في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

“واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد” هو شعار لطالما ردده السوريون\ات، على اختلاف الطوائف والانتماءات، خلال المظاهرات التي عمت مختلف المحافظات السورية منذ اندلاع الثورة السورية التي نادت بالحرية وإسقاط النظام. الشعار ذاته عاد ليصدح في الساحات والشوارع خلال الاحتفالات بسقوط النظام البائد وولادة سوريا الجديدة التي لطالما حلم السوريون\ات بولادتها. اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على سقوط النظام، وفي ظل ما شهدته البلاد من أحداثٍ مؤلمة، يطرح كثير من السوريون\ات سؤالاً ملحاً ومؤلماً: هل الشعب السوري شعب واحد؟
لا يخفى على أحدٍ أن النظام البائد يتحمل المسؤولية الكبرى تجاه ما يحدث اليوم في البلاد، نتيجة تخريبه الممنهج لها لأكثر من نصف قرن، ونتيجة ممارساته الاستبدادية وسياسات القمع والتهميش والقهر التي مارسها بحق الشعب، قبل أن يقمع ثورته بشتى السبل والوسائل الإجرامية والوحشية، التي جرَّت البلاد إلى مستنقع حرب مدمِّرة أجهزت على ما تبقى منها، وأدت إلى تهجير ونزوح أكثر من ثلث الشعب الذي أصبح منقسماً إلى عدة شعوب. ولكن رغم ذلك، كان من المتوقع، بعد سقوط النظام وانتصار الثورة، أن يعود الشعب السوري ليتكاتف وينهض بالبلاد كشعبٍ واحد، إلا أن الواقع لم يكن بحجم الأحلام والأمنيات.
يحاول اليوم معظم المُصطفين\ات إلى جانب النظام الجديد، حصر شكل الإنتماء الوطني بالولاء المطلق لهذا النظام والخضوع لأدوات سلطته الناشئة التي بدأت تفصّل سوريا على مقاسها، وتنزع الصفة الوطنية عن كل من لا يتبع نهجها، رغم اتهام جزء كبير من السوريين\ات لها بأنها حولت البوصلة الوطنية من الانتماء لسوريا الثورة إلى الانتماء الديني والمناطقي، خاصة بعد إصدار الإعلان الدستوري الذي خيَّب آمال الكثيرين، ومن ثم تشكيل الحكومة التي وصفها الكثيرون بأنها حكومة لون واحد، غاب عنها إشراك العديد من الشخصيات الوطنية والثورية المشهود لها بكفاءتها وخبرتها، فيما حظيت الشخصيات المحسوبة على السلطة بأكثر من نصف التشكيلة الوزارية واستأثرت بالوزارات السيادية، ما جعل تلك الحكومة تتلقى الكثير من الانتقادات كونها لم تسع لبناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية ومدنية، وتجاهلت مبادئ الشراكة والمواطنة بإقصائها شرائح ومكونات واسعة من السوريين\ات، في وقت يحتاجون فيه لمد جسور المواطنة والتعاون فيما بينهم للنهوض بالبلاد، التي ما زالت مقطعة الأوصال وأبعد من أن تكون كياناً واحداً، فجزء من شمالها تسيطر عليه فصائل تابعة لتركيا، التي تحتل مناطق حدودية واسعة، وشمال شرقها تسيطر عليه قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وجنوب شرقها تسيطر عليه قوات تابعة لأمريكا، فيما ما يزال الجنوب تحت سيطرة الفصائل والقوى المحلية، وما زالت البادية تضم بقايا لتنظيم داعش.
وفي وقت تحتاج فيه البلاد لتأسيس جيشٍ وطني يضم جميع مكونات الشعب، تم تشكيل الجيش الجديد من فصائل عسكرية محابية للسلطة، ومحسوبة عليها، كهيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، والتي تحمل بمعظمها أيديولوجيات جهادية ودينية تغلب على الأيديولوجيات الوطنية، وتسعى لتحقيق مكاسب فردية وسلطوية بدلاً من المكاسب الوطنية، فيما غاب عن تشكيل الجيش أي حضور فعلي للضباط المنشقين ذوي الخبرة العسكرية والذين انحازوا للثورة، وهو ما سيشكل، بحسب كثير من الآراء، تهديداً واضحاً لمفهوم الشراكة الوطنية ولمستقبل الهوية السورية الجامعة.
خيبات أمل وتخوين وانقسام
مع سقوط النظام البائد، تأمل سوريو الداخل بإمكانية عودة النخب السياسية والثقافية والوطنية من الخارج ليساهموا معها في بناء سوريا الجديدة، لكن معظمهم صدموا وأصيبوا بخيبة أمل بعد عودة كثير من الشخصيات إلى البلاد، إذ اكتفى بعضها بزياراتٍ قصيرة، كانت أقرب إلى السياحة الثورية، واقتصرت على الإقامة في الفنادق والتقاط الصور في ساحة الأمويين وشوارع دمشق، والجلوس لساعات في المقاهي، التي اكتظت بالنشطاء المدنيين والسياسيين، وخوض نقاشاتٍ عامة بعيدة عن الواقع. وقد سعت بعض الشخصيات منذ وصولها إلى سوريا إلى خطف الأضواء وتَصدّر المشهد السياسي والثقافي، ولو بشكلٍ صوري، من خلال تقديم بعض المحاضرات والندوات التي تقترب إلى التنظير وتبتعد عن الممارسة العملية، وذلك على حساب الكثير من النخب الثقافية التي لم تغادر سوريا طيلة الحرب، فيما سعت شخصيات أخرى إلى التقرب من السلطة والدفاع عنها لتحقيق مكاسب شخصية وللحصول على مناصب حكومية.
إلى جانب ذلك أدى الانقسام السياسي بين السوريين\ات إلى تقزيم وتخوين الكثير من الشخصيات المحسوبة على الثورة والتي كانت تُعتبر شخصيات وطنية جامعة، فاليوم أصبح هناك جيوش إلكترونية مهمتها رصد منتقدي أداء السلطة لتقوم، عبر ضخٍ وتحريض شعبي واسع، بالإساءة إليهم وشيطنتهم وقذفهم بعشرات التهم الجاهزة :(فلول نظام، مرتزقة، انفصاليون، عملاء لإسرائيل.. الخ) وهو ما حصل، على سبيل المثال لا الحصر، مع الفنانة يارا صبري بعد انتقادها لبعض ممارسات السلطة، رغم مواقفها الداعمة للثورة، ومع الفنان سميح شقير بعد نشره أغنيته الجديدة مزنر بخيطان التي تحدثت عن المجازر والانتهاكات التي تعرض لها أبناء الطائفة العلوية، رغم تأييد كثير من السوريين\ات لتلك الأغنية التي عدّوها امتداداً للمشروع الفني لشقير الذي يقف في وجه جميع أشكال الظلم والاستبداد. وبالمقابل تخرج اليوم الكثير من أصوات معارضي السلطة الجديدة لتتهم جميع مؤيديها بأنهم سلفيون وتكفيريون ويسعون لاستعادة أمجاد بني أمية. كل ذلك يحدث في ظل تأخُر تطبيق العدالة التي انتظرها الشعب طويلاَ، وفي ظل تنامي الخوف بين أبناء الشعب، وغياب شخصيات وهويات وطنية يمكن للسوريين أن يُجمعوا عليها.
في غياب العدالة الانتقالية
كان من المفترض أن تمثّل الثورة انتصاراً للعدالة، وأن تنصف جميع الضحايا وتعاقب جميع مجرمي الحرب، بغض النظر عن طوائفهم، من خلال تطبيق العدالة الانتقالية وتشكيل محاكم قانونية ونزيهة، وليس من خلال أعمال الثأر والانتقام وإعادة إنتاج الظلم والاستبداد بشكلٍ جديد، الأمر الذي خلق انقساماً كبيراً بين أبناء الشعب السوري وفتح الباب أمام النقاش الثأري فيما بينهم، في ظل تحول الكثير من ضحايا الأمس إلى جلادي وشامتي اليوم. وقد تجلى ذلك كله بوضوح خلال المجاز والانتهاكات التي ارتكبت بحق أبناء الطائفة العلوية في الساحل وحمص وحماة. فبينما رأى البعض أن ما حدث هو جرائم ضد الإنسانية، وعلى الشعب السوري أن يقف برمّته ضدها، خرجت بالمقابل أصوات كثيرة لتُبرر ما جرى تحت ذريعة أن جميع الضحايا هم من فلول النظام، بل خرجت أصوات طائفية وثأرية لتشمت بالضحايا وتدعو لمعاقبة الطائفة، التي تحولت برمتها، بحسب تلك الأصوات، إلى طائفةٍ أسدية وامتداد للنظام، ولا عدالة إلا بقتل أبنائها. تلك الأصوات لم تكتف بذلك بل اتهمت المدافعين عن الطائفة بأنهم أيضاً من فلول النظام، وهو ما حدث خلال الوقفة الاحتجاجية التي أُقيمت في ساحة المرجة للتضامن مع ضحايا المجازر، حيث خرجت أصوات معارضة وقفت بوجه المشاركين، مرددةً هتافات طائفية، ومتهمة إياهم (رغم حملهم لشعارت تتضامن مع شهداء الأمن العام) بأنهم فلول وعملاء، وبأنهم تقاعسوا عن التضامن مع ضحايا مجازر النظام البائد خلال الثورة، ليتطور الأمر إلى عراك بالأيدي، على الرغم من أن معظم المشاركين بالوقفة كانوا من أنصار الثورة ومن المعتقلين.
تلك الجرائم، التي أدت إلى إحداث موجات نزوح وهجرة إلى خارج البلاد، خلقت حالة من التفكك المجتمعي وفقدان الثقة في السلطة الجديدة وخياراتها وممارساتها، في ظل غياب قانون يحاسب مرتكبي الجرائم (التي وُضِعت بمعظمها تحت مسمى الأخطاء الفردية) وتأخر تطبيق العدالة الانتقالية، التي أصبحت في كثير من الأحيان تقوم على مبدأ الثأر والإنتقام بدلاً من العقوبة القانونية. كل ذلكسيؤسس لمظلومية كبيرة لدى أبناء الطائفة العلوية، خاصة مع تسريح الكثير منهم من وظائفهم، وسيعزز حالة الخوف الشعبي من إمكانية تكرار ممارسات النظام البائد بطرق وأدوات جديدة، وسيفاقم حالة الانقسام بين أبناء الشعب السوري.
الخطاب الطائفي يهدد وحدة الشعب
من كان يصدق في بلدٍ عريق كسوريا، أن تسجيلاً صوتياً مجهول المصدر، يتضمن إساءة للنبي الكريم محمد، نَسبه البعض إلى أحد أبناء الطائفة الدرزية، سيعرض الطائفة بأكملها للخطر؟ فعقب انتشار ذلك التسجيل خرجت مظاهرات في عدد من الجامعات السورية، حملت عبارات طائفية وعدائية ضد الطائفة الدرزية وأدت لاعتداءات لفظية وجسدية على طلبةٍ من أبنائها، أعقبها خروج مظاهرات في مدينة حماة ودمشق، دعت لمحاسبة الطائفة وحملت شعاراتٍ عدائية وثأرية، ترافقت مع حملةٍ تحريضية ممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي، طالت بعض المرجعيات الدينية والاجتماعية واتهمتها بالعمالة والإنفصالية، وساهمت في تأجيج الحقد الطائفي والكراهية وتفاقم حجم التوتر في الشارع، ليتطور الأمر إلى اعتداءات مسلحة على أبناء الطائفة من قبل بعض الفصائل غير المنضبطة، بدأت بمحاولة اقتحام مدينة جرمانا وأدت لوقوع اشتباكات على أطراف المدينة مع أبنائها الذين ينتمي بعضهم للأمن العام، أعقبها اقتحاملمدينة صحنايا وارتكاب عشرات الجرائم والانتهاكات، لتنتقل الاشتباكات إلى محافظة السويداء التي تعرضت لعددٍ من الهجمات المسلحة. وقد أدى ذلك كله لسقوط عشرات الضحايا، وتسجيل الكثير من حالة النزوح، وخلو الجامعات السورية من الطلبة الذين ينتمون للمكون الدرزي، بعد أن شعروا بخطرٍ يتهدد حياتهم، في مشهدٍ يعكس خطورة الاحتقان الكامن داخل المجتمع السوري، ويكشف ضعف قدرة المؤسسات الحكومية على حماية السلم الأهلي، خاصةً في ظل وجود أطراف إقليمية راحت تستغل الوضع لتساهم في زرع الشقاق بين السوريين. كل ذلك جعل الكثير من السوريين\ات، وخاصة أبناء الطائفة الدرزية، يشعرون بخيبة أملٍ كبيرة تجاه بعضهم البعض، فخرجت أصوات عديدة لتندد وتعاتب من حرضوا على عقاب الطائفة وتخوينها، فيما خرجت أصوات أخرى لتذكرهم بما قدَّمه أبناء الطائفة لأخوتهم السوريين طوال سنوات الحرب. وبالمقابل خرجت الكثير من الأصوات، التي أغفلت السبب الأساسي للمشكلة، لتبرر ما حصل تحت ذريعة وجود جماعات خارجة عن القانون من أبناء الطائفة الدرزية، ووجود الكثير من السلاح غير المنضبط في حوزتها، ودعوة بعض مرجعياتها الدينية لطلب الحماية الدولية، في مشهد يعكس مدى تفاقم الخلاف والانقسام بين مكونات الشعب.
بالنظر للواقع المؤلم الذي تعيشه البلاد اليوم، يرى كثير من السوريين أنها لن تتعافى إلا بإعادة صياغة هويةٍ وطنية جامعة لكافة أطياف المجتمع، تعلو فوق الصراعات الطائفية والعرقية والمناطقية، وتقوم على الإنتماء الوطني المبني على أسس المواطنة المتساوية، التي تضمن حقوق وكرامة الجميع دون تمييز، ولكن قبل هذا ينبغي أولاً الإسراع في تطبيق العدالة الإنتقالية وتشكيل محاكم عادلة ونزيهة، لمعاقبة مرتكبي الجرائم، وتفعيل دولة القانون وإشراك جميع السوريين في عملية بناء الدولة.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...