تدريباتنا

تمثال المعري يحصل على اللجوء في فرنسا

بواسطة | يونيو 22, 2023

بين رأس المعري ومدينته التي تغنّى بها وولد فيها وحضنته بعد وفاته آلاف الكيلومترات، حيث يلجأ رأسه الآن في بلدة “مونتروي” في ضواحي باريس، بينما يرقد رفاته وما تبقى من تمثاله في معرة النعمان في ريف إدلب شمالي غرب سوريا. فكيف كانت رحلة الشاعر الفيلسوف بين ريف إدلب وضواحي باريس متكئاً على أكتاف سورية حتى لا يضل الطريق؟

قصة مدينتين.. معرّة النعمان وباريس

في عام 973 وُلد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري في معرة النعمان. محطته الأولى مع المآسي التي سترسم خطوط حياته كانت منذ الصغر حين أُصيب حين كان بين الثالثة والرابعة من عمره بمرض الجدري الذي أصابه بالعمى، ذلك لم يغير من سعيه لطلب العلم في كنف عائلته التي ضمت القضاة والشعراء والعلماء.

درس في حلب علوم الأدب والإسلام وسرعان ما بدأ مسيرته الأدبية قبل أن يتركه خبر وفاة والده مفجوعاً. استمر بعدها في مشواره الأدبي لكنه لم يغامر في الرحلات كما اعتاد الشعراء من معاصريه، بل لم يبتعد المعري عن مدينته إلا حين درس في حلب ثم سافر في شبابه إلى بغداد ومكث فيها نحو عام ونصف حتى بلغه خبر مرض والدته لكنها رحلت في طريق عودته.

اعتكف بعد ذلك المعري وهجر الناس وانصرف إلى أدبه وعكف عن الزواج ولُقب بـ “رهين المحبسين” وهما منزله وبصره المفقود، كما أنه امتنع عن أكل اللحوم وعاش في زهد حتى وفاته عام 1057 في معرة النعمان بعد أن أصبح أحد أشهر الأدباء في عصره وأبرز الشعراء السوريين على الإطلاق، تاركاً إرثاً أدبياً ضخماً من عشرات الدواوين والكتب ليرقد مثوى المعري في منزله الذي احتضنه كل حياته وذلك بعد أن أوصى بأن يكتب على ضريحه: “هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”.

علاقة الشاعر بمدينته وانتمائه إليها لم ينتهِ برحيله، بل امتد الارتباط الوثيق ولم يُفك الحبل السري بينهما وخاصة بعد أن عاد إلى رحمها. فعلى امتداد القرون اللاحقة حجّ كثير من أصحاب العلم والمهتمين بالآداب إلى البناء المجاور لضريح الشاعر حيث ترك أعماله وكتبه كاملة، ولم يسمّ ذلك المكان بمركز أبي العلاء المعري الثقافي إلا في عام 1944 خلال المهرجان الأدبي في ذكرى مرور ألف عام على مولد أبي العلاء المعري، والذي دُعي إليه أقطاب العلم والأدب من العالم العربي أبرزهم طه حسين. خلال ذلك المهرجان رُفع النقاب عن التمثال النصفي للشاعر المعري والذي كُلّف بصنعه حينها النحات السوري فتحي محمد ليوضع أمام المركز الثقافي في قلب المعرّة.

الواقع المرير

الإهمال ترك بصمته على المكان كما على المنطقة بأسرها خلال الفترات اللاحقة، لكن ابن المدينة بقي أحد أبرز معالمها والشكل الأبرز لهويتها التي اعتادت المآسي. ومع انطلاق الثورة السورية في آذار -مارس عام 2011 كانت المدينة من أوائل المنضمين إليها ما جعلها تواجه عنف النظام وبطشه الذي طال قصفه ضريح المعري عدة مرات وأحدث أضراراً فيه، لكن الحدث الذي سيعيد المعري إلى خارطة أذهاننا الحالية كان في عام 2013 حين قطع متطرفون رأس تمثال المعري في حركة وصفها كثيرون بالاغتيال المعنوي للمفكر الذي اتهمه كثيرون بالزندقة بسبب انتقاداته ومواجهاته مع المتطرفين في زمانه.

جسد تمثال المعري لم يسلم أيضاً حيث استقرت فيه عدة رصاصات أرادوا خلالها أن يضعوا نهاية لمكانة الشاعر في قلوب سكان مدينته واغتياله بعد مئات السنين على وفاته. بقي تمثال المعري مقطوع الرأس شاهداً على ما مر في واحدة من أكبر مدن إدلب، فيما استعاد المركز الثقافي خلال السنوات اللاحقة بعضاً من مكانته بمساعدة مبادرات فردية ومجتمعية للحفاظ على تراث المنطقة وإرث الشاعر الضخم.

عمر خشّان، مدير المركز الثقافي السابق في معرة النعمان، كان قد صرح في تقارير إعلامية عن قيمة أبي العلاء لمدينته وأهلها أنها قيمة روحية ولا تتجسد في قبر أو ضريح. في عام 2020 سيطرت قوات النظام السوري على معرة النعمان بعد حملة عسكرية دمّرت أجزاء واسعة منها وتسببت بتهجير أغلب سكانها ليبقى المعري في حضن مدينته لكن ضريحه والبناء الذي كان يوماً أحد أهم المراكز الثقافية في المنطقة تحول إلى بناء مهجور، لتتحقق مقولة شاعر الفلاسفة عن مدينته يوماً “إن المعرة والذي فلق النوى هي للغريب وأهلها الغرباء”.

شحّت الأخبار عن المدينة بعد نزوح أغلب أهلها فلم يصل إلينا إلا بعض التقارير والشهادات التي تتحدث عن إهمال المركز الثقافي والضريح رغم مكانته الرمزية بين الأهالي، كما تحدث أحد السكان السابقين للمدينة الذي نزح إلى إحدى القرى القريبة من المعرة إلى موقع صالون سوريا قائلاً: “إن المعرة تعرضت للنهب والدمار وغياب الحياة وتدمير البنى التحتية والذي لم يسلم منه ضريح المعري أو المركز الثقافي التابع له”.

بالتزامن مع ذلك وعلى بعد آلاف الكيلومترات تحديداً في باريس انطلقت في عام 2018 مبادرة مؤسسة “ناجون” التي يرأسها الفنان فارس الحلو لإعادة الاعتبار والمكانة الرمزية للشاعر أبي العلاء المعري، الحملة بدأت بجمع المساهمات من العديد من الأشخاص بينهم ناجون من المعتقلات السورية وفنانون ونشطاء وشعراء  وغيرهم، ثم عهدت المؤسسة بصنع تمثال رأس المعري الضخم للنحات عاصم باشا في غرناطة حيث نُصب هناك لسنوات قبل أن ينتقل إلى وجهته الجديدة.

المحطة الأخيرة حتى الآن في رحلة تمثال رأس المعري كانت في بلدة مونتروي الفرنسية حيث نُصب العمل الفني الضخم الذي يبلغ ارتفاعه نحو 3 أمتار في ضواحي باريس مؤخراً، بعد أن وافقت البلدة على لجوئه إليها، فارس الحلو صرّح أن العمل علامة ثقافية سورية على أن ينقل إلى مسقط رأس الشاعر معرة النعمان بعد إحلال السلام والعدالة في سوريا.

المنظمة تقول إنها اختارت المعري الذي قال يوماً “لا إمام سوى العقل” كونه رمزاً إنسانياً لحرية التفكير ومركزية العقل، إضافة إلى كونه مثالاً للمثقف الذي لا يخضع لأي سلطة، كما أرادت المنظمة التركيز على دعوته إلى ضرورة النقد الاجتماعي والثقافي ومواجهة المتطرفين.

كما أن المؤسسة تسعى من خلال المبادرة إلى تأسيـس بصمة ثقافية ســورية في الخارج، لتكون إحدى عوامل الضغط من أجل تحقيق العدالة في سوريا، كما تم إهداء التمثال إلى كل المناضلين والمغيّبين في كافة المعتقلات السورية والعالم، في محاولة أن يكون تمثال نجاة المعري ومعه أمل بنجاتنا جميعاً.

قيمة في مكانين

ربما يتساءل البعض عن أهمية مثل هذه الخطوة الرمزية، وكيف لرأس شاعر الفلاسفة -كما يلقبه البعض أن يترك أثراً على خطوط الهوية الثقافية السورية؟

في حديثنا مع الصحافي السوري المهتم بالشأن الثقافي السوري معتز عنتابي، أكّد أن نقل رأس المعري إلى باريس أعاد الاعتبار للشاعر وغيره من المفكرين الذين تعرض إرثهم الثقافي لمحاولات طمس متكررة حيث أن التمثال هو أول عمل فني سوري طوعي بهذا الحجم ويرسخ أهمية الرموز السورية التي تدعو إلى حرية السؤال والتفكير والتعبير، كما ركز عنتابي على أن تلك الخطوة تسلّط الضوء من جديد على التاريخ الفكري لهذه البقعة الجغرافية، حيث أراد القائمون على هذه المبادرة التذكير بإرث سوريا الثقافي والرموز الفكرية المعبرة عن هذا الإرث، في ظل ارتباط اسم البلاد خلال العقد الأخير بالنزاعات المسلحة والأزمات المعيشية، كما أن اختيار مدينة باريس الفرنسية مكانًا لعرضه يعبّر عن هروب ملايين السوريين نحو دول اللجوء وسعيهم للمحافظة على تراث بلادهم من النسيان.

في النهاية حصل السوريون على رصيد فني وثقافي في أوروبا في وقت يسعون فيه إلى أن يكون ذلك التمثال بمثابة “رسالة الغفران” للمعري عن المآسي التي عايشها ضريحه وتمثاله في بلده الأم.

مواضيع ذات صلة

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص...

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

مواضيع أخرى

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد. يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف...

رحلة في عوالم الدهشة

رحلة في عوالم الدهشة

في أسلوب جديد ومختلف عما عهدناه يأتينا طارق إمام بدهشة متصاعدة في عمله الأخير "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" الصادر عن دار الشروق 2023، منذ العتبات النصية التي بدأها بإهداء العمل لوالده "أنت فوق التراب وأنا تحته" في سرد يحفل بالثنائيات الضدية الفوق والتحت؛ الولادة...

أسفار تدمير غزَّة

أسفار تدمير غزَّة

ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذه الوحشّيّة الرهيبة التي تتصف بها الحرب التي يشنّها الصهاينة على غزَّة غير مبالين بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ؟ ويدفعنا إلى هذا التساؤل وضوح أنَّ ردّة...

تدريباتنا