تدريباتنا

عودة النساء إلى الأسواق الدمشقية

بواسطة | أغسطس 10, 2022

تعتبر حركة الأسواق دليلًا مهمًا على تعافي الاقتصاد أو تراجعه. وغالبًا ما يتم رصد عمليات التسوق في الأسواق المركزية والأسواق الشعبية المشهورة أو المتخصصة ببيع مواد وسلع محددة، لقراءة حركة السوق الحقيقية واستنتاج القيمة التبادلية النقدية الفعلية، وحركة السلع حسب الطلب عليها وحسب نوعها، وعمليات البيع والشراء بصورة دقيقة وقابلة للتحليل والاستنتاج.

تماهى السوريون والسوريات مع الأسواق حتى باتت جزءًا من ثقافتهم اليومية، فأكسبوها أهمية وجدانية استشرافية وتقييمية خاصة، وأطلقوا عليها صفات بشرية مثل: “السوق ميت، السوق بارد، السوق شاعل نار، السوق مكسور، السوق حلو، السوق مليان حياة، السوق عم يغلي غلي، السوق بيبكي..”

يمتدح غالبية الناس ميزة الرغبة في ارتياد الأسواق وحب التسوق التي تتمتع بها غالبية النساء وخاصة المدينيات. بعض الباعة يكره عملية المفاصلة التي تقوم بها النساء لشراء حاجياتها، وغالبية التجار وخاصة في محال بيع الجملة وفي الأسواق الشعبية المشهورة بدمشق مثل العصرونية وسوق الحميدية وسوق تفضلي يا خانم، يمزجون ما بين الكلام اللطيف لترغيب النساء بالشراء وما بين تقديم النصائح بجدية محترفة تساهم في إقناع النساء بشراء مادة محددة من بائع محدد، وربما يصير عنوان المحل المذكور وجهة شبه دائمة لتلك السيدات.

في سوق العصرونية الدمشقي الشهير والواقع خلف قلعة دمشق مباشرة، ازدحام كبير، شاحنات صغيرة تنقل البضاعة من وإلى السوق والحركة الأبرز هي إفراغها في داخل السوق. تختلط خطوات الزبائن وخاصة من النساء مع إطارات الشاحنات وبأصوات سائقي عربات التحميل اليدوية، ازدحام يبدل الصورة العامة لحركة الأسواق خلال الأعوام الماضية التي اتسمت بإغلاق المحال باكرًا، وضعف حركة المتسوقين والمتسوقات. لقد لجم الخوف وواقع النزاع كل الفعاليات اليومية المعتادة، حتى التسوق تحول لمخاطرة كبيرة ألزمت الناس على التزام بيوتهم، أو الاكتفاء بشراء الضروريات فقط من أقرب منافذ للبيع. عدا عن تأثر بضائع كثيرة بالكساد والتوقف شبه التام عن شرائها مثل مواد البناء وأطقم الزجاج والقماش وخاصة أقمشة الأعراس والمناسبات العائلية والحفلات والاحتفالات بالأعياد وسواها.

لكن رغم الازدحام الظاهر فقد تبدل المشهد جليًا، في عمقه ودوافعه وفي مجرياته اليومية، والأهم أن انخفاض نسبة الأرباح ساهمت بفرض سعر شبه رائج محدد للبضاعة في غالبية المناطق التي كانت تشهد تباينًا كبيرًا في الأسعار.

على اسفلت الرصيف يفرد عدد من الباعة بضاعتهم، تقترب النسوة لتشتري، ثمة نظرية متعددة الأركان تبرز هنا: أولها أن البيع على البسطات يتم بسعر أقل، بذريعة أن البائع لا يدفع إيجارًا أو نفقات لمحله ولا أجور عمال مساعدين؛ وثانيها أن من يفترش الأرض الآن هو تاجر سابق خسر محله أو تجارته واضطر للبيع هنا، وبالتالي فإن الشراء منه قد يكون جبرًا لخواطره المكسورة أو دعمًا له على خساراته المتتالية والمؤلمة؛ وثالثهما أن المفاصلة هنا أسهل وربما أكثر قابلية للنجاح.

اعتاد السوريون والسوريات على شراء أطقم كاملة متسلسلة الحجم حتى للمصافي والأدوات البلاستيكية، لكن كل شيء قد تغير، وخلو البيوت من الأساسيات غير قابل للترميم أو التعويض، حتى البائع يسهل حركة البيع ليكسب أكثر وليضمن بيعه لعدد أكثر من القطع التي يتركز الطلب عليها، حيث يفرد الطقم كاملًا، لكنه يعرض فرصًا لبيعه بالمفرق ولكل قياس سعر. اللافت هنا هو قلة الطلب على الأحجام الكبيرة، تراجع بيعها بشدة والتزم المتسوقون /ات بشراء عدد أقل ومقاسات أصغر حتى من الأطباق وكؤوس الماء والطناجر والمقالي والمماسح وأدوات التنظيف.

ترتبط عملية شراء قطع محدودة وبأحجام صغيرة بقلة السيولة المالية أولاً، وبتفتت العائلات ثانياً، لدرجة غابت تقاليد اجتماع العائلة كاملة حتى على سفرة شهر رمضان بصورة شبه نهائية. تفرقت العائلات، صغرت البيوت وضاقت المساحات القابلة لاحتواء أثاث المطبخ، تعبت الأمهات من الحزن والقهر ومن الأمراض المزمنة ووجع الرحيل وفقدان البيوت والسكن المشترك وبدلات الإيجار المرتفعة. كل شيء بلغ أقصى حدوده من الهشاشة ومن القسوة في نفس الوقت، وعندما تجتمع الهشاشة مع القسوة تغيب غالبية التفاصيل الجامعة والمرضية والمريحة حتى لو كانت دزينة كاملة من الأطباق المقتناة برضا واكتفاء.

ثمة مقولة شبه عامة تقول: أن النساء يذهبن للتسوق ويعدن بخفي حنين، تسوق مغلف بهدف آخر وهو الخروج من المنزل، للترفيه عن الأطفال أو مرافقتهم للسوق وكأنه مشوار، يطول وقته بسبب السير الطويل وأزمة المواصلات، قد يفوز الأطفال بالبوظة أو بسندويشة شاورما أو فلافل أو بطاطا مقلية، لكن الأم تعود راضية رغم تعبها لتقول: “يا حرام الأطفال محبوسين بالبيوت، يرجعوا من السوق على النوم مباشرة لأرتاح من نقهم وطلباتهم غير قابلة للتحقيق.”

عادت النساء إلى الأسواق لكن الأسواق لم ولن تعود! في سوق الصالحية عدد كبير من المحال المغلقة، قرر أصحابها إغلاقها واختزلوا العملية بعبارة: الإغلاق أوفر، يكفي خسارات!

بائع الملابس الداخلية القطنية في شارع الحمراء وهو سوق مشهور، يقول مشبعاً بالغصات: “بالأمس فتحت المحل من التاسعة صباحاً، ولم تأت الرزقة حتى الساعة الثامنة إلا ربعاً، عندما جاءتني سيدة تعيش خارج سورية واشترت كمية من الألبسة الداخلية أمنت لي قوت يومي وطلبات المحل ليوم واحد، اليوم.” تحاول سيدة مفاصلته، يغضب ويقول لها شبه صارخ: “الساعة الثانية بعد الظهر! لم أسترزق بليرة واحدة، وأنت تفاصليني بأسعار ألبسة إن عدت لطلبها وترميم غيابها سأدفع أكثر من نقودك التي ستدفعينها اليوم.”

في حركة الأسواق ملامح غادرة وغير دقيقة، الازدحام لا يعني التسوق ولا البيع، والأيدي الفارغة من الأكياس لا تعبر إلا عن عجز واضح، حتى الأكياس المحمولة والممتلئة بسقط المتاع والاحتياجات اليومية هي مرآة للواقع الحقيقي، لا بد من استبدال ما انتهى عمره وأصبح خارج الخدمة، إنها الضرورة فقط.

يتفق الجيران في ثلاثة مبان متجاورة على التسوق من سوق الهال الواقع في حي الزبلطاني الواقع في قلب مدينة دمشق متوسطاً ساحة باب توما وساحة العباسيين، يتفقون على تسوق يومي ولكن بالجملة ويتبادلون الخضار والمعلبات واللحوم على قلتها والطحينة والأجبان والألبان كل حسب حاجته. الفرق كبير جدًا بين أسعار سوق الهال وبين أسعار المواد ذاتها في الدكاكين القريبة، الحكم على باعة الدكاكين بالطمع والتجبر بات أمرًا غير دقيق أبدًا. يُعاني باعة المفرق من كلفة المواصلات والتخزين وخاصة في البرادات بعد أن باتت الكهرباء بحد ذاتها مجلبًا للخسارات الكبيرة وغير القابلة للتعويض ومن الضرائب المتصاعدة بأشكال متعددة.

في سوق الطبالة، يغير محمود من ترتيب محله، يدير ظهر البراد الكبير إلى واجهة المحل ويعلق عليه لافتة للبيع، يصير المحل ومحتوياته مجرد واجهة ضيقة، فبعد امتناعه عن بيع الأجبان والألبان بسبب تلفها لمرات عديدة، تضاءلت بضاعة المحل، واقتصرت على المواد الجافة، ونظرًا لأنه يسكن بعيدًا عن محله فقد وضع فراش اسفنجي في المنطقة المفرغة منه والتي أصبحت خالية بشكل موجع ومخيب ولا شيء متوفر لملئها، وقال أنه نام هنا لمرتين بسبب انقطاع المواصلات.

تتغير حركة الأسواق في مواسم الأعياد، يتزايد الشراء والبيع، غالبية الأموال هي دعم من الخارج، والخارج هنا العائلة، بعض الأصدقاء والصديقات الراغبين أو القادرين على المساهمة، إضافة إلى بعض “أهل الخير”! وعبارة “أهل الخير” هي عبارة موجعة جداً، أي خير هذا الذي أصبح غير متاح إلا على نفقة الآخر وربما الغريب. تتسع حركة البيع والشراء وحركة ارتياد الأسواق، لكن ثمة إجماع على أن هامش الربح لا يكفي لصمود أحد لا الباعة ولا المشترين، وإن كانت العائلات تصر على شراء سراويل جينز لأنها عملية ويمكن مرافقتها بأية بلوزة أو قميص، لكن تبقى قضية الأحذية هي مفتاح العجز الواضح على تفاقم الحاج وتعقيدات تحديد ملامحها أو إمكانيات النفاذ منها نحو حلول أكثر وفرة وأكثر عدلاً. 

نعم باتت الأحذية قضية، ثمة بضائع كبيرة وكثيرة منها، لكنها رديئة بالعموم، والجيد منه سعره غالٍ جداً، بضائع تستوطن بسطات عملاقة تكفي لملء محال بكاملها، لكنها مفروشة على البسطات وعلى العربات، في البرامكة وفي الصالحية وفي باب توما، أينما سرت تصدمك وفرة الكميات من كل شيء، تبدو الأحذية جميلة ومرتبة وتلائم الموضة الدارجة، لكن في الوقت نفسه تتزايد الأقدام الحافية والأقدام التي تخرج أصابعها من مقدمات أحذيتها والكعوب الذائبة وشحاطات البلاستيك.

ما بعد الحروب، تتحول الوفرة في الأسواق بحد ذاتها إلى أداة نزاع، من يستحق ومن هو قادر على الشراء! لكن سؤال الجودة والجدوى مفقودان، لأنه وبكل بساطة لا يمكن تحققيهما في ظل مداخيل كذرات الغبار وفي ظل احتياجات تتضاعف كل يوم.

سؤال الجودة لا يليق بالحرب، ولا بأسواق بالغة الهشاشة وعلى شفا الانهيار، وجيوب عاجزة رغماً عنها وعن أصحابها. 

وإن عادت الأسواق فمن يعيد الاكتفاء، وإن عاد المتسوقون والمتسوقات فمن يعيد جدوى البيع والشراء كتفصيل حيوي ومتوازن في تفاصيل الحياة!

من يعيد للسوق حيويته وتفاعله وصفاته الإنسانية التي تربطه بأهله وناسه وصناعه والفاعلين فيه! 

هذه المادة منشورة في جدلية

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا