تدريباتنا

سلة غذائية مجانية” لا تبني سوريا”

بواسطة | أغسطس 24, 2018

تحلم موسكو بأن تستعيد إمبراطوريتها في العالم وتسعى لإعادة مكانتها ودورها الأساسي في تحقيق التوازنات العالمية، لكن هذا ليس بالأمر السهل. سياسياً ربما حققت روسيا جزءاً من هذا الحلم التاريخي، لكن غاب عن ذهنها بأن التحقيق الفعلي له يحتاج لأموال ومشاريع إنتاجية.

في الملف السوري لعبت موسكو دوراً إيجابياً لصالح النظام السوري، وهذا الدور ما كانت لتنجح به دون وجود اتفاق دولي مبطن سمح لها بأن تلعبه، بهدف إغراقها بالصراعات والحروب وإلهائها عن تطوير بيتها الداخلي وتنمية اقتصادها وتعزيز قوتها الاقتصادية.

في الوقت نفسه اتجهت الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن، لاستعادة هيبتها في الداخل والخارج وتوجيه البوصلة تجاه مشاريع واتفاقيات عسكرية واقتصادية مع دول يدر التعاون معها الأرباح، فالعقلية الترامبية لا تكترث بالتحالفات السياسية بقدر اهتمامها بالفوائد الاقتصادية.

موسكو التي أخذت على عاتقها حل الصراع في سوريا، نجدها اليوم تعمل وفق آلية الوسيط الذي ينسق بين الأطراف المتنازعة سورياً وعالمياً، ورغم صعوبة الوصول إلى حل سياسي يرضي جميع الأطراف، إلا أن موسكو لا تدع مناسبة أو مؤتمر يمر دون التذكير بمسألة التعاون لإعادة إعمار سوريا.  كما تحاول روسيا فرض مسألة إعادة الإعمار على الدول التي شاركت في النزاع السوري، بعد أن أصبحت تقدر كلفة هذه العملية بحوالي ٤٠٠ مليار دولار وفق أحدث التقارير الاقتصادية.

لا يستطيع حلفاء سوريا وحدهم “موسكو-طهران-بكين” تغطية هذا الرقم الضخم لإعادة الاعمار، خاصة بعد فرض واشنطن عقوباتها الأخيرة على إيران وروسيا، ونزاعها التجاري مع الصين. وبالتالي فإن عملية إعادة الإعمار تحتاج لمساهمة دولية من قبل المؤسسات المالية الدولية “صندوق النقد الدولي” و “البنك الدولي” إضافة للدول الغربية التي ترفض المشاركة في أي عمليات لإعادة الإعمار تسبق التوصل لعملية انتقال سياسية.

من يتابع تطورات المشهد في سوريا يدرك أن سوريا تتجه إلى مرحلة أخطر وأعقد من الحرب التي خاضتها، والتي دفع السوريون خلالها فاتورة باهظة الثمن، إضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية التنموية منها والمعيشية.

هذه المؤشرات تؤكد أن ما تقوم به موسكو لإعادة النازحين السوريين إلى وطنهم لن يكون بالأمر اليسير، فالداخل السوري يعاني من أزمات معيشية خانقة. والسؤال من سيساعد السوريين القادمين من الخارج بعد أن فقدوا كل ما يملكونه من مأوى وعمل؟

ربما تعتقد موسكو أن توزيع السلل الغذائية التي تقدمها المنظمات والهيئات الدولية هو الحل، فإذا كانت المساعدات الإنسانية هي الطرح الذي تقدمه موسكو للدول الغربية فهذا مؤشر على فشلها في تحقيق حلمها التاريخي الذي استنزفت فيه مقدراتها العسكرية والاقتصادية دون فائدة. فإعادة الإنتاج وبناء المجتمع بعد انتهاء الحرب لا يقوم على “سلة غذائية مجانية”، وهذا الأمر فشلت فيه كبرى الدول والمنظمات الدولية التي قدمت المساعدات الإنسانية في العديد من الدول الافريقية التي خاضت صراعات ونزاعات عنيفة، ومازالت رحى الصراع المعيشي والاقتصادي تدور في طواحين تلك الدول.

من جهة أخرى إذا ساد الاعتقاد بأن ما حدث في سوريا يمكن حلّه بتقديم سلل غذائية مجانية ومساعدات طبية، فهذا يعني بأن كل السوريين خسروا حلمهم بالعيش في سوريا التي قاتلوا وقتلوا من أجلها.

من جهة المؤيدين للنظام السوري، يحلم الغالبية بأن تتكفل بهم الحكومة السورية وأن تعالج أزماتهم المعيشية والاقتصادية بطريقة تكون على مستوى التضحيات التي قدموها خلال الحرب، لكن الحقيقة تقول بأن النظام السوري خسر خلال الحرب موارده التنموية التي كانت تشكل رافعة الاقتصاد السوري، واليوم تواجه الحكومة السورية مطالب السوريين المؤيدين لها بحقنهم بإبر التخدير.

أما عن النازحين المضطرين للعودة لسوريا، وأولئك الراغبين بالرجوع بدافع شخصي نتيجة الفشل بالاندماج في الدول التي احتضنتهم أو ربما نتيجة التعامل غير الإنساني الذي واجهوه في بعض الدول، فهؤلاء خسارتهم مضاعفة لأنهم خسروا حلمهم بالرجوع إلى سوريا التي رغبوا بها قبل رحيلهم، وخسروا سكنهم ورزقهم ووظائفهم التي سيعانون الكثير لاستعادة جزء منها. والخسارة الأفجع، هي إعادة دمجهم بنسيج المجتمع السوري الذي شوهته الحرب وباعدت بين جميع أطيافه.

إن المساعدات التي تنتظرها موسكو من الدول الإقليمية وتحلم بالحصول عليها، لن تكون قادرة على حل مشكلة السوريين، ولن تتمكن من إعادة إعمار سوريا. ولنا كسوريين في العراق خير دليل على ذلك، حيث أشارت التقديرات الأخيرة لوزارة التخطيط العراقية بأن العراق يحتاج إلى ٨٨.٢ مليار دولار لتنفيذ مشاريع إعادة إعمار ما دمرته الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ورغم المناشدات لم يحصل العراق سوى على مبلغ ٣٠ مليار دولار منها، قدمتها ٧٦ دولة ومنظمة إقليمية ودولية ومحلية كانت مشاركة بمؤتمر إعادة إعمار العراق الذي استضافته الكويت بالشهر الثاني من العام الحالي. من ضمنها ٤٠٠ مليون دولار قدمتها أوروبا للعراق على شكل مساعدات إنسانية، علماً أن العراق بلد غني بالنفط.

من هنا تدرك الدول الغربية بأن نهج روسيا لحل الصراعات يقتصر فقط على تجميد النزاعات والحروب لا إنهائها، وذلك عبر التسويات والمصالحات، وهذه الآلية كانت واضحة في العديد من النزاعات التي عملت موسكو على معالجتها قبلاً في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا واليوم في سوريا.

فرضت روسيا تسويات سياسية ومصالحات أوقفت الصراع في سوريا، ولكنها فشلت في معالجة الأسباب الأساسية وإيجاد حلول تضمن استقرار المنطقة، وما لم يتم معالجة هذه الأسباب فإن أقصى ما يمكن أن يحققه هذا النهج هو “سلام هش.” بإمكان أية دولة قوية عسكرياُ قمع الصراعات لبعض الوقت، لكن من يضمن ألا تتفجر مرة أخرى بمجرد تغير موازين القوة؟

يتطلب حل الأزمة في سوريا بشكل دائم التزامًا ماليًا جديًا، وهو أمر تفتقر إليه روسيا، خاصة بعد فرض واشنطن عقوباتها الاقتصادية عليه، عدا عن الوضع الاقتصادي الداخلي لموسكو الذي استنزف نتيجة تدخلاتها بأوكرانيا وسوريا، لذلك يستحيل عليها تمويل عملية إعادة إعمار أو تقديم خطة مارشال لسوريا، رغم أنها سعت للحفاظ على مصالحها الخاصة من خلال إنشاء قواعد عسكرية لها في طرطوس، إضافة لحصولها على مشاريع الطاقة في سوريا والتي تضمن لها استعادة بعض ما خسرته في الحرب السورية، مقابل اختصار الوجع السوري “بسلل غذائية مجانية.”

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا