تدريباتنا

خطبة البراءة

by | Jul 2, 2019

الحمدُ لحربٍ وهَبَتْكم أعمارَ الرُّضَّعِ، وقلَّدتكم أوسمةً من عيون الغرقى.

والسلامُ على سِلْمٍ مُرِّغْنا فيه بين الشوك وأذناب الأشبال، وانْعَجَنّا بين الإسفلت ودواليب الحاشية.

والصلاةُ على كلِّ سقفٍ تَرَفَّقَ بساكنِيْهِ فسَما نحو حصونكم ليسوّرها بالحِمم، وعلى كلِّ طيفٍ غافَلَ الحواجزَ لينثر في شبابيك ملاجئنا غربةَ الشجر في العاصفة وأُلْفَةَ النَّايِ للرحيل.

ونعوذ بما ومَن سلَّطكم علينا مِن أن نُضْمِرَ غيرَ يأسِ الينابيعِ التي رُدِمتْ، أو أن نُظْهِرَ غيرَ ما تَأْمله الجذوع العتيقة حين تُواجه الجرّافاتِ، أو أن نعتنق غيرَ الندم على الولادة، أو نخوضَ مغامَرةً غيرَ التفرُّسِ في عتمة القبر، أو ننْضمَّ لقافلةٍ غيرِ الخليطِ الذاهل المعرّى ساعةَ الحشر.

ونُشْهدكم أننا صائنون ما وجدنا عليه آباءنا: منّا اللَّحْمُ، ومنكم الكرابيج. لنا الجِلدُ الرَّقيع كالتَّنَكِ الذي يجول به المجاذيب بين الأزقّة، ولكم العظامُ المجوَّفاتُ أبواقُ نصرٍ وقواريرُ مترَعة.

وأننا مُوْثَقون بأسماء صُلْبةٍ كالعقائد: نُجِلُّها في الليل، ونذلُّها في النهار. ونوْرِثها للآتينَ: خفيفةً على اللِّسان، ثقيلةً في الميزان، منقَّحةً بصفات الأنعام تَحَبُّباً وذكرى، ومُطَرّاةً برذاذ الشتائم، ومطرَّزةً بالحفيف المنوَّع لأوهام الفِرَقِ الناجية.

إذا خَفيتْ عليكم حالُنا، فلِبَهاتةِ المَشهَدِ لا لعلّةٍ في نظراتكم الثاقبة. وإذا أحطتم بها ولم تُبْدوا ولو هزّةً من الأكتاف، فلأنكم حَمّالو مَصائرَ ورافعو ألوية.

وقد ضاقت أعينُنا يا واسعي الحيلة، تَقَوَّسْنا يا فؤوس الجليد! 

امَّحى أكثرُنا يا راسمي الخرائط، وانكمشْنا حتى لَنُنَقَّل بالملاقط يا مُعْجزاتِ الجراحة!

مَن سَلِمَ جسدُه، طُعنتْ روحه. ومن لم يفقد عزيزاً، سُلِبَ العِزَّ.  ما نجا بيتٌ إلّا جُوِّفَ مِن أُنْسِهِ وتراثه، ما غادرَ خائفٌ محرقةً إلّا ليَسْكُنَ بين فَكَّيْن.  الآمِنُ شريدٌ، والساعي طريدٌ، والمفقودُ مَطْوِيٌّ في ثنايا الغصّة مُوْكَلٌ إلى مخالب الصُّدَف.

 خرائبُ تتساندُ، وآبارٌ تتنادى. جسورٌ صارت أسواراً، وحدائقُ استحالت عظامُ مَن دُفِنوا فيها ناياتٍ بين شفاهِ العتمِ وأكُفِّ الخريف. لا بشائرَ للصبح غيرُ ما تُلْهي به الأشجانُ عن الحشرجات، ولا سلوى عن هَوانِ الفَردِ إلّا ذهولُ المجموع.

أمّا بَعد.

فهذا يومٌ تتبرّأ فيه الأجساد من شهواتها، وتتشمَّسُ النفوس مُنَدّاةً بضباب المنامات.

لنكتشفَ بعد أوّلِ رشقةِ ماءٍ (سواءٌ أكان ساخناً طَهوراً في حمّامٍ آمِن، أو بارداً معكَّراً من ساقيةِ مخيَّم) أنكم خالطتم الغرائزَ وترسَّبتم في الرغبات.

 فليس للقُبلات الحميمة أن تزيح الأحجارَ التي سَدَدتم بها حناجرَنا،

 وليس للأحضان السخيّة أن تذيب صقيع المَهاناتِ التي رُشِقنا بها من العُلى ونحن نتناتف الأرغفةَ أو نتلمّس الهويّات.

وليس لرعشات النشوة إلا أن تستكمل الرقصاتِ الصاخبة التي أدَّيناها في سِيْركِ التحقيق(  مؤرجَحِينَ في الحالتين على الحِبال القلِقة ذاتِها: في مَهَبِّ لذّةٍ تُداني الموتَ، وموتٍ يوشك أن يصير لذّةً).

ولكي نوقن(  سواءٌ صَحَوْنا ممتنّينَ للضوء، أو نهضنا لاعِنِينَ الضجيجَ) أنّ الأحلام ألعابٌ يستدرجنا بها الغُولُ إلى مغارته؛ في مَساراتٍ مُعلَّمةٍ بالأحاجي والحُفَر، وفضاءٍ سديميّ مزخرَف بالغوايات والبشائر. فلا يَبلغ أيُّ كابوسٍ خاتمتَه القاضية، ولا تستجمع أيّةُ رؤيا مقوِّماتِ نبوءتِها. إمعاناً في التشويق وإذكاءً للشَّجَن، لتَظَلَّ اللهفة إلى الرقاد مَبْعَثَ نشاطِ الطُلقاء ومفتاحَ طواعيّةِ الأسرى.

وأنتم حول مضمارِ لهاثِنا بين الواقع والغيب: أملٌ يشجّع الذاهلين على تخطّي الحواجز أو تحطيمها، ويأسٌ يُقْنِع العازمين على الانتحار بتبديل خططهم أو تأجيلها.

وقد أكملنا لكم في هذا اليوم ذبولَنا، وأتممنا بكم أُفُولَنا، ورضينا لكم الحطامَ عروشاً. ولسنا ندري أنَلقاكم بَعده مثلما يتلاقى الطافُونَ على سقْطِ متاعِ السفينة الغارقة، أم نغيب جميعاً إذا أُسدلتْ علينا ستائرُ كِرْشِ الحوت.

نسألكم- كاشِفِيْنَ منكشفين في عَراءٍ لا يُجابُ فيه راجٍ ولا يُعابُ ناصحٌ- أن تَعكفوا على قراءةِ اللَّهَبِ المتحجّر في أحداقنا، لعلَّ هذه الحبال ترتخي.

وأن تُتقنوا الإنصاتَ لدمدمات قبضاتِنا، فلسنا نأْمن إذا واظبتْ هذه الأمواج على الهدير والتلاطُم إلامَ ستَؤوْل القواقعُ التي احتجبتم بها عَنّا.

وأن تَهَبوا أنفسَكم فسحاتٍ للفرجة، ولو بالتفاتاتٍ خاطفة كالَّتي يواكب بها صاحبُ المَسلخ اضطرابَ المارّةِ حين تختلج الأضاحي.

لا أرانا الزمانُ فيكم إلّا ما نَحْذَر!

ولا دارت الأفلاك إلا لتكذِّبَ المنجِّمينَ المتخرّجين من معاهدكم!

ولا سَكنتْ دواليبُ الحظّ إلا لتُبَدِّدَ الوهمَ بأنكم الرَّقم الأصعب في اللّوح المحفوظ!

مواضيع ذات صلة

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص...

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

مواضيع أخرى

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد. يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف...

رحلة في عوالم الدهشة

رحلة في عوالم الدهشة

في أسلوب جديد ومختلف عما عهدناه يأتينا طارق إمام بدهشة متصاعدة في عمله الأخير "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" الصادر عن دار الشروق 2023، منذ العتبات النصية التي بدأها بإهداء العمل لوالده "أنت فوق التراب وأنا تحته" في سرد يحفل بالثنائيات الضدية الفوق والتحت؛ الولادة...

أسفار تدمير غزَّة

أسفار تدمير غزَّة

ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذه الوحشّيّة الرهيبة التي تتصف بها الحرب التي يشنّها الصهاينة على غزَّة غير مبالين بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ؟ ويدفعنا إلى هذا التساؤل وضوح أنَّ ردّة...

تدريباتنا