تدريباتنا

قُسْطنطين زريق وحلمه باتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية

بواسطة | نوفمبر 1, 2023

أعتقد أنَّ أزقة حي القيمرية في دمشق ما تزال تردّد وقع خطوات قسطنطين زريق (1909-2000) إلى يوم النّاس هذا، وهو يسير في هذا الحيّ الذي ولد فيه؛ لكنَّ ضِيْقَ هذه الأزقة لم يمنعه من التفكير أو التنظير لحضارة عربيّة شامخة يُجَلِّيها شعور قوميّ عميق يسري في دخيلة كلّ واحدٍ من أبنائها. إذ كان هاجسه الوحيد هو تكوين دولة عربية مترامية الأطراف تتلاشى فيها الحدود المصطنعة، لتسري فيها روح شعب واحد توحِّده عوامل مشتركة أكثر أولويّة مما يزرع الفرقة والتناحر والبغضاء من عرقيّة وطائفيّة وقبليّة.

  امتاز قسطنطين زريق بفهمه العميق لدور المسيحيين الجوهريّ في تكوين الدولة العربيّة المنشودة؛ وهو بصفته مسيحيّاً اكتشف أنَّ مهمة تشييد صرح الحضارة العربيّة في المرحلة المعاصرة لن تكون ممكنة على الإطلاق ما لم يشارك المسيحيون فيها مشاركةً أصيلةً، فهو يريد كشف حقيقة باقية، حقيقة أنَّه يجب على المسيحيين العرب ألا يدخلوا في متاهة الذوبان في الدول الأجنبية، شرقاً أو غرباً، لاعتقادهم أنَّ العامل الدينيّ يوحّدهم مع الآخر الأجنبيّ-المسيحيّ، ويفصلهم في الوقت نفسه عن أبناء جلدتهم من المسلمين العرب. ويقتضي هذا الوعي أنَّ مشروع الوحدة القوميّة العربيّة فاشل مسبقاً من دون إسهام كياني للمسيحيين العرب فيه، ولن يرتد هذا الفشل على المسلمين وحدَهم؛ بل سيكون ارتداده أكثر خطراً على المسيحيين أنفسهم؛ لأنَّ مفهوم العروبة هو مفهوم كينونيّ لا يقبل أيّ مجال للمساومة، والتخلّي عنه يعني التخلّي عن الهُويّة الوجوديّة الأعمق للإنسان.

ولقد برع قسطنطين زريق في فهم الواقع العربيّ، وكان سبّاقاً من بين المفكرين العرب كافةً إلى التفكير، استناداً إلى استشراف علوم المستقبل، لرسم رؤى لمصير الشعب العربيّ.

رجَّحَ أنَّ هناك احتمالاً مستقبليّاً لاستمرار قوى الطغيان والرجعيّة والتخلف في الأنظمة الديكتاتوريّة-الاستبداديّة ليس في الوطن العربي وحده، بل في العالم كلّه، وسيكون ذلك على حساب قوى التحرّر والتقدّم، وستزداد القوى الأولى شراسة ووحشيّة لما تمتلكه من أدوات قمع على نحو يؤدي إلى القضاء على الحريات رغم الكثرة الكاثرة من الشعارات التي تطلقها هذه الأنظمة باسم حرية الشعوب. ولن يكون هناك أيّ مجال لديمومة قوى التحرر والتقدّم، وستتجه نحو الزوال، وحينها سيفقد الإنسان الشعور بمعنى وجوده، ونبَّهَ إلى أنَّ الأنظمة الديكتاتوريّة ستتحالف على نحوٍ حتميّ مع دول أجنبيّة تبعاً لمصالحها، وهنا ستخضع الشعوب لتمزيق مزدوج: داخليّاً بسبب سلب الحريّات الذي يقوم به الطُّغاة، وخارجيّاً بسبب الهيمنة السياسيّة الغربيّة. وهنا سيتجه مصير الحضارة العربيّة نحو السقوط في هاوية سحيقة لا قرار لها.

ويضع قسطنطين حلاً احتماليّاً لاجتناب هذا السقوط الحضاريّ العربيّ، ولن يكون هذا الحلّ ممكناً إلا بتعاون المتحرّرين العرب من مسيحيين ومسلمين، وإن لم يحصل هذا التعاون فلا يوجد أمامنا إلا الخراب، لذلك لا بدّ من نضال عربي مسيحيّ-إسلاميّ مشترك.

 يقول: “إنَّ هذا يعني المزيد من التلاقي بين المتحرّرين في الجبهتين الإسلاميّة والمسيحيّة ومن التفاعل الخيّر في سبيل تخليص المجتمع من رواسب الماضي، والانفتاح على القوى التقدّميّة في العالم، والتعاون وإياها في شق طرق المستقبل.”[1]

وحذّر من إمكانيّة ظهور قوى تقدّمية وتحرريّة، لكن قد تنمو مؤسساتيّاً على نحو يؤول بها إلى أن تتحوّل إلى شكل جديد للديكتاتوريّة، فالنمو أو التطور حتى للقوى الثوريّة الأصيلة يكتنف مخاطر قد تنعطف بهذه القوى أنفسها كي تتحوّل إلى قوى قامعة للناس بذريعة المحافظة على الثورة أو حماية الثورة.

والحقيقة أنَّ تركيز قسطنطين على أنَّ إمكانية النهوض الحقيقيّ بالأمة العربية مشروطة بالتعاون الثوري المسيحيّ-الإسلاميّ، لا يعني أنّه يصدر في تفكيره عن مطالبة بنوع من الوحدة الساذجة بين أتباع دينين رئيسين في العالم العربيّ، من أجل بلوغ ضرب من علاقة تركيبيّة مفتعلة أثبت استقراء وقائع التاريخ أنّها لم تتحقّق على نحو مثاليّ.

إنَّ دعوته للتعاون المسيحيّ-الإسلاميّ يجب أن تُفهم في أفق فلسفته لمعنى الحضارة الإنسانيّة، لأنّه يؤكد أنّه لا يمكن على الإطلاق فهم أيّ حضارة من الحضارات ما لم يتم فهم الأديان المنتشرة فيها. وهنا يجب الانتباه إلى أنَّ قسطنطين امتلك رؤية عميقة جداً بخصوص معنى الدين ففي رأيه أنَّ فهم حضارة من الحضارات لا يعني فقط فهم الأديان السماوية أو التوحيدية الموجودة فيها؛ بل لا بدّ من معاملة مختلف أنواع الدّيانات حتى الوثنيّة منها بطريقة الفهم نفسها، وإلا سيكون فهم الحضارة منقوصاً، فكلّ شكل من أشكال الدّين يجب التعمّق فيه حتى لو كان مرفوضاً من قبل الأكثريّة، فروح الحضارة تتجلّى في الأديان المنبوذة والمرفوضة كما تتجلّى في أكثر الأديان أتباعاً؛ بل يذهب قسطنطين إلى أبعد من ذلك، إذ يعتقد أنّه حتى في الحضارات التي تغلب على ثقافاتها التيارات الإلحادية في مختلف أشكالها يمكن أن نكتشف في مجتمعات هذه الحضارات نفسه نوعاً من التديّن. إذ يقول: “…إنَّ لهذه المجتمعات، وإن ضعف اهتمامها بالدين بهذا المعنى الذي نتحدث به أو أنكرته وحاربته-إنَّ لها أديانها الخاصة بها بمعنى أعم لهذه الكلمة، فالماركسية مثلاً بهذا المعنى دين، مهما اشتدّ استبعاد أبنائها لهذا الوصف ورفضهم إياه. إنّها عقيدة لها أنبياؤها وأتباعها، وأركان إيمانها وقواعد سلوكها، ونظمها وطقوسها وأوصاف أخرى كثيرة شبيهة بأوصاف الأديان المعروفة…وكذلك قد تتخذ القوميّة-كما اتخذت في الفاشية والنازية-صفة الدِّين وتقوم مقامه. وهكذا إنَّ كلَّ دين –بمعنى ما يدين به المجتمع وما يعتقد أنه الحقيقة هو عنوان بارز لحضارة ذلك المجتمع ودليل من أوفى الأدلة عليها.”[2]

ويمكن أن نستنبط من أفكاره في هذا المقام انّه أراد تحقيق وحدة دينيّة أعلى بين المسلمين والمسيحيين، من أجل بلوغ ما يمكن أن نسمّيه مجازاً دين الحضارة القوميّة العربيّة، ولا شك في أنَّ هذا الإخلاص الكبير من قِبَلِه لمعنى الوحدة الحضاريّة العربيّة يعني أنّه في أعماقه كان شغوفاً إلى أقصى حدّ للارتقاء بالعرب على مستوى يجعل منهم قوّة حضاريّة عظمى على المستوى العالميّ.

لكن يبدو أنَّ التنظير مهما كان عميقاً لا يمكن أن يكون قادراً على تغيير الواقع، وهذه إشكاليّة كبرى في تاريخ الثقافة البشريّة، فالفكر شيء والواقع شيء مختلف تماماً، ولئن حاول الفكر تقديم طُرق لإنقاذ العالم –وهذا حقّ متاح للمفكِّرين-إلا أنَّ الوضع مرتهن في هذه الحالة بعبقريّة المفكِّر وقدرته على استقراء المشكلات والحلول، وليس هذا ممكناً للجميع، لأنّنا نجد كثرة كاثِرة من الحلول الفكريّة الساذجة التي لا تدلّ على أيّ قراءة موضوعيّة للواقع، ولا تعدو أن تكون أضغاث أحلام أو أوهام.

والحقيقة أنَّ آمال قسطنطين زريق بتكوين حضارة عربيّة عظيمة كانت مبنيّة على فهمه الموضوعي لإمكانيات النجاح والإخفاق في هذا العمليّة، لكن يظهر أنَّ قراءة الفيلسوف الألماني هيغل لمسار تطور الحضارات البشريّة تبقى القراءة الأكثر ألماً بالنسبة لنا نحن العرب، ففي رأي هيغل أنَّ الحضارات الشرقيّة على وجه التحديد ومنها الحضارة العربيّة لن تتجه على الإطلاق نحو التطور. ذلك لسبب رئيس وهو أنَّ الشرقيين لم يعرفوا على الإطلاق معنى الحريّة الذاتيّة، وإن عرفوا أيّ معنى لحرية الإنسان، فستكون هذه المعرفة متصلة بحرية شخص واحد هو الإمبراطور أو الملك أو الديكتاتور، فهو وحدَه الحرّ!

  يقول هيغل: “لم يحرزْ الشرقيون أي معرفة بأنَّ الرُّوحَ-الإنسانَ، بما هو عليه، حرّ؛ وبسبب أنّهم لا يعرفون ذلك، فهم أنفسهم ليسوا أحراراً. إنّهم يعرفون أنَّ هناك شخصاً واحداً يمكن أن يكون حُرّاً؛ لكن انطلاقاً من هذا الحسبان بالذَّات، فإنَّ حريّة هذا الشخص الواحد ليست سوى نزوة (…) كانت الشعوب الألمانيّة German nations تحت تأثير المسيحيّة أوّل مَنْ بلغ وعي، أنَّ الإنسان، بوصفه إنساناً، حُرٌّ، أي إنَّ حريّة الرّوح هي التي تكوِّن ماهيته the freedom of Spirit which constitutes its essence”.[3]

لكن هل تستطيع الشعوب العربية تحت تأثير اتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية فيها أن تعرف معنى الحريّة –كما أراد قسطنطين زريق؟

ننتظر الجواب الواقعيّ أو العينيّ عن هذا السؤال، ونأمل أن تبطل نظريّة هيغل في فلسفة الحضارة لتحلّ محلّها نظرية هذا السوريّ الكبير.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

الحواشي:


[1] -قسطنطين زريق، المسيحيون العرب والمستقبل، في: المسيحيون العرب: دراسات ومناقشات، المحرر: الياس خوري، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981، بيروت، ص: 119.

[2]-قسطنطين زريق، في معركة الحضارة: دراسة في ماهيّة الحضارة وأحوالها وفي الواقع الإنساني، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1981، ص: 96.

[3] – HEGEL, G. W. F., LECTURES ON THE PHILOSOPHY OF HISTORY. TRANSLATED FROM THE THIRD GERMAN EDITION BY J. SIBREE, M. A., LONDON: GEORGE BELL & SONS, YORK ST., COVENT GARDEN, AND NEW YORK. 1894. P.19.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم. "خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون...

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

تدريباتنا