في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

في بداية عام 2017 أنهيت زيارة لقرية “كوكب” الواقعة في “ضهر الزوبة” في بانياس والتابعة لقرية البساتين، وكان لي أن أعود باتجاه طرطوس سالكاً طريقاً من اثنين: إما عبر قرية الزوبة ثم الخريبة وضهر صفرا، ثم الروضة؛ لأصل إلى الطريق السريع بين طرطوس واللاذقية، وإمّا عبر الطريق الثاني الذي ينحدر في قرية البساتين ليصل مباشرة إلى الطريق السريع، وهو طريق أقصر وأسهل من الطريق الأول لكنه مقلق ويلزمه الحذر كما قيل لي والسبب أن أهل البساتين “سنّة” وهم معارضون في أغلبهم.
في ذلك الوقت كان يبدو أن النظام في سورية قد انتصر وأن المعارضة بصفتها السنيّة الغالبة قد خاضت معركتها وهُزمت، لكن سكان القرى العلويين المحسوبين على النظام، ما زالوا يتجنبون الاحتكاك بهم.
سلكت طريق البساتين بناء على تطمين من كنت ضيفاً عندهم، فقد قال صاحب البيت: “عم، لن يتعرّض لك أحد، أهل البساتين طيبون، عشنا وإياهم دهراً ولم يتعرض أحد للآخر إلى أن حدث ما حدث” وهو بذلك يشير إلى ما جرى من قتل في قرى البساتين والبيضا، وقد أكّد لي أن أهل “كوكب ” لا علاقة لهم به، فالذي ارتكبه هم مجموعات قدمت من الشمال تابعة لـ”هلال الأسد” الذي قُتل فيما بعد في معركة شمال اللاذقية.
انحدرت في قرية البساتين، وبعد أن قطعت مسافة قصيرة توقّف رجل على يمين الطريق؛ قبل أن أصل إليه بخمسين متراً وحياني بطريقة لن أنساها أبداً، انحنى انحناءة خفيفة ورفع يده إلى محاذاة رأسه بما يشبه التحية العسكرية وغض بصره عني.
تكررت التحية أكثر من مرة مع أكثر من شخص وكلما سلكت ذلك الطريق. تلك التحية التي يمكن تسميتها تحية الخوف والانكسار، قد تركت في نفسي أثراً وأسفاً عميقاً، فقد أحزنتني وضايقتني، ذلك الضيق الذي يتأتى من ضيم لا ترضاه، لكن لا تملك حياله شيئاً.
لسنا بصدد الكلام عن أسباب المجزرة التي حدثت حينها والتي قيل إنها رد فعل عما اقترفه أهالي البيضا والبساتين بحق عسكريين ومدنيين تم قتلهم هرساً في معصرة زيتون، وعلى ما حدث في بانياس البلد، كقتل “عماد جنود” وهجوم جسر القوز على رتل الجيش.
لكن عليّ أن أذكر نقلاً عن شهود عيان أن ضحايا تلك المجزرة كان الكثير منهم من الأبرياء ومن مؤيدي النظام حينها أو من الحياديين الذين لم يكن لهم موقف سياسي معلن من النظام أو الحراك السياسي الذي اعتمل في سوريا ومنها بانياس، أولئك الذين اختاروا الاهتمام بحياتهم اليومية وعدم الانجرار إلى أي نشاط سياسي أو فعل راديكالي.
أحد شهود العيان روى لي أن أحد أهالي البساتين كان يعمل على جرار في حراثة الأرض في قرية “كوكب” أوقف جراره ليعود إلى البساتين، حاول من روى لي (وهو علوي) وأشخاص آخرون منعه من العودة وإبقاءه لحمايته، لكنه أصر على العودة وهو يقول: “لم أفعل شيئاً ولست ضد الدولة، ولا يمكنني أن أترك أهلي.” ترك جراره وذهب ولم يعد أبداً.
وروى لي آخرون أنه تم إرسال تحذير من أهالي قرية كوكب “العلوية” إلى أهل البساتين والبيضا بأن هجوماً على وشك أن يقع على القريتين لا علاقة لهم به، وعليهم أن يكونوا حذرين.
تجاوب مع التحذير من تورّط في أعمال دموية ومظاهرات وهربوا، وبقي من لم يرتكب شيئاً لظنهم أنه لن يطالهم سوء، وهم من صاروا ضحايا.
قِيل الكثير عما حدث في سياق هياج جمعي يحدث عادة في مثل هذه الظروف، حيث لم يتم التمييز بين البريء والمذنب، فالكل مذنبون في نظر القتلة، المرأة التي التجأت إلى خم الدجاج لتختبئ مع أولادها وقُتلت، شيخ الجامع صاحب الموقف المعتدل الرصين، معلم المدرسة المنفتح…
هذا الهياج نفسه هو الذي حكم ما جرى في المذابح الأخيرة التي ارتكبت بحق العلويين في بانياس وجبلة واللاذقية، وفي حمص وقرى حماه وغيرها، مع فارق لا بد من ذكره وهو الدافع ومعطيات المرحلة.
ارتكبت تلك المذابح وما زالت بسبب مباشر هو تذرّع من ارتكبها بمحاولة انقلاب قام بها كل من “غيّاث دلا” و”مقداد فتيحة” كقادة لفلول النظام البائد. والمفارقة أن تحدث تلك المحاولة في قرية تبعد عن العاصمة ثلاثمائة كيلومتر، وقد ادعى من قال بذلك أنّ تلك المحاولة كانت تضم قسد والدروز، غير أنه بعد يومين من المذبحة تم توقيع اتفاق بين الشرع وعبدي، ومن غير المعقول أن يتم توقيع اتفاق في ظرف كهذا، ووضع سياسي حاد ومصيري حيث أحد الطرفين يسعى لإنهاء الآخر بهذه السرعة.
السبب غير المباشر والأقرب للواقع؛ هو الرغبة بالثأر والانتقام ممن يُعتبر حاضنة للنظام البائد، والحاضنة المقصودة هنا طائفية وليست سياسية، تلك الرغبة المخبوءة كالجمر تحت الرماد والتي تنفخ عليها من وقت إلى آخر أحداث وتداعيات خاصة في سنوات الحراك السياسي الأخيرة التي أزكت التناقضات السياسية وجعلتها أكثر حدة وبلبوس طائفي واضح.
بخصوص ذلك نُشرت بعض الخرائط شاهدت إحداها على شاشة إحدى الفضائيات العربية في عام 2011 وقد كتب على منطقة الساحل السوري “Killing zone“ منطقة القتل، وهذا يؤكد ما كان مبيتاً للمنطقة الساحلية.
التخطيط لما ارتكب في هذه المجازر كان واضحاً رغم التسويق الإعلامي لها بأنها أتت نتيجة “فزعة”، وهذه الكلمة بالذات تحمل معنى تراحمياً اجتماعياً يشي بطبيعة من استخدمها وتجاوب معها، كأنهم فعلوا ذلك لدرء خطر محدق داهم وهي سمة غالبة في المجتمعات البدوية.
الأكثر تأثيراً كانت الدعوة إلى الجهاد ذات البعد الديني التكليفي- فرض عين- وقد انطلقت من مآذن الجوامع في عدة مدن سورية، وتمّ بثّ هذه الدعوة وصور للتجمعات التي تآلفت تجاوباً معها بشكل مباشر على قناة الجزيرة، بالصوت والصورة، فتعالت صيحات وشعارات صريحة وبحماس واندفاع شديد تدعو إلى ذبح العلوية والقضاء عليهم.
المذابح التي ارتكبت ووثقت كانت دموية مفرطة وقاسية جداً، وفق شهادات لمن بقي حياً كان القتل يتم بعد سؤال الضحية “أنت شو؟”، رغم أنهم يعرفون انتمائهم الطائفي، لكن للسؤال هنا بعداً آخر هو الإذلال والتشفي قبل القتل.
روت زوجة المهندس “نبيل حبيب” أنهم دخلوا المنزل وسألوا زوجها بأسلوب فظ: “شو دينك؟” أجاب: “أنا مسلم.” أردفوا: “مسلم شو؟”
أجاب: “مسلم…” وصمت، ردوا بعنف: “مسلم سني أم علوي؟”
قال بهدوء: “علوي…”
ضربوه بأخمص البندقية وصرخوا: “إلى السطح.. اطلع عالسطح يا خنزير،” حيث حدثت المقتلة له ولجيرانه.
ضحايا المجازر كانوا أبرياء، تم انتقاؤهم من كوادر علمية واجتماعية وفق معلومات وتوجيهات حددت مكانهم وانتماءهم، وكأن القتل كان محملاً على الخريطة، إضافة إلى القتل العشوائي، فأول من قتلوا عجوزاً عمره ستة وثمانون عاماً، تصادف أن وجد في طريقهم، “قرب كراجات السرافيس”.
الصحافية ثناء عليان روت كيف قتلوا زوجها، فقد كتبت تنعيه على صفحتها “زوجي لم يكن فلولاً ولم يقاتل أحداً.. دقو الباب ولما فتح سألوه: أنت علوي أم سني؟ وبناء على جوابه تم قتله بدم بارد بعد أن أخذوا سيارته وموبايلي وموبايله… رحمة الله عليه رحمة واسعة..”
المفارقة أنه تم قتل امرأة خنقاً لجأت إلى خم الدجاج كما حدث في البيضا، ولكن في قرية “بصيرة الجرد” على أطراف جرد صافيتا.
في خضم ذلك الهياج الذي نتج عنه القتل وحرق المنازل والسيارات والتنكيل بالضرب وغيره، لا بد من ذكر ما هو إيجابي؛ المتمثل بمبادرة عائلات سنيّة لحماية المستهدفين العلويين. والغريب أن هناك عناصر من الفصائل الذين قدموا مع من ارتكب المذابح عملوا على نجاة عدد من الأهالي العلويين، وهناك حالات توثق ذلك، فمثلاً أحد عناصر الفصائل نقل بسياراته عائلات من القصور ساحة الذبح إلى مساكن المصفاة، وآخر حمى بناية بأكملها بالإدعاء أن ليس فيها أحد، وحوادث أخرى. توثق ترحيل أهالي خلسة.
حادثة لها دلالاتها المختلفة روتها تلك الأم التي وضعت مولودها قبل أوانه وكان لا بد له من حاضنة في مشفى بانياس الوطني، وهي من قرية علوية، اقتربت منها ممرضة سنيّة وقالت لها: “لا تقولي إنك علوية، سيقتلونك ويقتلوا الطفل، قولي إنك سنيّة.” ومضت لتجلب لها حجاباً وضعته على رأسها. هذا يوضّح فرقاً واضحاً وهو أن الهياج الطائفي وصل إلى حد الرغبة في إفناء الآخر “العلوي” والغريب والمؤسف أنه شمل الطبقة المثقفة والأكاديمية، فكيف لطبيب أن يأمر أو يتسبب بقتل طفل!
خلال أربعة عشر سنة حدثت مجازر كثيرة بحق العلويين والسنّة، لكن لم يستشر الهياج الطائفي كما حدث في مجازر العلويين الأخيرة، إلى درجة بدا وكأن الأمر غريزي موزع بين غريزة القتل وغريزة المحافظة على البقاء..منذ أيام شاهدت نفس التحية؛ تحية الانكسار والخوف التي رأيتها سابقاً وأنا أعبر قرية البساتين، لكن هذه المرة رأيتها على الحواجز، يؤديها من يعبر من العلويين.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...