تدريباتنا

النّظام والدّين في سوريا: المجتمع المضاد وعصبية الامتيازات

بواسطة | مايو 20, 2025

من بين تعريفات عديدة للدّين، فإنّ الدّين هو عبارة عن مجموعة من العقائد المعرّفة تعريفاً اجتماعياً، وهذه العقائد تتعلّق، بشكلٍ أساسيّ بالنّظرة، والمعنى، والغاية النّهائية من الحياة. لذا، لا تُعنى العلوم الاجتماعية بمسألة إثبات وجود الله من عدمه، ولا بوجود أو عدم وجود كائنات وحيوات أخرى، هذه مسائل تُترك لاختصاصات بحثية مغايرة. الانشغال الأساسيّ للعلوم الاجتماعية هو في الكيفية التي تُؤثّر بها العقائد الدّينية الخاصّة على السّلوك الإنساني، وعلى العلاقات والأنساق الاجتماعية. لذلك، فإنّ اهتمام هذه المقالة سينصبّ على الآلية التي تعامل بها النّظام السّوري البائد، وربّما النّظام الحالي أيضاً، مع الوظيفة الاجتماعية للدّين، بمعنى تكييف الدّين لخدمة شرعنة النّظام، وبقائه، واستمراره. 

مجتمع متنوّع أمْ مجتمع فسيفسائي؟

المؤشّرات الإحصائية تدلّ على تنوعٍ قوميّ ودينيّ كبيرين في سوريا، فوفقاً لدراسة إحصائية حديثة أعدها موقع The world factbook بعد سقوط نظام الأسد، فإنّ عدد سكّان سوريا كان تقريباً 23.8 مليون نسمة، يتوزعون عرقياً إلى عرب سنّة بحدود 50%، وعرب علويين 15%، وعرب مسيحيين 10%، وكُرد بحدود 10%، و15% هم من باقي الأقليات (دروز، واسماعيليون، وشيعة، وآشوريون، وتركمان، وأرمن)، وآخرين 10%.

هذا التّنوع الهائل للمجتمع السّوري، وبرغم التّعايش المشترك بين مكوّناته لمئات السنين، لمْ يجعل من سوريا مجتمعاً متنوّعاً بقدر ما رسخّه كمجتمعٍ فسيفسائي تعيش مكوّناته شبه معزولة عن بعضها، تُجاور بعضها البعض دون أيّ تداخل تقريباً، إذا ما استخدمنا التّمييز الدّقيق للباحث اللبناني حليم بركات للتّفريق بين المجتمعات المتنوّعة والمجتمعات الفسيفسائية. 

هذ التّنوع كان يحمل في طيّاته دوماً بذور الانفجار، وهو الأمر الّذي تطلّب قدراً كبيراً من الحنكة في إدارته لأنّ الفشل في ذلك كان يعني تحويله إلى نقمة بدلاً من أن يكون موضع غنىً ثقافي ومعرفي. وبالفعل فإن السّبب الرّئيس في اتساع الشّروخ بين المكوّنات المجتمعية المختلفة في المجتمع السّوري لا يعود برأينا إلى تنوّع هذه المكوّنات، وإنما إلى وجود إدارة سيئة للتنوّع كانت تضغط بثقلها الأمني عليه لتحافظ على صورته

التعايشية الجميلة، الأمر الّذي استمرّ مع السّلطات الجديدة بصورةٍ أكثر فظاظة، وإنْ كانت أخفّ ثقلاً من النّاحية الأمنية، لكنّ الثّابت لدينا، أنّ إدارة النّظامين، الحالي والسّابق، لا تبدو آبهة بما تخلفه هذه الطرائق من احتقانات وأحقاد في داخل المجتمع.

فبالنسبة للنّظام السّابق، فقد اعتمد، ومنذ وصل الأسد الأب إلى الحكم وحتّى وفاته، على لعبة توازنات دقيقة بين كلّ أطياف النّسيج السّوري، بحيث لم يُبعد أياً منها عن السّلطة، كما أنّه لم يُعطِ أيّا منها سلطة مطلقة. ونشأت في سورية سياسة “محاصصة مستترة” غير مقوننة ولكنّها ترسخّت بالعرف بحيث تتقاسم القوميات والطوائف المناصب السّياسية الرّئيسة بما يناسب نسبتها من عدد السّكان الإجمالي، وبحسب توزعها في المدن السّورية الكبرى، فرئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس هيئة الأركان من الطّائفة السّنية، ووزيري السّياحة والصّناعة مسيحيان، ووزير الإعلام علوي، وهناك وزير دولة للطّائفة الاسماعيلية.. الخ. وبقيت المفاصل الأمنية بيد المقربّين جداً من النّظام، وخصوصاً العلويين منهم.  

هذا المحاصصة الدّقيقة المستترة أُضيف إليها تحالفٌ معلن بين البرجوازية السّنية في الحواضر الكبرى، كدمشق وحلب وحمص، وبين هذا النّظام، بحيث أمسكت الدّائرة الضّيقة للنّظام بالشّؤون الأمنية والسّياسية، وتُرك الشّأن الاقتصادي لتجّار وصناعيي دمشق وحلب، دون أن يغفل عن بالنا أنّ الأسد الأب قد قام في عقد التّسعينات بتشجيع أبناء المسؤولين على الدّخول في مشاريع صناعية وتجارية وعقارية كبيرة في محاولة منه لخلق برجوازية ثالثة، تُكافئ برجوازيتي دمشق وحلب. هذه البرجوازية الجديدة لم تقتصر على العلويين، أي أنّها لم تكن برجوازية علوية بقد ما كانت برجوازية سلطة أفضت في النّهاية إلى ما بات يُعرف بـ “رأسمالية المحاسيب”.

أدوتة (Instrumentalisation) التّنوع، والمجتمع المضاد 

يُقصد من أدوتة التّنوع استثماره من قبل السّلطة لقضايا سياسية داخلية أو خارجية، وهذا ما ظهر بوضوح من خلال نجاح النّظام السّوري السّابق، وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، في خلق المجتمع المضاد الذي كان بمثابة الدّرع الذي حمى هذا النّظام على مدى أكثر من كل الاهتزازات والتغييرات التي اجتاحت منطقتنا معتمداً في ذلك على مكنة إعلامية نشطة، وعلى تحويل النّقابات والمؤسّسات الحزبية والمدنية إلى مجرّد أشكال صورية. ويبدو أنّ النّظام الجديد، وحسْب ما يظهر إلى الآن، يعتمد آلية مشابهة، ذلك أنّ الأنظمة تأتي، عادةً، بناءً على سيرورة سياسية طبيعية تُتيح المجال للتّنافس بين الشّخصيات والقوى والأحزاب السّياسية تنتهي بالانتخابات التي تُتوّج حزباً ما، أو تحالفاً ما على رأس السّلطة لأجل محدّد اعتماداً على حجم قاعدته الاجتماعية. في سوريا، وحتّى الآن، لم نرَ مجتمعاً يُنتج سلطة كما يُفترض في الحالات السّياسية الطّبيعية، بل سلطةً خلقت، وسلطة حالية تسعى لخلق، مجتمعها الخاص بها، والمتعالي عن بقية النُّسج الاجتماعية. هذا المجتمع سيشكّل “حواضن” للنّظام أسماه الدّكتور حسّان عبّاس بـ “المجتمع المضاد”. 

هذا “المجتمع المضاد” ناتجٌ، في جوهره ووظيفته، عن تشوّه بنيوي في العلاقة بين السّلطة والمجتمع، ويُفضي إلى نوعين من التّشكيلات، أولها تشكيلٌ سياسي-أمني تتجلّى صورته بالمؤسّسات المرتبطة بالاستبداد (الجيش والأجهزة الأمنية)، والنّوع الثّاني تشكيلٌ اجتماعي هو خليط من نخب ثقافية، ومن جماعات اقتصادية (برجوازية تقليدية، أو دينية، أو طفيلية). كما أنّ “المجتمع المضاد” يقف بين السّلطة والمجتمع ليكون الجسر الواصل بينهما من جهة، وأيضاً ليكون الحُصْن الذي يحمي السّلطة من المجتمع الحقيقي من جهة أخرى. وفي المجتمع المضاد تتحول الأجهزة الوطنية والمؤسّسات المدنية إلى مؤسّسات حماية للسلطة، لا يختلف في ذلك الجيش الحامي للسّلطة، أو النقابات القائمة على مبدأ حماية المجتمع من السلطة. 

خاتمة 

ما يثير التحفّظ لدينا، هو الخوف من تكرار التجربة، الخوف من أنْ تقوم السّلطة الحالية، وبحسب منهجها حتّى الآن، بخلق “مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات الكراهية والتّحريض الطّائفيين، وأنْ تعتمد عوضاً عن المواطنة على “عصبية الامتيازات”.

على الجانب الآخر، لم تتمكّن النّخبة المعارضة للنّظام من الخروج من هذه الأطر بعد قيام ثورة 2011، خصوصاً بعد انتقالنا من مرحلة السّلمية إلى العسكرة، فقامت هي أيضاً بخلق “مجتمع مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات طائفية ولغة كراهية لم يعتد السّوريون عليها سابقاً مستغلةً الإمكانات المالية والإعلامية الكبيرة التي قدمتها بعض دول المنطقة لها. وقامت أيضاً بخلق “مؤسّسات مدنية” خاصّة بها وكيانات سياسية هشّة وقفت سداً لها في وجه مجتمع الثّورة الحقيقي الذي توارى عن المشهد بعد الأشهر الأولى للثّورة. وفي الحالتين، حالة النّظام وحالة مؤسّسات المعارضة، فقد اعتمد الجانبان على ما يمكن تسميته بـ “عصبية الامتيازات”، عصبية المستفيدين بغضّ النّظر عن طائفتهم. وبالفعل، فقد بتنا نرى مسؤولين، ومثقفين، ومفكرين سوريين، يستخدمون منهجاً سكونياً لتفسير أعمال العنف من خلال اللجوء إلى قراءة تعتمد أساساً على رؤية للطوائف وتواريخها، وتبحث عن نزاعات “جوهرانية” بين هذه الكيانات بحيث يسهل في ظلّها التعتيم على السّياق التّاريخي للأحداث. بينما يركّز المنهج الدّيناميكي على المحتوى الاجتماعي-التّاريخي للدّين ضمن إطار الصّراعات القائمة في المجتمع، ويؤكّد على أنّ التشكيلات السياسية-الدّينية إنّما تنبثق عن واقعٍ اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وتاريخي معقّد وهي تتطوّر بتطوّر هذا الواقع. 
وعموماً، لا يستخدم الدّين، كنسقٍ ثقافي، من قبل الأنظمة، سوى بغرض  تثبيت شرعيتها الضعيفة أصلاً، وحمايتها من حراك المجتمع المدني الحقيقي. 

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

معضلة المجاهدين الأجانب في سوريا

معضلة المجاهدين الأجانب في سوريا

تبرز قضية المقاتلين الأجانب المنتظمين في صفوف عدد من الفصائل المسلّحة الموجودة اليوم على الأراضي السورية، كأحد أبرز القضايا التي وُصفت بـ "الحساسة" في رد القيادة السورية الجديدة على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي في نفس الوقت من أبرز القضايا المختلف عليها على...

إرضاء الأجانب وإقصاء المنشقين: قيادة سوريا الجديدة تسير في حقل ألغام

إرضاء الأجانب وإقصاء المنشقين: قيادة سوريا الجديدة تسير في حقل ألغام

مع بداية تواتر انشقاق الضباط والعناصر عن الجيش السوري النظامي عقب اندلاع ثورة آذار/مارس 2011، بدأ ينمو حلمٌ كبير لديهم بأنّ أمامهم فرصةً تاريخية لإعادة بناء مؤسسة عسكرية ذات عقيدة وطنية راسخة وجامعة وغير متورطة بسفك الدم السوري أو التغول على أفراده، مؤسسة تحمي حدود...

تبادل الموت وتحية الخوف والانكسار

تبادل الموت وتحية الخوف والانكسار

في بداية عام 2017 أنهيت زيارة لقرية "كوكب" الواقعة في "ضهر الزوبة" في بانياس والتابعة لقرية البساتين، وكان لي أن أعود باتجاه طرطوس سالكاً طريقاً من اثنين: إما عبر قرية الزوبة ثم الخريبة وضهر صفرا، ثم الروضة؛ لأصل إلى الطريق السريع بين طرطوس واللاذقية، وإمّا عبر الطريق...

تدريباتنا