تدريباتنا

“المونة”.. تغيرت أحوال السوريين فتحول “المكدوس” لرفاهية

بواسطة | أكتوبر 6, 2022

يتندر سكان دير الزور، بأن محمد فارس عندما صعد للفضاء ضمن رحلته الشهيرة، شاهد مدينتهم حمراء اللون لأن أسطحتها كانت مفروشة بأوانٍ مملؤة بعصير البندورة، الذي يجب ان يجفف تحت أشعة الشمس ليصبح “دبس البندورة”، وهو أحد أساسيات المطبخ السوري.

حاولت العودة لكل ما قاله “محمد فارس”، حينها عن الرحلة لكن لم أجد سنداً لهذا التندر في كلامه، ربما هو من باب أن رحلته كانت في فصل الصيف، حيث تضع النسوة جهداً كبيراً لإعداد المونة، خاصة “رب البندورة”، وبكميات كبيرة تكفي للشتاء كاملاً، بما لا يحيج الأسرة لشراء أية كمية مُعلبة..

كان المصلّح “أبو عجاج”، يطوف بمنازل أحياء من الحسكة ليقوم بإغلاق “صفائح الجبن”، من خلال لحام فوهاتها المعدنية بالقصدير المسال، بعد تسخين ما يشبه المطارق على نار” بابور الكاز”، وكانت النسوة تعمد لشراء كميات كبيرة من الجبن لتقوم بتقطيع أقراصها لمكعبات قبل غليها بعد “تمليحها”، بـ “الملح الصخري”.

ورغم أن “أبو عجاج”، لُقب بالمصلّح لأن مهنته مزيجاً من تعبئة الغاز المنزلي وتصليح بابور الكاز والمدافئ المنزلية والحدادة، لكنه يستثمر موسم “الجبنة”، ليقوم بمهمة إضافية، وهي الطواف على دراجته الهوائية ليغلق “تنك الجبن”.

في أيلول تحديداً كانت النسوة تحوّل سطح المنزل أو فسحته إلى ورشة لتصنيع المونة، فيحفرن كميات من “الباذنجان – الكوسا”، ويقمن بتجفيفها تحت الشمس بعد تمرير خيط بواسطة إبرة لتصبح “قلادة”، وهذه القلادة ستكون جاهزة لتكون جزءاً من طبخة “محاشي”، في الشتاء.

وبمثل هذه الطريقة تجفف “البامية”، و “الفليفلة الحمراء”، وبواسطة “ماكينة الكبة”، تطحن كميات من هذه “الفليفلة”، لتصبح “دبس”، أو “شطة”، وهي لازمة في صناعة “المكدوس”، أولاً ومن ثم “المحمرة”، وتدخل في وصفات العديد من الوجبات التقليدية.

تطور الأمر قليلاً، فظهر “قطرميز الضغط”، وهو آنية زجاجية يمكن وضع أي مُكوّن فيها وحفظه لفترات بعد تفريغ الهواء، وهذا ما جعل من “البامية – الفاصوليا – منزّلة الباذنجان”، تطبخ لتبقى محتفظة بنكهة طازجة نسبياً، ومع دخول “الثلاجة”، إلى الأسواق وإمكانية شرائها بـ “التقسيط”، تحولت النسوة نحو تجميد ما يردنه من خضار، فباتت أكياس حفظ المونة، تملأ “الفريزر”، الذي كانت قيمة قسطه لا تزيد عن 500-1000 ليرة حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي.

في تلك الفترة أيضاً، كانت “الجاروشة” ماتزال حاضرة، وهي آلة طحن القمح التي تُحمل على عربة يجرها حصان أو حمار ليطوف صاحبها بالأحياء والقرى، ليطحن للناس بعضاً من القمح الذي اشتروه أو حصدوه.

ولأن الأسعار في ذلك الوقت كانت مقبولة قياساً على متوسط دخل المواطن، وقدرته الشرائية، تراجع دورها، وظلّت تلبي رغبة من يتمسك بـ “البرغل”، المصنوع منزلياً لكونه معروف المصدر.

كذلك في نهاية فترة التسعينيات تخلّت النساء عن استخدام “الغسالة اليدوية”، كأداة لعصر البندورة، ظن الناس حينها أن زمن “البحبوحة الحياتية” طويل، وفي هذا الوقت أيضاً غابت قلائدة “الكشك”، عن المطابخ لأن ثمة من يصنع منه كميات ليبيعه مطحوناً أو خشناً للعطارين، وهؤلاء يقدمونه للسكان بأسعار رخيصة.

تقول نور أنها عزفت عن إعداد الكميات الكبيرة التي كانت تصنعها من “المونة”، بسبب ارتفاع الأسعار، فمن المكدوس مثلاً، لن تصنع أكثر من 5 كغ من الباذنجان، وليس الأمر مونة للشتاء.

فهو إما حفظ ماء الوجه إن زارها قريب وقدمت له وجبة عشاء أو إفطار، أو لتلبي شهوة أحد أطفالها في الشتاء، أما صحن المكدوس الذي كان حاضراً دائماً على مائدة إفطارها شتاءً، فقد ألغي بفعل تكلفته الكبيرة التي حوّلت هذا الطبق الشعبي إلى عبء مادي على ذوي الدخل المحدود.

تضيف السيدة الأربعينية في حديثها لـ “صالون سوريا”، “فكرة إعداد مونة من الخضار ورب البندورة باتت مرهقة، صحيح إنها قد تحقق الوفر شتاء وتلبي أية حالة طارئة، لكننا كأغلب الأسر نعيش وفق مبدأ كل يوم بيومه، فالشتاء حاله كأي فصل، يحتاج لتدبير منزلي يقلل من المصروفات قدر الإمكان.”

أما أم عبد الله، فتقول أن “المونة باتت مشروعاً خاسراً لأية أسرة، فانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة متواصلة يعني بالضرورة أن محتويات أي فريزر، ستكون معرّضة للتلف إن لم تستخدم، وبالتالي لابد من العودة للطرق القديمة، ولأني لم أجد قطرميز الضغط، في الأسواق بفعل تحوله لبضاعة غير مرغوبة طيلة سنوات خلت، فأني أكتفي بما ورثته عن أمي من هذه الأواني لأصنع بعضاً من “المونة”، من باب منح عائلتي طبخة أو اثنتين خلال الشتاء من كل صنف”.

وتشير أم عبد لله لأن مؤونتها لم تعد للتوفير وتأمين احتياجات الشتاء وإنما كما قالت نور هي “لسد الشهوة”، “فماذا لو قال لي أحد أبنائي ع بالي فاصوليا خضرا، خلال الشتاء..؟ بحسب قولها..

تضيف جارتها أم عامر، السيدة السبعينية خلال الحديث:” نشتري الجبنة حين حاجتها فقط، ورجعت لتيبيس الخضار التي زرعتها بحديقة منزلي الصغيرة، وبعضاً مما أشتريه من السوق، المكدوس لن يكون هذا العام بالكميات التي اعتدت على صناعتها خلال ما مضى من عمري، لقد تحولت المونة لواحد من هموم النساء، وهو همّ لا ينتهي”.

ويتخلى السوريون/ات اليوم عن واحد من أبرز طقوس فصل الصيف، فلا مقومات لصناعة ما يكفي من مؤونة، وعائلة مؤلفة من خمسة أشخاص تحتاج لما بين 1-1.2 مليون ليرة لصناعة كل ما تحتاجه من مونة للشتاء موزعة على كامل المواد المحتمل صناعتها تحت هذا المسمى فـ “المكدوس – الجبنة – البرغل – رب البندورة – الزيت – الخضار”.

وهي مواد بات السوريون/ات يفضلون/ن التخلي عن بعضها وشراء الآخر بكميات قليلة على أساس “تمشاية حال”، فمن الصعب المغامرة بمونة قد يفسد بعضها لعدم توافر التيار الكهربائي لتشغيل المجمدات، أو المغامرة باستدانة مبلغ يكفي للمونة سيكون من الصعب تسديده.

ففي حين كان دخل الموظف أو العامل يتراوح بين 15-20 ألف ليرة قبل العام 2011 (ما يعادل حينها من 350 – 450 دولاراً)، فإن دخل هذه الأسرة اليوم بين 150-200 ألف ليرة (ما يعادل من 35-45 دولاراً)، إن الانخفاص في قيمة الدخل بلغ 100 بالمئة في أحسن الأحوال، وهذا يعني بالطبع ألا قدرة للسوري على صنع مؤنة شتائه.. ومن الطبيعي أن يُسأل: “كيف وماذا نموّن؟”

مواضيع ذات صلة

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص...

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

مواضيع أخرى

سأختار المضحك فقط

سأختار المضحك فقط

لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي...

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته - كما يروي هو - بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل...

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد. يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف...

تدريباتنا