تدريباتنا

نساء البشتون السوريات

بواسطة | أبريل 20, 2019

في أنطولوجيا شعرية قرأت هذه العبارة عن نساء قبائل البشتون في أفغانستان “نساء البشتون لا ينتحرن بالرصاص، ولا بشنق النفس، فالسلاح والحبال من أدوات الرجال، وأجسادهن لا تجد راحة إلا في أعماق الأنهار: قفزة واحدة إلى الهاوية ويُغرق الماء كل الأحزان والرغبات.” وإن كان ينطبق ذلك على النساء البشتونيات في أفغانستان، فهو ينطبق على الكثير من المجتمعات النسوية في الشرق عموماً، وحتى على النساء اللواتي هربن من الحروب والتخلف والعادات الرجعية في بلدانهن لتلجأن إلى بلدانٍ أخرى أكثر انفتاحاً وحرية أيضاً.

ففي هذا العام قام لاجئ سوري في ألمانيا بقتل طليقته طعناً بالسكين لأسبابٍ يراها وجيهة ومحقة متعلقة بالشرف، رغم أنها كانت طليقته لا زوجته، ماتت طعناً بالسكين غارقة بدماءها على يد رجلٍ كان زوجها في يوم من الأيام وأباً لأطفالها.
ولو قُدّر لها أن تكون في بلدها سوريا لربما لم تستطع أن تقدم على الطلاق الذي يكلف في بلداننا غالياً، كالتهديد بحرمان المرأة من أطفالها، ناهيك عن نظرة العائلة والمجتمع التي تكبّل المرأة المطلقة بآلاف القيود.

أجل لو كانت المرأة السورية التي قتلها طليقها في ألمانيا طعناً بالسكين في سوريا، لربما هي من أقدمت على قتل نفسها كما تفعل النساء البشتونيات، أو كما فعلت قريبةٌ لي، لم تتحمل الظروف القاسية بعد ولادتها بطفلتها، فقامت برمي نفسها في نهر في إحدى المدن التركية واضعةً بذلك حداً لمعاناتها.

بعض النساء بعد وصولهن لألمانيا رمين خواتم زواجهن في نهر الراين لينهينّ بذلك سنواتٍ طويلةٍ من المعاناة مع زوجٍ لم يستطع يوماً أن يكون شريكاً حقيقياً. نساءٌ كثيراتٌ بعد وصولهن إلى البلدان الأوربية، استطعن أن يتنفسن أخيراً، أن يتخلصن من أنقاض حياتهن التي أثقلت أرواحهن بأحمال لا طاقة لهن على تحملها، فهن لم تعدن أسيرات المجتمع والحالة الاقتصادية التي تجبرهن على تقاسم الحياة مع رجالٍ يحولون أدنى مطالبة لهن بحق من حقوقهن إلى جحيم.

حالات الطلاق في المحاكم الألمانية التي تُقدم من قبل النساء السوريات تشير إلى معدلٍ مرتفعٍ نوعاً ما، خاصةً وأنّ هذه الحالات تُقدّم من قبل المرأة لا الرجل، وهو يعود برأيي لسببٍ جوهريٍ واحد: عدم القدرة والرغبة في دفع المزيد من الأثمان لقاء حياةٍ بائسةٍ لا تقدم لهن شيئاً سوى الأسى. وليس كما يزعم أنصار المجتمع الذكوري ويروجون له على أنّ تزايد طلبات الطلاق نتيجة انفلات أخلاقي.

إلى جانب هؤلاء النساء القادرات على اتخاذ قرار الطلاق والبدء من جديد، لا تزال آلاف النساء، رغم المجتمع المفتوح والإمكانات والدعم المتوفر لهن، غير قادراتٍ على اتخاذ قرار الطلاق أو التحدي ومواجهة السلطة الذكورية التي يفرضها الزوج والمجتمع. فحتى في ألمانيا تتعرض النساء للعنف الزوجي والتمييز وضغوط العائلة، وهو ما يمنعهن من مواجهة المعركة التي سيخضنها في سبيل أن يكن أكثر حرية وتقديراً للذات.

وإذا كنا لا نغفل أهمية عامل الجغرافيا والمكان في قضية تحرر المرأة وحصولها على دعم أكثر في المجتمعات الأوربية مما يمكنها من القدرة على المطالبة بحقوقها، فإنه ليس حاسماً دائماً. فالإرث الاجتماعي الذي تحمله المرأة معها منذ الطفولة، والمتعلق بالتغاضي المستمر عن حقوقها والعنف الذي يمارس بحقها وصمتها لأجل الأطفال وسمعة العائلة، لا يمحيه وجودها في دولةٍ أوروبية تدعم النساء وتضع أمامهن فرص وخيارات أكثر إنسانية. وبالتالي، فإنّ موضوع تحرّر المرأة من القيود يتعلق أولاً بالمرأة ذاتها، وبرغباتها، وبقدرتها على كسر حاجز الخوف الداخلي لمواجهة الحياة الجديدة بعيداً عن صراعاتها النفسية مع العائلة والتربية والمجتمع. ولربما هذا ما يجعلني أؤكد أنّ المواجهة الأهم التي يجب أن تدخلها المرأة هي مع ذاتها وإرثها الداخلي الذي يمنعها في الكثير من الأحيان من المطالبة بحقوقها في مجتمعٍ يكفل لها الكثير من الفرص والإمكانات لتكون شريكاً ورفيقاً حقيقياً للرجل، وقبل كل ذلك إنساناً له حقوقه الأساسية التي يجب ألا يتنازل عنها مهما كانت المساومة قاسية وشبيهة بانتحار النساء البشتونيات.

* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات

ملاحظة: الصورة المرافقة للمقال هي عمل للفنانة ديما نشاوي – خاص لصفحة ت متحررة.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

أسفار تدمير غزَّة

أسفار تدمير غزَّة

ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذه الوحشّيّة الرهيبة التي تتصف بها الحرب التي يشنّها الصهاينة على غزَّة غير مبالين بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ؟ ويدفعنا إلى هذا التساؤل وضوح أنَّ ردّة...

الرواية وقضايا النساء

الرواية وقضايا النساء

كانت المرأة حاضرة دوما في الأدب والفن عبر التاريخ ولا شك أن ما عانته من معاملة الجنس الأدنى الملوث بدمه والمرتبط بالخطيئة الأولى والطرد من الجنة وارتباط الإغواء بجسدها والمتع الدنيوية المرفوضة دينياً، سيترك صداه في الإنتاج الأدبي والفني سواء العالمي أو العربي، الذي...

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم. "خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون...

تدريباتنا