تدريباتنا

الحاجة إلى الدواء…كالحاجة إلى الهواء

بواسطة | أبريل 1, 2021

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

“كعادتي كل صباح أشرب القهوة أمام نافذة غرفتي المطلة على الشارع الرئيسي في المدينة، أراقب الغيوم الرمادية في السماء فأتوقع طقساً ماطراً؛ ثم أسأل نفسي ماذا عن طقس الشارع اليوم؟ أطالع وجوه المارة بحثاً عن إجابة فيتوقف نظري بالتحديد عند الصيدلية المقابلة لمنزلي، لا يكاد يخرج أحدهم منها حتى يدخل الآخر، حركةٌ من النشاط اللافت لا تشبه حالة الركود التي تعيشها البلد أو المحلات المجاورة لها والفارغة إلا من أصحابها، أستذكرُ اعتياد عائلتي منذ الطفولة على تقديم مساعدة مادية لصيدلية القرية في كل موسم أو مناسبة. أعود لأسأل نفسي ماذا عن صيدلية المدينة هل يمكنني فعل شيء؟ وقبل أن أنهي القهوة غادرت المنزل قاصدةً تلك الصيدلية وسمعت الإجابة التي أريد: “نعم بالتأكيد.”بهذه العبارات تحدثت راما (اسم مستعار) والتي تبلغ من العمر 26 ربيعاً وتقطن في مدينة جرمانا في ريف دمشق الجنوبي.

 تعمل راما في مجال التدريب الشبابي وتكمل دراستها العليا في جامعة دمشق. تفكر راما في مدى الحاجة إلى الدواء، في حرب تدخل عامها العاشر، وتواصل إطلاق رصاصها على حياة السوريين بدءاً من انهيار الليرة السورية وما يرافقه من جنون في الأسعار، وصولاً إلى طوابير انتظار الخبز وليس انتهاءً بالوقود والدواء. هذا كله ووباء كورونا في أرض الديار والذي فاقم أزمة الأدوية من ناحية فقدانها أو ارتفاع تكلفتها، فبحسب مديرة الشؤون الدوائية في وزارة الصحة د. رزان سلوطة في تصريحات سابقة لها لوسائل إعلام محلية منذ مدة تقول: “هناك شح في بعض المواد الأولية التي نستوردها نتيجة أزمة كورونا وكثير من الدول أحجمت عن تصدير المواد الأولية لديها.” كما وتتحدث عن جاهزية المعامل التي تعمل بكامل طاقاتها لتأمين كافة أنواع الأدوية خاصة أدوية الضغط والسكري والقلب، ولكن ما أن ينتهي الحديث عن تغيب أو توافر بعض أصناف الدواء ليبدأ حول الارتفاع الكبير في أسعاره وتغيير التسعير من وقت لآخر ومن يوم لآخر إن صح القول.

خبايا الصيدلية

“الخير لو قليل بس موجود والدنيا ما بتخلا” هكذا بدأ السيد (منير) حديثه والذي فضّل عدم ذكر اسمه الحقيقي لأنه بحسب قوله “عمل الخير لا يحتاج أسماء.” ومنير صاحب واحدة من أقدم الصيدليات في جرمانا -هي ذاتها التي قصدتها راما- وعند سؤاله عن المساعدات المالية تحدث عن تردد ثلاثة أشخاص بشكل مستمر على صيدليته منذ ما يقارب ثلاث سنوات، يضعون لديه مبلغاً من المال كي يتم تقديم الدواء مجاناً للمرضى الذين لا يملكون ثمنه، وعند سؤاله عن المعايير التي على أساسها يقدم الدواء مجاناً يقول: “لا شروط ولا معايير هذا يعود للتقدير الشخصي للحالات” ويتابع حديثه؛ عند دخول سيدة كبيرة تسأل في البدء عن تكلفة وصفة الدواء الذي طلبه الطبيب فعندما يرى ارتسام علامات التردد والارتباك على ملامحها يدرك حينها ضرورة تقديم الدواء دون أخذ حقه ويقول للسيدة: “هذا الدواء من فاعل خير”.

ويذكر السيد منير أنه في بعض الحالات تأتي إحداهن وتسأله عن سعر الدواء وبعد معرفتها تخبره أنها ربما تعود ثانيةً فيحدثها عن ضرورة أخذ الدواء ويقدمه دون مقابل وإذا ما رفضت يقول لها: “الدوا ضروري لحالتك خديه وروحي يا حجة”، ذلك أنه حتى عند صرف كامل المبلغ الموجود في الصيدلية من قبل فاعلي الخير، تقديم الدواء مجاناً لبعض الحالات لا يتوقف عند صاحب الصيدلية الذي يقول عن إعطاء دواء لمريض دون مقابل “المريض بشوفها كبيرة كتير”.

كما يذكر أنه عند تقديم الدواء مجاناً لأحد أبناء المنطقة والذين يعرفهم بحكم عمر الصيدلية البالغ نحو 40 عاماً، قد يرفض أحدهم في البداية وذلك بسبب الحرج الاجتماعي لكنه يردد على مسامعهم أن ذلك من فاعل خير كي يخفف من وطأة الموقف عليهم.

بضع حبات تكفي

لا يقتصر الأمر على تقديم المال فقط فهناك العديد من العائلات التي تذهب إلى الصيدلية وفي جعبتها الكثير من علب الدواء المتنوعة التي تنقصها بضع حبات فقط وضمن مدة الصلاحية ليتم تجميعها في صندوق مخصص يتم تقديمه إلى جمعيات خيرية أو مؤسسات أو نشطاء الخدمة الاجتماعية في بعض الكنائس، إذ تملك هذه الجمعيات طبيباً مختصاً قادراً على فرز وتصنيف ووصف الدواء للأفراد الذين يرتادون هذه الجمعيات، كما يمكن تقديمه لبعض المرضى أيضاً وهذا موجود في أغلب صيدليات المنطقة بحسب السيد منير.

تناقضات صارخة

حيث يد الغلاء تضرب وتجرح في كل مكان تأتي يد الخير لتداوي أيضاً في كل مكان، هذا ما يؤكده حديث راما: “صديقتي في القرية التي أنتمي إليها في ريف السويداء الجنوبي افتتحت صيدلية جديدة وباتت تعرف العائلات والنساء الأرامل وأضع لديها مبلغاً من المال بالقدر الذي أستطيع”، وتابعت: “لست وحدي من يفعل ذلك، صديقتي الثانية في القرية محامية تعمل كل فترة على القيام بمبادرات شخصية كجمع مبالغ مالية منها ومن عائلتها وأصدقائها المسافرين في الخارج ووضعه في صيدلية القرية الأساسية خاصة وأنّ صاحبها يعرف كل أهل القرية وعلى دراية بالعائلات والأشخاص الذين لا يمكنهم دفع ثمن الدواء وتحديداً أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة كالضغط والسكري والقلب وبحاجة مستمرة إلى الأدوية، حيث يوجد في الصيدلية أيضاً صندوق مخصص للمساعدات المالية يتم دعمه بشكل كبير من قبل المغتربين.” كما تطرقت إلى عدم اقتصار المبادرات على الدواء، ففي شهر أيلول ومع اقتراب المدارس تم إطلاق مبادرات اجتماعية لدعم التعليم، وكمثال عن ذلك تقول المحامية ميرفت: “قمنا وأصدقائي المقيمين في الخارج بإنشاء مبادرة اجتماعية هدفها جمع التبرعات من أجل تجهيز كافة الطلاب في القرية، ولكافة المراحل التعليمية بالدفاتر والأقلام والكتب نظراً لغلاء القرطاسية ومستلزمات المدارس وكي لا يكون هناك فوارق طبقية بين الطلاب، وتشمل المبادرة تأمين متطلبات الفصل الأول والثاني”، علماً أن هذه المبادرة ليست الأولى فمع بداية الحجر الذي فُرض على البلاد في الشتاء الماضي قامت ميرفت وأصدقائها بتأمين سلال غذائية للعائلات المحتاجة في القرية حسب ما روت.

إننا محكومون بالدواء

من الجدير ذكره أن المبادرات التي تقوم بها الجمعيات والمنظمات وخاصة المبادرات الفردية والشبابية ازدادت في الفترة الأخيرة في سوريا خاصة في ظل الظروف التي فرضها كورونا والحاجة إلى الأدوية بمختلف أصنافها، إذ يبدو الاستئذان من المسرحي السوري سعدالله ونوس صاحب مقولة “إننا محكومون بالأمل” وارد جداً الآن، فبعد مضي نحو 24 عاماً على مقولته تلك وفي عصر الوباء بات القول اليوم “إننا محكومون بالدواء”، لا سيما في بلد يشهد حالة من الانهيار الاقتصادي وانخفاض مقومات الحياة وارتفاع الأسعار الجنوني ما قد يعني إصابة أفراده بضغط الغلاء لا الدم فقط، وفرط الجوع لا السكري فقط، لكن كما هو الحال في علاج كورونا حيث لا قدرة إلا على معالجة الأعراض لا الأسباب، هكذا تأتي مبادرات السوريين على الصعيد الشخصي والاجتماعي  لتكون مسكّناً يساعد في الصبر على آلام المعيشة وتضييق الخناق.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا