتة تستجيب للسوق، ولا أظن أن الفعل الروائي الذي هو فعل مخاض، سيكون وفيًّا لمخاضاته إن كان السوق مُرضعته.

ثمة سؤال في ملفكم هو: “هل تكون الكتابةُ في الحيزِ الضيقِ، حيزِ المواجهةْ، طوق نجاة في مواجهة هذا الخراب العميم؟ وما أهميةُ الكتابةِ في اللحظةِ الراهنةْ؟” أجيبكم أن الكتابة ليست طوق نجاة، غير أن مطرقة الحجّار تهوي بعشرات الضربات لتكسر الصخرة الصلبة، والرواية الخلاّقة – المطرقة، هي واحدة من هذه الضربات وقيمتها بقيمة شدّتها، ويد حاملها، وزاوية الصخرة التي يكيل ضرباته عليها، فهي فعل حياة، وفعل إنتاج حياة إذا كانت هي حياة، وما قيمتها في اللحظة الراهنة؟ هو السؤال الأكثر خطورة، فاللحظة الراهنة ليست رافعة لقيم الكتابة الموجوعة، القيم التي تؤصل لما بعد اللحظة.. هي قيم الكتابة السريعة.. قيم تويتر.. فيس بوك.. الانطباعات، أكثر مما تؤصل لقيم الاستغراق في تفكيك الأسئلة التي تطال عمق وجودنا فوق هذا الكوكب.. في هذه البقعة منه.. في طوفانه.. الكتابة حزينة، والوقت ليس لحسابها.. الوقت لحساب مسخ الكتابة، لحساب سوقها.. هاجس اليوم بات السوق.. مع ملاحظة أن كل ماقلته في كلامي هذا هو في الاطار العام لما يحدث للكتابة، غير أن في اللوحة مايكسر كلامي هذا ويقول: “لا.. ثمة كتابة أخرى.. في مكان آخر.. ليست كتابة بسطات وسوق”.

*************

نبيل الملحم في سطور:

صحافي وروائي سوري من مواليد السويداء عام 1953. درس الحقوق في جامعة دمشق والصحافة في جامعة القاهرة، ويقيم حاليًا في برلين/ ألمانيا.

يكتب في العديد من الصحف والمجلات العربية، ويدير حاليًا مركز “البوصلة للدراسات والبحوث” وقد صدر عن المركز حتى هذا اليوم (27) كتابًا، آخرها: روسيا – إيران – تركيا.. شرّ البليّة مابين التكتيك والاستراتيجية”، تقديم نبيل الملحم.

أعد وقدّم عدد من البرامج التلفزيونية منها: “ظلال شخصية” عام 1996، و”الملف” عامي 1999 – 2000.

كتب مسلسلين تلفزيونيين “ليل السرار” عام 2003، و”أرواح منسية” عام 2012.

له مجموعة من الكتب المطبوعة منها: “بوليساريو – الطريق إلى الغرب العربي”، “مسرحية أنا وهو والكلب”، “سبعة أيام مع آبو”.

يصفه النقاد بـ”صحافي مشاغب وروائي مشاكس”، وفي زمن الثورة السورية المُختطفة يقول “الملحم”: “ثورتي في نصي.. فيما أكتب”. هو السارد الذي تتناسل في نصوصه الروائية الخمسة التي صدرت مابين 2011 و2013، فجيعة الشخوص على مسرح التاريخ “فالغرقى أكثر من إمكانية إحصائهم”. ولقد وجد صاحب “آخر أيام الرقص”، الذي دخل عالم الرواية وهو في الـ57 من عمره، ويعكف حاليًا على كتابة روايته السابعة “الله حين يحكي”، وجد في الكتابة احتيالًا على الموت، وفي حياة الآخرين مخزونًا لترميم ذاكرة مهددة بالنسيان.. ذاكرة مأمولة تختزن جزءًا من تاريخ عاصف بالتحولات والخيانات، وجزءًا من حيوات بشر بعضهم مضى إلى حتفه، وبعضهم خان طريقه، وبعضهم التحفه النسيان. فكان أن كتب خلال السنوات الخمس الماضية ست روايات، آخرها “خمّارة جبرا”، والتي تصدر قريبًا، وفيها يحفر الروائي عميقًا في ذاكرة دمشق/ المكان، بتحوّلاته الاجتماعية والسياسية، منذ بدايات الاستقلال إلى لحظة هتاف السوريّين للحرية. حيث يقف الشخصية الأساسية في الرواية (جاد الحق جاد الله)، أمام شاشة التلفزيون، التي تنقل أخبار القتل في سورية، ليهتف: الشعب يريد إسقاط النظام؛ فيسقط هو وتتحطّم عظامه التي لن تُجبَر أبدًا. لحظة السقوط هذه لحظة تلخيصية لكل ما مضى من عمر (جاد الحق)، ولكل ما سيأتي، وكأن الراوي يريد بحسمٍ مطلق أن يقول: “إن عظام جاد الحق هي عظام سورية الهشّة، التي لم تحتمل الوقوف والهتاف للحرية، نتيجة عقود النخر في بنية البلاد”. فبقدر ما تتقاطع براءة (جاد الحق)، مع براءة استقلال سورية، يتقاطع تشوّهه المستمر مع تشوّه سورية الإنسان والبلد.

وبقدر ما تبدو السياسة حاضرةً في الرواية، بقدر ما تبدو هامشية، فـ “خمّارة جبرا” أبعد ما تكون عن الرواية السياسية، إنما السياسة فيها مجرّد خلفية للمواقف الفلسفية والقراءة الوجودية، لقيم الحب والذاكرة، والنسيان والموت.

أما “بانسيون مريم” ثالث رواياته، فيأخذنا نبيل الملحم من تداعيات اللحظة السياسية التي يمكن التعبير عنها ببيان سياسي لطبقة أو حزب أو نخبة.. إلى عالم آخر.. إلى تحرير الروح الإنسانية.. تحرير الجنس فيها، وتحرير الأمل كما تحرير الجسد الذي يحلو له أن يرقص بعد ان أُصيب بشيخوخة طالت ثم احتجّت على نفسها.. إنها باختصلر شديد، رواية يمكن قراءتها بعين الغد لا بعيون الأمس المطفأة.

أعماله الروائية:
– “موت رحيم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “حانوت قمر”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “سرير بقلاوة”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “بانسيون مريم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “آخر أيام الرقص”، دار الجمل، كولن/ بيروت 2011.
– “خمّارة جبرا”، قيد الطبع.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
عن مصائر السوريين المأساوية والنهايات الحادة

عن مصائر السوريين المأساوية والنهايات الحادة

[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري ضاهر عيطة

الإنسان هو القيمة الوحيدة التي تعني بها الرواية، بل يمكن القول: إن الإنسان هو طفل الرواية، تتلقفه من رحم الواقع أحيانًا، ومن رحم الخيال في أحايين كثيرة، وتسهر على تنميته وعلى كسائه وغذائه وألق روحه وجسده وفكره ووجدانه، لتشكله حسبما تشتهي وتهوى، فعندما يكتب الروائي روايتها، يكتب ليس فقط عن وإلى الإنسان، إنما يكتب إنسان، يخلقه من جديد، وعليه يصبح الإنسان في الرواية كائن مقدس إن جاز التعبير، ويغدو أي مساس به من خارج الرواية، ضربة موجعة إن لم نقل مميتة للروائي والرواية.

تلاحق الرواية حياة أناسها بأدق تفاصيلهم وعواطفهم وأفكارهم وهواجسهم، ثيابهم صفاتهم ضحكهم حزنهم، وقد تُخصص فصول من رواية، لتحكي عن تفصيل صغير، وربما تصير كل فصولها وسطورها وحبرها فقط للحديث عن لحظة حزن أو فرح، أو لحظة تردد أو لحظة اندفاع تعيشها شخصية في رواية، غير أن ما يحدث في الواقع يكاد يدمر معنى كل تلك التفاصيل، فهو حدث صادم وموجع، ليس فقط للروائي وللرواية، بل للوجود الإنساني برمته، فعندما يغدو قتل آلاف الناس وذبحهم وتعذيبهم أمرًا عاديًا بحكم التوحش اليومي، لا يعود يهم كثيرًا على سبيل المثال، الحديث عن نوع الشاي الذي كان ذاك المذبوح يفضله قبل أن يذبح، ولا الحديث عن ثياب وأحلام تلك التي مزقتها صورايخ الطائرات وأحالتها إلى أشلاء.

نعم الرواية تسهر على ولادة أناسها، وتظل ترافقهم مشتغلة على بنيتهم الروحية والنفسية والجسدية، لتحيك مصيرهم ببطء وهدوء وأناقة وتأني، بينما ما يحدث في الواقع العربي، وخصوصًا السوري، أحال المصائر الإنسانية إلى نهايات حادة، ومباغتة، وفي معظمها لا تتفق مع تطور وصيرورة بنية الإنسان على أرض الواقع. وقد تصل الأمور في بعض الأحيان أن يطرح الكاتب على نفسه سؤال كهذا: ما قيمة أن أخلق امرأة فاتنة الجمال في روايتي، وأنا أدرك أن الواقع أحل ويحيل وسيحيل كل هذا الجمال الأنثوي، وبطرفة عين، وعبر صاروخ يسقط من السماء، إلى أشلاء مبعثرة تنافي كل قيمة جمالية، فهذا القتل اليومي لا يقتل الإنسان فقط، إنما يساهم بقدر كبير في قتل الجمال والأدب والفن والقيم، ولا يعود هناك ثمة قارئ، فما الذي سيلفت انتباه القارئ ويدهشه ويضيف خبرة إلى خبرته وهو يرى السكاكين تفصل الرؤوس عن الأجساد، والصواريخ تكتب المصائر المأساوية، ليس فقط مصائر البشر بل ومصير الجغرافية والوجود، فلا أظن أن قارئ خرج لتوه من تحت أنقاض بيته، أو مثّل بجثة حبيبته أمام عينيه، أو استحالت أمه إلى أشلاء وهي تعد له طعام الفطور، أن يكون لديه شغف أو رغبة، ليقرأ رواية، فثمة ألف ألف رواية قد عشعشت في رأسه، وبات لديه فائض منها، ومن خلال تجربتي الشخصية كثيرًا ما صادفتُ أشخاص عاديين، وما إن يعلموا أنني أعمل في حقل الأدب والرواية، حتى يعبروا عن سخرية دفينة، معلنين عن امتلاكهم لألف رواية، مقترحين عليّ أن اصغي إلى رواياتهم عساها تغنيني ساعة الكتابة، إذًا لعلى الرهان في كتابة الرواية لم يعد على قارئ غارق في الدم والخراب والهجرة والاعتقال، إنما هو رهان مؤجل، يتطلع إلى جيل سيرث هذا الجيل، ويكون لديه عطش لقراءة رواية ما حدث في يوم غابر، ولكن كل هذا لن يمنع الروائي من أن يكتب، وإلا شاخ سريعًا أو نال منه الموت قبل الأوان، فحال الروائي بات كحال القارئ، فهو أيضًا مستغرق في الوجع، والدم، وكثيرًا ما يكتب ليهرب من خوفه، ليهرب من الموت الذي يلاحقه، يكتب على أمل أن يقول كلمة ما في الموت قبل أن يموت، أو يكتب ليعلن: أنه وإن كان عاجزًا عن القيام بفعل يوقف شلال الدم على أرض الواقع، فأنه يفعل أشياء كثيرة على الورق، وبهذا المعنى بات الكتّاب يكاتبون بعضهم، أو يكاتبون المؤسسات المعنية بشؤون الكتابة والثقافة والجوائز.

فكل ما يحدث وما يحيط بالكاتب يترك أثره عليه وعلى ما يكتب، ففي روايتي الأولى “لحظة العشق الاخيرة” والتي نشرت عام 2010 كان ضابط أمن في المعتقل قد غير مصير ثلاث شخصيات في الرواية، منهيًا عمرًا كاملًا من العشق بلحظة واحدة، ولو أني قبلها كنت قد اختبرت تجربة المعتقل لمَ كتبت هذه الرواية على هذا النحو، وبعد نشر الرواية بعدة شهور، كنت شرعت بكتابة رواية جديدة، لكن مع الثورة توقفت عن هذا المشروع ، ورحت أستغرق في رواية مختلفة، ويوم اعتقلت عام 2012 واعتقل معي جهازي المحمول، وكان يحتوي على فصول من تلك الرواية، أحدثت فيَ تلك الفصول المحفوظة في الجهاز المحمول رعبًا مميتًا، فقد كان الإطلاع عليها من قبل عناصر الأمن في المعتقل، كفيلًا بأن يؤدي إلى قتلي على الأقل تقدير لمجرد أنني اسميت ما يحدث ثورة وليس أزمة كما كان يروج من قبل إعلام النظام في حينه، لكن بعد تسلمي للجهاز يوم خروجي من المعتقل، اكتشفت أنهم لم يفتحوا الجهاز أبدًا، بل كانوا قد قاموا قبل اعتقالي بتصوير ونسخ جميع كتاباتي على الفيسبوك منذ بداية الثورة وبناء عليها اعتقلوني، غير أن تجربة المعتقل بحد ذاتها، وما رأيته من سحق لكرامة الإنسان وجلده وتجويعه وتعذيبه حتى الموت، أدت إلى تعديل الكثير مما كنت كتبت، ومع حرق الطيران لحمص ودرعا وحلب وداريا، أيضًا انزاحت بعيدًا خيوط كثيرة من الرواية، وهذا ما حدث مع السلاح الكيماوي على غوطة دمشق، ومع ظهور داعش.. وحتى الآن لازلت أشتغل على هذه الرواية، بل شرعت قبل عام ونصف تقريبًا بكتابة رواية ثانية، أهرب من الأولى، كي أشتغل على الثانية، وأهرب من الثانية للرجوع إلى الأولى. فقبل المعتقل كنت أكتب كي أنتشي بشخوصي الذين يحلقون إلى السماء بجوانح حريتهم التي راحوا يغزلونها، وبعد تجربة المعتقل صرت أكتب هربًا من الخوف والموت، والآن في دول اللجوء أكتب هربًا من الغربة، أو محاولة مني لتتطهر من عار هروبي وترك الأطفال هناك يموتون وحدهم دون أن أقدر على صون ولو قطرة واحدة من دمهم، ولعل هذا ما دفعني إلى استحضارهم في روايتي الثانية عساهم يدركون يومًا أنني كنت قريبًا منهم.

*************

ضاهر عيطة في سطور:

ولد الكاتب والروائي والمسرحي السوري ضاهر عيطة، في مدينة دمشق العام 1966. وهو يقيم حاليًا في ألمانيا.

وهو معتقل سابق في سجون النظام السوري، حيث أوقفته أجهزة الأمن السورية في تشرين الثاني/ نوفمبر بدمشق، لمواقفه المنتقدة للنظام.

حاز إجازة في الفنون المسرحية ، قسم الدراسات المسرحية، من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق العام الدراسي 1994 ـ 1995. وكان منذ العام 2003 وحتى العام 2015عضوًا في هيئة تدريس المعهد .

أصدر في العام 2010 روايته الأولى “لحظة العشق الأخيرة ” عن دار نينوى، دمشق. وقد أعاد هذا العام نشرها إلكترونيًا، من خلال الموقع الرئيسي لدار “كتابوك” المتخصصة بالنشر الإلكتروني عبر الانترنت.

وقال “عطية” عند نشر روايته إلكترونيًا: “جل شخصيات الرواية كانت في حالة اختناق كامل، كتبت الرواية وأنا أختنق مترقبًا خلاصًا ما لم أكن أعرف كنهه لكن استمرار الحياة مختنقًا كان أمرًا مستحيلًا، ولكم في الكتابة أكسجين الحياة أيتها الأقلام المبدعة”.

من مؤلفاته:
– “رقص مع النجوم “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2008.
– “حراس البيئة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2009. ونال الجائزة الاولى في “مسابقة عبد الحميد شومان للتأليف المسرحي للأطفال” في الأردن.
– “طيور الحمام “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2010. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” في سوريا.
– “عصفورة النجاة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2011. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” السورية.
– “براءة بحار”، (نص مسرحي موجه للأطفال)، ، نشر لدى الهيئة العربية للمسرح في الشارقة 2012 بعد فوزه بالمركز الأول في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى الهيئة العربية للمسرح” في الشارقة.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]