تدريباتنا

العنف في تلفزيون دمشق… وشوارعها

بواسطة | فبراير 25, 2022

يربط المتابعون للمشهد السوري العنف بسنوات الحرب الطويلة. والمؤسف بهذا الربط هو تبسيط المشهد العنيف، كأنه نتيجة طبيعية للحرب التي تقوم أساسا على فكرة إهلاك الآخر، وتغدو كل الوسائل لتثبيت حلقة العنف من الأقوى نحو الأضعف مبررة.
لكن لهذا العنف جذور تمييزية مغرقة في القدم، يتم التعمية عنها، وتحميل مسؤوليتها للحرب فقط دون الإشارة إلى البنية الهيكلية المتجذرة للعنف من الأقوى نحو الأضعف ومن المتحكم نحو المحكوم.

الخطاب الرسمي
على شاشات التلفزة مقابلات مع أشخاص بؤساء فعلا، يبدو أن اختيار بؤسهم مقصود مع أنهم عادة يعانون من إهمال بل من نكران مديد، لكن هذه المرة ثمة حاجة ماسة لظهورهم بكل بؤسهم، الاحتفال بالبؤس لمصادرة حق الآخر! تم توجيه سؤال واحد لجماهير البؤساء: “من لا يستحق الدعم؟” تخيلوا لم يسألهم أحد من يستحق الدعم؟ لقد حرموهم حتى من فرصة التعبير عن أحوالهم، لكن المطلوب لا يخصهم، هم مجرد أدوات، والأدق هم مجرد ديكور ارجي، وكانت الأجوبة التي بدا واضحا أنها ملقنة إجابات حاسمة موجهة بيقين قطعي غريب لكل من تم رفع الدعم عنه، وكأن المطلوب أن تقول الحكومة: “هل سمعتم سبب حرمانكم؟”. نحن لا دخل لنا! شركاؤكم البؤساء في الوطن هم من قرروا أنكم لا تستحقون الدعم. ضرب النار بالنار وعلاج الحرمان بالحرمان.
أي عنف هذا؟ عنف مؤدلج، متلفز، ملعوب به وعليه، والهدف هو أن يقف الناس في مواجهة بعضهم البعض! ويا دار ما دخلك شر، ونحن الحكومة العادلة ننفذ رغبات البؤساء! وتكاد الرسالة أن تقول نحن في خدمة البؤساء ونعمل من أجلهم فقط، وقد تصل الرسالة للبعض بعمقها الحقيقي حين يشير أو يلمح بعض البؤساء الشركاء في الوطن على حين غرة: بأن المحرومين من الدعم هم سراق وطماعون وينهبون مقدراتنا.
قمة العنف أن تضرب الحكومة السلم الأهلي والتشاركية بسلاح الأخوة الأعداء.

الخطاب الشعبي
على كوة صراف قبض الرواتب الشهرية، يحتشد عدد كبير من الأشخاص للحصول على أموالهم الشحيحة. يتدافع المجموع ويشتمون بعضهم بعضا. تطالب سيدة بطابور خاص بالنساء وطابور خاص بالرجال، يسخر منها رجل، يقول لها: “خايفة على جمالك”. وتقول لها سيدة بتأفف وضجر: “الناس ميتة من الهم، ما حدا ألو نفس يغتصبك”. تصمت المرأة، تفكر بالانسحاب، لكنها دورها بات قريبا، ولن تفرط بالوقت الذي قضته واقفة على كوة الصراف، رغبت بالرد، لكنها شعرت بأنها ضعيفة جدا، أحست برغبة عارمة بالبكاء، طلبت من الرجل الذي يقف خلفها ان يحفظ لها دورها بذريعة اضطرارها لإجراء مكالمة هاتفية مع ابنها لتوقظه كي يذهب إلى عمله، تدخل إحدى البنايات تبكي بشدة ، تمسح دموعها وتعود، كل ما كان بوسعها فعله حينها تجاه الحجم المذل من العنف هو ان تبكي في الخفاء، إعلان الشكوى يطعن الروح بعد أن طعن القلب مرات ومرات، عادت إلى مكانها في الطابور وكأنها قد تخففت من الغضب الذي تخشى استعاره، بات لجم الغضب وابتلاع الألسنة والتحايل بالهمسات الساخرة أسلوبا وقائيا، قد يرضي أصحابه ظاهريا، لكن في العمق كل شيء بات بلا جدوى.
لم يفكر أحد من الواقفين في الطابور الطويل الذي بات يعيق حركة المشاة على الرصيف بسؤال الموظفين عن سبب التأخر بتوطين الرواتب في كوات صرف الرواتب، لم يسأل أحدهم المسؤولين عن سبب خروج عدد كبير من الصرافات عن الخدمة بسبب اعطال فنية أو بسبب الغائها وبعضها قد تم نزعه وتسوية الجدار الذي كان يحمله، دونما أي تعويض بجهاز آخر ولو في مكان آخر، وحديث الصرافات حديث ذو شجون خاصة في الأرياف بحيث يضطر الموظفون للذهاب عدة مرات إلى أماكن وجود الصرافات القليلة جدا وبسيارات أجرة لتحصيل رواتبهم القليلة والتي تفقد أجزاء منها كبدل للتنقل.
الجميع مستاء، لكنه يختار الصمت، ويحاول لوم الآخرين، لا بل الانتقاص منهم وربما إهانتهم، لكسب شعور واهم بأنه أرفع منهم مستوى والحقيقة هي عملية هروب كي لا يعترف بأن الذل يجمع بينهم بوثاق متين.

معارك الشارع
لا وسائط نقل يوم الجمعة، يمر الوقت بطيئا. سميحة وأطفالها الثلاثة على موقف الحافلات، اتصلت أمها لتستعلم عن سبب تأخرها، تجيب سميحة ما في باصات! يرد والدها يوم الجمعة هو يوم عطلة للباصات الكبيرة، تصمت سميحة سأنتظر سرفيس إذن، يبكي ابنها الصغير ويصرخ: جوعان، تحاول تهدئته وتعده بفطور طيب عند جديه، من بعيد يلوح بالأفق ظل سرفيس، تحمل سميحة ابنها الصغير، تصرخ بابنتها الكبرى وتقول لها: “دغري طلعي واحجزي مقعدين”. يصل السرفيس، يفتح رجل الباب ويرمي الطفلة على الأرض بجسده الضخم، يدخل شاب إلى السرفيس عبر النافذة، تبكي سميحة، تشتم الرجل الذي كان سببا في وقوع ابنتها، يتعاطف معها أحد الركاب، يحاول مساعدتها في دخول السرفيس، يصاب رأس ابنها بباب السرفيس وهي تصعد، يبكي الطفل بشدة، لا مقاعد في السرفيس، البنت تبكي والطفل الصغير يبكي والطفل الأوسط يبكي بعد أن ملأه الخوف وشعر بالضياع. امرأة تشتم سميحة وتقول لها: “ليش عم تخلفوا ولاد يا مجرمين”. رجل يقول لسميحة: “معك 3 ولاد وطالعة لحالك تتبهدلي بالسرفيس. خذي تكسي أو انضبي ببيتك”.
الشاب الذي حجز مقعدا لصديقتيه عبر دخوله من النافذة، يشتم سميحة قائلا: “روحتي علينا السيران ورفيقاتي ضلوا تحت”. ويأمرها بمغادرة السرفيس بعد أن رفض جلوسها على المقعد المحجوز من قبله.
ترفض سميحة المغادرة، تجلس وأطفالها الثلاثة على أرضية السرفيس المعدنية، وتبكي، ليس بوسعها سوى توجيه مزيد من الشتائم للجميع، ودعوات بالموت لها ولهم، تنطق بالعبارة الشعبوية المشهورة: “منستاهل كل شي عم يصير معنا! لأنو ما منحب الخير لبعض”.
الكل وجه الاتهامات للكل، لا أحد سأل عن سبب قلة السرافيس بسبب نقص المازوت، أو طول انتظار السائقين على محطات الوقود، أو اهتراء الحافلات والباصات وتعذر تأمين السيولة الخاصة للتصليح، لا أحد سأل سميحة عن رغبتها أصلا بإنجاب ثلاثة أطفال خلال ست سنوات زواج.
فقط وبسبب الحاجة لوسيلة نقل تحولت سميحة وأطفالها إلى عدوة للجميع، الكل أدانها والكل حملها وحدها مسؤولية تأخره أو عدم راحته، وقد يحملونها المسؤولية الحصرية عن أزمة المواصلات برمتها.
يتصاعد خطاب العنف المقنّع وكأنه غير مرأي وغير ملموس وغير ذي أثر، تتوه بوصلة المسؤولية، ويتحول المجني عليه إلى جاني ومذنب، تتضخم الرغبة في معاقبة الأضعف لأنه لا يمتلك أية وسيلة للدفاع، والأهم أن خطوط التوصيف واهية وباهتة، يغرق الجميع في دائرة عنف معمم ومقبول وموجه، بل ومطلوب منه أن يتعاظم حتى الإهلاك المعنوي والجسدي والمعيشي والقيمي.

مواضيع ذات صلة

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص...

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

مواضيع أخرى

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد. يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف...

رحلة في عوالم الدهشة

رحلة في عوالم الدهشة

في أسلوب جديد ومختلف عما عهدناه يأتينا طارق إمام بدهشة متصاعدة في عمله الأخير "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" الصادر عن دار الشروق 2023، منذ العتبات النصية التي بدأها بإهداء العمل لوالده "أنت فوق التراب وأنا تحته" في سرد يحفل بالثنائيات الضدية الفوق والتحت؛ الولادة...

أسفار تدمير غزَّة

أسفار تدمير غزَّة

ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذه الوحشّيّة الرهيبة التي تتصف بها الحرب التي يشنّها الصهاينة على غزَّة غير مبالين بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ؟ ويدفعنا إلى هذا التساؤل وضوح أنَّ ردّة...

تدريباتنا