تدريباتنا

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

بواسطة | مارس 23, 2024

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين الذين لا يجرؤ أحد على محاسبتهم لأنهم فوق القانون. لكن للأسف الشديد ثمة موضوع أبدي تناولته ولا تزال تتناوله الدراما السورية هو الانتداب الفرنسي في مسلسلات بأجزاء كثيرة تصل أحياناً إلى أكثر من عشرة أجزاء (كل جزء ثلاثون حلقة) مثل مسلسل باب الحارة حيث اضطر المخرج أن يُعيد شخصية عباس النوري (أبو عصام) لأن الجمهور غضب كثيراً لأن أبو عصام مات (عباس النوري نجم أيضاً). ولا يُمكن إغفال مسلسل تاج، بطولة النجم تيم حسن والنجم بسام كوسا وإخراج سامر البرقاوي. كلف المسلسل المليارات حتى أن المنتج (شركة الصباح) أعلن أنه تم بناء مدينة كاملة استغرق بناؤها أشهراً من أجل مسلسل تاج الذي يتناول الانتداب الفرنسي في سوريا. هذا يدل على الإفلاس في إنتاج دراما سورية تحاكي واقع السوريين. صار لدينا فرط إشباع من مسلسلات الانتداب الفرنسي. وتكمن الخطورة في أن هذه المسلسلات يقوم ببطولتها نجوم أو ممثلون مبدعون، فتيم حسن مثلاً ممثل عالي الموهبة ومؤثر في شريحة كبيرة من المشاهدين في العالم العربي كله، ولا أزال أذكر العدد الكبير من شبان اللاذقية وغيرها كيف قلدوا جميعهم قصة شعر وشكل الذقن في أحد مسلسلات تيم حسن. لكن الخطورة تكمن في أن الموهبة العالية للنجم أو النجمة في الدراما هي سلاح ذو حدين، فمن جهة إن الشهرة الكبيرة للممثل والكاريزما الخاصة به تدفع محبيه لمتابعته وقبول أية شخصية يمثلها حتى لو كان تاجر مخدرات خارجاً عن القانون كما في دور تيم حسن في مسلسل الهيبة المؤلف من خمسة أجزاء. لكن عشاق إبداعه وموهبته الفذة والكاريزما التي يتمتع بها تجعل المشاهد يُعجب بشخصية تيم حسن في مسلسل الهيبة، حتى أنني لاحظت في اللاذقية قبل سفري إلى فرنسا عدة محلات ألبسة وأطعمة حملت اسم الهيبة.

 إن المسلسلات السورية الأخرى الجريئة ظاهرياً–هي التي تتحدث عن السلطة المطلقة لأجهزة الأمن (المخابرات) مثل مسلسل الولادة من الخاصرة، وهو يتألف من ثلاثة أجزاء وكل جزء يتألف من ثلاثين حلقة، وبرع هذا المسلسل في إظهار قوة وجبروت أجهزة الأمن وأبدع في إظهار وسائل التعذيب الوحشية التي يتعرض لها من يقع في قبضة المخابرات. وهنا أيضاً تلعب نجومية الممثل دوراً في التأثير على المشاهدين فالممثل عابد فهد نجم مبدع له جماهيرية كبيرة وأبدع في تمثيل دور ضابط الأمن في مسلسل الولادة من الخاصرة الذي أحرق فيه وجه زوجته الممثلة سلاف فواخرجي وقتل والدها. وفي نفس السياق، يسلط الضوء مسلسل كسر عظم للمخرجة رشا شربتجي وبعض حلقات بقعة ضوء على القوة المُطلقة الجبارة لأجهزة المخابرات، لكن هل دور هذه المسلسلات نقد أجهزة المخابرات وفضح وحشية طرق تعذيبها؟ صحيح أن هذه المسلسلات صورت الطرق الوحشية لأجهزة المخابرات وظلمها لكن المُشاهد السوري يشعر بانفصام في الشخصية وهو يشاهدها لأنه يعرف أن ما يعيشه في الواقع أفظع بكثير مما يشاهده في المسلسل وأن سلطة أجهزة الأمن في سوريا مُطلقة لذا هذه المسلسلات لم تعد تنجح حتى في تنفيس الغضب الكامن في نفوس السوريين، لأنهم يعيشون الواقع أي الحاضر المُرعب حيث لا تكاد توجد أسرة سورية لم تخسر العديد من أولادها وأحبائها سواء ارتقوا وصاروا كوكبة من الشهداء (كما يُحب الإعلام السوري تسمية الشهداء) أو ماتوا في قوارب الموت أو ماتوا تحت التعذيب. إن المسلسلات السورية كلها للأسف هي فعل ماض، من المسلسلات الأبدية للانتداب الفرنسي إلى مسلسلات تفضح ممارسات الأجهزة الأمنية بينما الشعب السوري يحتاج لمسلسلات (الفعل الحاضر أو المُضارع).

من المُخزي اعتماد الدراما العربية والسورية على المسلسلات التركية، وهي كلها مسلسلات تتنافس في التفاهة وبعضها يصل إلى 500 حلقة مثل مسلسل مرارة الحب التركي الذي أعيد عرضه عدة مرات. هناك مسلسلات تركية قمة في التفاهة تحاصر المشاهد العربي لتخدره بالحسناوات السخيات في عرض مفاتنهن وبجمال الطبيعة. من المُخزي أكثر استنساخ مسلسلات عربية وتقليد مسلسل تركي في سورية بمشاركة ممثلين من لبنان مثل مسلسل ستيلتو ومسلسل الخائن، وكأن المواضيع نفدت من عالم الدراما. هل تمت هذه المسلسلات بصلة لنمط حياة الشعب العربي! نساء فاتنات بكامل الأناقة وسخيات في عرض المفاتن وسيناريو مُروع بتفاهته عن الغيرة النسوية! نساء طوال الوقت يلبسن أحذية بكعوب عالية حتى وهن يطبخن رغم وجود الخدم! لا أنكر أنني سقطت في فخ مسلسل ستيلتو لأنني معجبة جداً بالنجمة ديما قندلفت وكنت أحس بالقهر والغضب كلما تابعت حلقة.

السؤال الأهم الذي يطرح نفسه وبقوة: لماذا لا يعتمد المنتجون والمخرجون على روايات عربية عظيمة تحكي وتعبر بصدق عن حال المواطن العربي؟ كيف أنسى المسلسل العظيم واحة الغروب المأخوذ عن رواية المبدع بهاء طاهر، وهو مسلسل إبداعي عظيم بطولة النجمة منة شلبي، أو مسلسل ذات المأخوذ عن رواية صنع الله إبراهيم ذات. كاد المسلسل الذي تلعب فيه دور البطولة النجمة نيلي كريم يتفوق على الرواية. ثمة روايات عربية رائعة وصادقة تعبر عن واقع الشعب العربي خاصة في دول النزاع والحروب مثل رواية الخبز الحافي مثلاً للمبدع محمد شكري الذي حكى بشفافية وصدق عن سكان قاع المدينة وكيف اضطرهم الفقر إلى أن يذهبوا إلى المقابر لقطف البقلة والحميضة وأكلهما. ألا يأكل الكثير من الأحبة في غزة الحميضة وأوراق الشجر كي لا يموتوا من الجوع! هذه الرواية، الخبز الحافي، رفض الناشرون العرب طباعتها لأنهم يخجلون من قاع المدينة والهول الذي يعيشه سكانها. الأخلاق العربية التي تعتمد على الدين تخجل مما حكى عنه بصدق محمد شكري. مثلاً رواية تغريدة البجعة للمبدع المصري مكاوي سعيد (الرحمة لروحه) تصلح أن تكون مسلسلاً ولا أروع يحكي بشفافية وصدق واقع العشوائيات في مصر.

أخيراً أحب أن أختتم بحوار دار بيني وبين صديقة من الساحل السوري وهي سيدة مثقفة ووطنية كانت في حالة مروعة من القهر والغضب وهي تشرح لي ما يُسمى بتطبيق سيرياتيل كاش، ما فهمته هو أنه يتعلق بطلاب البكالوريا وبمن يرغب بالتسجيل في الجامعة وشرط التسجيلonline  ومن ضمن الشروط وضع مبلغ 106 آلاف ليرة سورية عن طريق تطبيق (سيرياتيل كاش) على أساس أن هذا المبلغ سيحول إلى الجامعة. لم أفهم تطبيق سيرياتيل كاش من صديقتي التي أخبرتني أن الفواتير صارت كلها تُدفع من خلال هذا التطبيق، وأنها حين راجعت الجامعة قالوا لها: لم يصلنا أي مبلغ! ويا للدقة (مئة وستة آلاف)! أتمنى لو يتم إنتاج مسلسل أو فيلم سوري بعنوان سيرياتيل كاش، عندها يكون فيلماً أو مسلسلاً من الحاضر وليس من الماضي حتى لا نُصاب بالإشباع إلى حد التسمم من مسلسلات الإنتداب الفرنسي، فضلاً عن خسارة أموال طائلة تُصرف لتخدير جمهور فقير ومُتعب وخائف لدرجة الذعر وهو ضحية سلاح ذو حدين: نجومية ممثلين يحبهم ومواضيع مسلسلات هي تماماً كدس السم في العقل. بالمناسة حتى الآن لم أفهم بدقة تطبيق سيرياتيل كاش لكن يكفي أنني أحسست بقهر صديقتي.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا