تدريباتنا

المواطنة وتحدياتها السورية الراهنة

by | Jun 16, 2025

المواطنة تعني بشكل أو بآخر الجنسية، إنها رابطة معنوية تجمع بين المكونات البشرية في بوتقة جغرافية تُعرف باسم الوطن، ومنه يظهر الاشتقاق اللغوي للمواطنة، وهي لا تُعرف إلا من خلاله، ولا تُعرَّف إلا به.
والجنسية رابطة قانونية تنظم علاقة الأفراد أو المواطنين، الذين يشكلون ركناً أساسياً من أركان الوطن، تنظم علاقة المواطنين فيما بينهم، من جهة، وعلاقتهم بالنظام السياسي القائم في أي دولة من الدولة من جهة أخرى.
والجنسية أو المواطنة مفهوم جديد لم يظهر إلا مع ظهور الدولة القومية الحديثة في أوربا ابتداءً من القرن الثامن عشر. تلك الدولة التي قامت على أساس قومي أو وطني جامع لكل مكونات الدولة العرقية أو الدينية، دونما أي شكل من أشكال التمييز حيث ظهرت فكرة المواطنة كرابطة تجمع وتحكم جميع أفراد الدولة، ومعها صار مفهوم الدولة يشير إلى هذا المعنى الأوربي الحديث، أي الدولة القومية أو الوطنية، دولة المواطنة.
في دولة المواطن يكون الوطن لكل مواطنيه، وليس مزرعة لآل فلان وآل فلان، حينما يكون الوطن ملكاً للشعب، يصبح للوطن معنى ويصبح الانتماء انتماءً للوطن، أما حينما يكون الوطن منهوباً بما فيه حينها يصبح الشعور بالانتماء ضعيفاً وربما معدوماً. وحينما يكون الوطن ملكاً للجميع وعلى نحوٍ متساوٍ، حينها نجد أفراده يقومون بما يتوجب عليهم من واجبات تجاه وطنهم، قبل المطالبة بحقوقهم. يبذلون الغالي والرخيص كرامة للوطن وليس تقديساً لشخص بعينه أو أسرة بذاتها.
في دولة المواطنة يتساوى الجميع أمام القانون، كأسنان المشط حسب التعبير الإسلامي، القانون الذي يسنه المواطنون من خلال مجالس شعبية تمثلهم خير تمثيل، والمواطن لا يشارك فقط بسن القوانين، بل يشارك في حكم البلاد وإدارتها السياسية، ولا يوجد أي تمييز بين المواطنين من حيث حقوقهم السياسية، وباقي الحقوق. المواطنة من حيث الأساس تعني المساواة في بين الأفراد في الحقوق والواجبات.

أما حينما تكون المواطنة مجرَّد بطاقة شخصية، كما هو الشأن بنظام الأسد الساقط، حينها تظهر المأساة، لأنه يتم اختزال الحقوق في جرة غاز أو كسرة من الخبز المحروق، أما الواجبات فحدث بلا حرج.
كنت دائماً أتساءل ومنذ ما قبل الثورة السورية المباركة ما الذي يميزني أنا كسوري عن غيري من غير السوريين الذين يعيشون ببلدي، كنت دائماً أعترض عندما أسمع بوسائل الإعلام المحلية كلمة مواطن ومواطنة، لأنني أعتبر أن هذه المفاهيم هي بلا مدلول أو صدق واقعي. لم يكن لدينا في سورية دولة بمعنى الدولة، ولم يكن مواطنوها مواطنين بمعنى الكلمة. وكل ما هنالك هو وجود أفراد أو رعايا، بل رهائن، يرتهنها النظام الساقط من أجل تحقيق مصالحه بالحماية والابتزاز والنهب والاتجار بأبنائه.
والآن وبعد سقوط الأسد، وسقوط المنظومة الأسدية الحاكمة إلى غير رجعة، وعودة الوطن لأهله، صار لازماً العمل على بناء الوطن والمواطنة على أسس وطنية صحيحة، والحقيقة واجهتنا وتواجهنا في سوريا صعوبات كأداء وتحديات جمة لبناء الوطن والمواطنة، نذكر أهم هذه التحديات، على سبيل المثال وليس الحصر.
1- العدوان الخارجي والاحتلال: العدوان المتمثل بالاعتداءات الصهيونية، واحتلال جزء من الأراضي السورية، يمثل تحدياً أولاً ليس للمواطنة فقط، بل لقيام وطن أو دولة مستقرة لأن العدوان يدمر قدرات وخيرات البلاد العسكرية والاقتصادية، كذلك فإن الاحتلال يحرم البلد من خيرات الأراضي المحتلة.
2- الانهيار الاقتصادي: حيث قام النظام الساقط بنهب كافة المقدرات الاقتصادية، وبدون اقتصاد قوي لا يمكن للسلطات الجديدة الايفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها. وبالتالي فإن المواطن سيواجه صعوبة في حصوله على حقوقه المادية. وهذا يخل بمقوم أساسي من مقومات المواطنة.
3- العقوبات الدولية: حيث تشكل العقوبات عقبة كبيرة أمام عملية الانتعاش الاقتصادي واعادة تأهل البلاد وإعادة إعمارها. إن العقوبات الدولية قد عمقت حالة الترهل الاقتصادي، وأدت إلى عجز السلطات الجديدة، حتى عن زيادة رواتب الموظفين، التي وعدت بها، مما يعمق حالة البؤس التي يعيشها المواطن وبالتالي يقف عائقاً أمام تحقيق المواطنة على نحو أمثل.
4- حالة الانقسام الطائفي والعرقي: يشكل الاحتقان والاقتتال الطائفي والعرقي أكبر خطر يمكن أن يهدد المواطنة بل يهدد قيام الدولة برمتها. إن وجود أي شكل من أشكال التمييز، وبالذات التمييز على أساس طائفي، أو عرقي يحيل أفراد الشعب إلى جماعات عنصرية متناحرة، وهذا يعمق حالة الانقسام داخل المجتمع، ويزيد من انهيار الاقتصاد المنهار أساساً، وكذلك قد يستدعي ذلك تدخل أطراف خارجية لصالح هذا الفريق أو ذاك بحجة حماية الأقليات.
إن بناء سورية جديدة، قوية منيعة لا يمكن أن يتم إلا على أساس وطني جامع لكل السوريين، لا فرق فيه بين عربي أو كردي ولا بين مسلم أو مسيحي، سني أو شيعي، علوي أو درزي أو اسماعيلي. حينما يتحقق الشرط الأول في المواطنة وهو شرط المساواة بين جميع مكونات المجتمع السوري، عندها يمكن الحديث عن دولة المواطنة.
والدولة المدنية دولة المواطنة، ليست معطى ناجزاً أو هبة سماوية يؤتها الله من يشاء، أو يتم فرضها بقرار أو وصاية هنا أو هناك، بل هي شيء ننجزه نحن بأيدنا، فالشعب الذي هو أس الدولة وأساسها، وهو الذي يبني الدولة، الشعب بكل مكوناته مسؤول مسؤولية تامة عن بناء الدولة. فبناء الدولة ليست مهمة محصورة بالنظام السياسي، لأن النظام الساسي ليس هو الدولة بل هو جزء منها. الدولة لا تبنى إلا يتكاتف كل أبنائها وتلاحمهم . والغريب أن بعض شرائح أو فئات الشعب لا أقول طوائف، ترى أن بناء الدولة من مهام السلطة الحاكمة، وتنتظر من السلطات الجديدة أن تبني الدولة، وهذا أمر عجيب، لأن بناء الدولة مسؤولية الجميع. وكل منا يجب أن يساهم في هذا البناء.

يقول البعض إن السلطات الجديدة تستأثر بالحكم، وإنها تسير على خطى النظام الساقط، في قمع الحريات والاستبداد، وأنها تعمل على أسلمت أو سلفنة (سلفية) الدولة، حسناً أنا لن أكلف نفسي عناء الرد على هذه الادعاءات والزود عن السلطة الجديدة، بل أوجه ندائي إلى صاحب هذه الادعاءات وأطالبه، بأن ينخرط في عجلة بناء الدولة، وإن كانت السلطة الجديدة كما تدعي فاعمل أنت على تغيير واصلاح ذلك. كيف للدولة أن تقوم إذا كل فريق رفض تسليم سلاحه، ورفض الخروج خارج حدود محافظته أو إقليمه؟ كيف نرفض المساعدة في بناء الدولة ونرفض حتى الاعتراف بها كدولة، ثم نطالب الدولة بأن تكون منصفة وديمقراطية ومعتدلة. أو ليست الدولة أنا وأنت؟ كيف تستأثر بجزء من الأرض والشعب والخيرات، وترفض توحيد السلاح، وفي الوقت نفسه تنتقد الدولة لأنها ليست دولة؟
أنا لا أقول للمسلم أن يترك إسلامه، ولا للسني أن يترك سنيته، ولا للدرزي أو العلوي أو الكردي أن يهجروا مذاهبهم وقومياتهم، لكل منهم دينة ومذهبه، وقوميته الخاصة به، لكن نحن لن نتحد ونشكل دولة طالما أن كل منا متمسك بخصوصيته، ويريد دولة على مقاس هذه الخصوصية. الدولة لن تبنى إلا إذا اجتمعنا على ما يجمعنا لا على ما يفرقنا، وما يجمعنا في هذا الوطن الغالي هو سوريتنا، السورية هي القاسم المشترك لكل السوريين، لكل منا دينه ومذهبه وقوميته، لا بأس من ذلك، لكن إذا أردنا بناء دولة قوية منيعة فلا بد من أن نلتف جميعاً حول وطننا. لنبني معاً دولتنا كما نريد لها أن تكون، ولتكن دولة المواطنة دولة الحرية والديمقراطية والعدالة، لتكن دولة الإنسان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

من سوريا إلى برلين: سرديات الحياة والموت في كتابات هنادي زرقة

من سوريا إلى برلين: سرديات الحياة والموت في كتابات هنادي زرقة

صدر للشاعرة السورية هنادي زرقة هذا العام كتابين في فترة متقاربة عن دار أثر وهما ديوان شعر بعنوان "مثل قلب على مدخل البيت" والثاني بعنوان "ماذا تعرف أنت عن الحرب".  جمعت زرقة في كتابها الثاني مقالات كانت قد كتبتها خلال الحرب السورية بعين الشاعرة الحساسة والواعية...

متحوّر البعثية في سورية اليوم

متحوّر البعثية في سورية اليوم

خلّفت الحقبة الأسديّة حُطاماً ثقافيّاً ولغويّاً ثقيلاً، إذ وجد السوريون أنفسهم محاصرين داخل منظومة خطابية مشوّهة، نشأت على مدى عقود من هندسة المعاني وتزييف المفاهيم. لم تكن اللّغة مجرّد وسيلة للتعبير، بل تحوّلت إلى أداة ضبط وهيمنة، تجاوزت دورها الطبيعي، لتُعاد صياغة...

الطائفيّة وصراع الهويّة في سورية

الطائفيّة وصراع الهويّة في سورية

إذا كانت طائفتُنا هي الجذر الوحيد الذي يربطُنا بأرضِنا، فربما نحنُ أشجارٌ ميّتة، كي نعشقَ هذه الأرضَ لا بدّ أن نعرفها، وكي نعرفَها، يجبُ أن ننبشَ عميقاً في التراب، لا أبالغُ إن قلتُ إنّ الحقيقةَ تكمنُ هناك، بين رفاتِ الأجداد، فأن نعرفَ تاريخنا يعني أن نعرفَ من نحن،...

تدريباتنا