في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

إذا كانت طائفتُنا هي الجذر الوحيد الذي يربطُنا بأرضِنا، فربما نحنُ أشجارٌ ميّتة، كي نعشقَ هذه الأرضَ لا بدّ أن نعرفها، وكي نعرفَها، يجبُ أن ننبشَ عميقاً في التراب، لا أبالغُ إن قلتُ إنّ الحقيقةَ تكمنُ هناك، بين رفاتِ الأجداد، فأن نعرفَ تاريخنا يعني أن نعرفَ من نحن، إنّها الخطوة الأولى على طريقِ تشكيل الهويّة، أمّا طائفتنا فما هي إلا جزءاً من هذا الكلّ، الذي إن ركبنا الزمنَ وسافرنا عبره، سنجدُ أنّ وجودَنا أقدم و أعمق، وإذا كنّا نميلُ إلى التمترسِ خلفَ لحظةٍ تاريخيّةٍ فرّقتنا، فإنّ الخلاص ربما يكمنُ في البحثِ عن لحظاتٍ مُضيئةٍ، وقواسمَ مُشتركةٍ تُحيلنا إلى جذورنا الأعمق في هذه الأرض.
يُقالُ إنّ الأوروبّيون استلهموا نَهضتهم من النقاطِ المُضيئة في تاريخهم، إذ وجدوا في الجذور اليونانية اللاتينيّة ما أعاد دبيبَ الحياةِ إلى ثقافتهم الراكدة، خاصةً مع موجات لجوء العلماء اليونان حاملين معهم مخطوطاتهم القديمة إثرَ سقوط القسطنطينيّة، أمّا النهضة العربية التي بدأت في مصر وتسارعت وتيرتَها أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت بيروت و القاهرة و دمشق و حلب، مراكزَها الأساسية، فإنّ أهم ما تمخّضَ عنها هو إحياء اللغة العربية و فكرة القومية العربية، والمطالبة بإصلاح الدولة العثمانية، ثمّ المطالبة بالاستقلالِ عنها، لقد وجدَ روّاد النهضة في منطقتِنا آنذاك في الجذر العربي ما يوحّدهم و يبعدُهم عن الاقتتال والتنافر.
بحسب أمين معلوف، صاحب الهويات القاتلة، علينا أن نبحث عن التعدّد في هوّيتِنا الفرديّة لنكونَ أكثر تسامُحاً مع ما نسمّيه الآخر المُختلف، والذي إذا أمعنّا النظرَ في تاريخنا سنجدُ أنّنا نحملُ طائفتَهُ أو عرقَهُ أو حتى وطنَهُ الأم، أمّا اختزال الهوية إلى انتماءٍ واحدٍ، يضعُنا في موقفٍ مذهبيٍّ و متعصّبٍ وأحياناً انتحاريّ. يعتقد أمين معلوف بأن كل المذابح التي حدثت خلال السنوات الأخيرة ترتبط بملفّات معقّدة وقديمة عن الهويّة.
أما على المستوى الجماعي، كي تصنعُ الشعوبُ نهضتَها فعليها أن تقفَ على عتبةٍ تُعيدُ فيها تعريف ومعرفة ذاتِها، فأن نبحثَ عمّا يجمعُنا كشعوبٍ ولدَت على بقعةٍ جغرافيّةٍ واحدة لا يلغي التنوّع، ربّما عندما نقفُ على حقيقةٍ جذورِنا المشتركة سوف ننظر إلى الفروع مهما تعدّدت باحترام، إن لم يكن بحُبّ، فقبل أن يكون الإسلام على أرضنا كانت المسيحية، وقبل المسيحية كانت اليهودية والديانات التي أطلقنا عليها وثنيّة. لقد أدى البحث الروحي الطويل الذي تفتّحت بذوره على هذه الأرض، والذي حملهُ أجدادنا على أكتافهم ومشوا الطريق، إلى ولادة ما يسمّى بالفكر التوحيدي، مشكلة الفكر التوحيدي أنّه مع الوقت أصبح إقصائيّاً، أي أنّه فرض نفسهُ على أنّه حقيقة مُطلقة، تلغي كل ما جاء قبلها تحت مسمّيات كالوثنيّة والجاهليّة، وتكفّر كل ما جاء بعدها، ما أدى إلى تنشئةِ شعوبٍ تنظرُ بريبةٍ أو استعلاءٍ إلى بعضها البعض، والأخطر أنّها تجهلُ تاريخها المُمتدّ إلى ما قبلَ التوحيد. ربّما نحتاجُ إلى عينٍ ثاقبةٍ، جريئةٍ، تنظر عبرَ الجدران التي بنَيناها بين بعضنا البعض، كأديان، وطوائف، وإثنيات وُلدَت وعاشت على هذه الأرض، وبين تاريخنا المُمتدّ، لنكتشفَ أنّنا بالحقيقةِ مُتشابهون، نتداولُ القيَمَ و القصصَ ذاتَها، حتى كتُبنا التي نؤمنُ بفرادتِها، ما هي إلّا امتدادٌ لما جاء قبلَها من أساطير.
طبعاً إعادة تعريف ومعرفة الذات ليس بهدفِ الارتكاس أو التعلّق ببرهةٍ زمنيّةٍ تعمينا عن واقعِنا، إنّما بهدف رمي الموروث الميّت والبناء على ما هو حَيّ، تلكَ سيرورة تحرّر لا يخوضها سوى الشجعان، أمّا تشويه الجذور أو إنكارَها فسوفَ يرمي بنا في أتونِ الإقتتالِ و التنافر الذي يسبّبُهُ الإنتماء المُتعصّب، إذ سيتمترَسُ كلّ طرفٍ خلف طائفتِه أو إثنيّته، و لأنّ جذورَه في أرضِه ضعيفة، سوف يرى في الآخرِ تهديداً يجبُ أن يقضي عليه، إنّه إذن قتلٌ دفاعاً عن النفس، لكن أيّ هشاشةٍ تجعلُنا مهدّدين لدرجةِ أنّنا نقتل كل مُختلف، إذ أنّه ربّما وعن غير قصد، يدعونا إلى إعادةِ النظر. المُلفت أيضاً أنّ الصراعات الطائفيّة تكون أشدّ فتكاً من تلكَ الدينيّة، كما أنّ الصراع بين الأخوة هو الأكثر دمويّة، نحنُ نتقبّل على مضض اختلاف من نعتبرهم غرباء، في حين لا نتساهل مع الأقرباء أو الإخوة.
بحسب المفكّر المغربي محمد عابد الجابري “للهوية الثقافية مستوياتٌ ثلاثة، فردية، و جمعويّة، ووطنيّة قوميّة، والعلاقة بين هذه المستويات تتحدّد أساساً بنوع الآخر الذي تواجهُه، وهي كيانٌ يصير و يتطوّر وليست مُعطى جاهزاً و نهائيّاً”، البناءُ السليمُ إذن يقتضي ألّا يكون هناك تعارض أو تناقض بين الهويّات الجمعويّة والهويّة الوطنيّة القوميّة، بمعنى آخر، بين هويّة الجماعات الدينيّة أو الإثنيّة، والهويّة الوطنيّة الجامعة لهم باعتبارهم شركاء التاريخ والجغرافية واللغة، وأحياناً الدين. تميلُ الجماعاتُ إلى الانكفاء على ذاتِها عندما تشعر أن الخطاب الوطني القوميّ إقصائي ولا يمثّلها، أو بالأحرى، عندما يكونُ هو كذلك خطاباً جمعويّاً، أي يمثّل هويّة وثقافة جماعة ما سيطرت على الحكم. ربّما من أهم متطلّبات بناء الهويّة الوطنيّة القوميّة، هو توجيه العقول و القلوب نحو الجذور المشتركة، و ليس صوب الفروع تعزيزاً للتنافر.
هناكَ تيارات تربط الإنتماء اليوم، على اعتبارنا في عصر العولمة والاتصالات، بعاملين أساسيّين، هما الدين واللغة، لكن أليس الانتماءُ للأرضِ أسبق و أعرق من الدين، و نحن المختلفونَ إثنيّاً وطائفيّاً، ألم يتشارك أجدادنا الترابَ و التاريخَ ذاته، نتشارك كذلك الذاكرة الجمعية ذاتها، ونحن عندما نخونَها في سبيلِ انتماءٍ ضيّق، ألا نخونُ حينَها ذاتَنا؟ بمعنى هوّيتَنا بمعناها الأوسع، حتى الجماعات المهاجرة، ألم تضرب مع الزمن جذوراً لها في الأرض؟
أمّا اللغة المُشتركة، فقد تكون البوتقة، أو الوعاء الذي حمل وشكّلَ ثقافتَنا بما فيها ديانتَنا، اللغة بالتالي أسبق من الدين، وهي كذلك ستحرّرنا من النظرةِ الضيّقة إلى هوّيتِنا، إنّها المركب الذي سيقودُنا في رحلةِ معرفةِ الذات، و من ثمّ نقد هذه الذات، بمعنى إعادة النظر في الموروث من أجلِ رمي الميّت و البناء على ما هو حَيّ، إنّها سيرورة إبداعيّة تقودُنا نحو النمو و التجدّد، وسنتشارك بها نحن أصحاب اللغة المشتركة. أليس كل ما يُكتب اليوم باللغة العربية، من شعر و أدب و قصّة و فلسفة هو بمثابةِ حوار، سوف تتمخّض عنه رؤى مُشتركة و أحياناً متناقضة، و لكنّها في النهاية عمليّة تراكميّة سوف تؤدي إلى بناء ثقافة عربيّة مُشتركة، وباالتالي هويّة مُشتركة.
يتحدّث الكاتب و المفكّر السوري، جورج طرابيشي، في كتابه “المثقّفون العرب و التراث”، عن النكسة، أو على حدّ تعبيرهِ، الرضّة التي سبّبتها هزيمة حزيران 1967، ومن ثمّ الهزيمة المدوية للمشروع العروبي مع الوفاة المُبكّرة لعبد الناصر، ما أدى إلى انقلاب المثقّفين العرب على نهضتِهم و نكوصِهم صوبَ التراث، التراث هنا بمعنى التراث الإسلامي وليس التاريخ بمعناه الأعمق. بالنسبة لطرابيشي، أصبح التراثُ أباً رمزيّاً، هدفهُ التعريف بسنّة الآباء و تقاليدهم “. من المُمكن تأويل كل موجة السلفيّة التي انزاحت في أعقاب الهزيمةِ الحزيرانيّة على أنّها فعل لواذ بحمى ذلك الأبّ المعنوي الكبير الذي اسمهُ التراث، ولا سيّما في الوجه المُحاط منهُ بهالة الدين، والذي يُقالُ لنا، على نحو ما يُقالُ للطفل الفاقد لسببٍ من الأسباب، شعورَه بالطمأنينة، إنّه هو الدرع الواقية للشعب، وهو الحامي لمكاسبِه والمحافظ على هوّيتِه.” كما ينقد طرابيشي ما يسمّيه بالرابطة الأموية، تلك التي تختزل التراث إلى بعدهِ اللغوي، فتجعلُ من اللغة القومية رابطة رحميّة، إذ ظهرت لدى بعض المثقّفين ممن يعتقدون أنّهم أصحاب عرق عربي صافي، حالة من الاستعلاء على أولئكَ الذين تحوّلوا عن لغاتهم الأم، و كتبوا باللغة العربية.
العودة إلى التراث الإسلامي بعد فشل المشروع العروبي، لم تكن إذن فعلاً تحرّريّاً يطلّ على الماضي بهدف إعادة قراءته ليكون عتبةً صوبَ المستقبل، بل كانت نوعاً من النكوص، أي الاعتقاد أنّه علينا أن نعيد مقولات الأسلاف كي نستعيدَ أمجادهم، ربما استيقظت لدينا عقدة الذنب التي يحملها كل من عصا والدَيه ولم يحصد سوى الفشل، إذ كانت النهضة العربية بالنسبة للبعض عصياناً، وتغريباً، وتمرداً على الموروث لا يمتّ إلى ثقافتِنا بصلة.
يعتقد بعض المفكّرين العرب اليوم، أنّه علينا وعلى منوال ما بعد الحداثة الغربية أن نرمي التراث الديني ونشكّل هويّتنا على أسس العلمانية الماديّة والمجتمع الليبرالي الحديث، في حين يرى آخرون، أنّه من الأجدى أن نجمع بين التراث وما يناسبُنا من الحداثة ، بين هذا وذاك، هناك من يعوّل على القراءات الجديدة للنصوص المقدّسة، أو الموروث الديني، بهدف تأويله من وجهة نظر أكثر رحابة و انفتاحاً على الآخر المختلف.أخيراً، إذا كانت الوطنية هي الجذر الذي يربطنا بأرضنا شعباً وتاريخاً و جغرافيةً، فإنّ طائفتَنا هي فرعٌ إذا بقينا مُستندينَ عليه فسوفَ نسقط، صحيحٌ أنّنا اليوم في سوريا ممزّقين، وطناً و شعباً، لكن لدينا فرصة من أجلِ إعادة تشكيل هويةٍ وطنيةٍ جامعة تنقذُ وطننا من التفكّك والضياع، فنحن نمتلكُ أرضاً مشتركةً، ولغةً مشتركةً، وإرثاً روحيّاً انطلقَ من ثقافةٍ مشتركة، ربّما علينا كي نقتنع، أن ننفتح على إرثنا المُمتَدّ إلى ما قبل التوحيد، علينا أن ندرسَ ما سمّيناه وثنيّةً أو جاهليّةً، كي نتحرّرَ من الفكر الأحادي و الهويات المُغلقة، تلكَ الأصنام التي حطّمناها في الماضي بحجةِ أنّنا وصلنا إلى الحقيقة المُطلقة هي أكثر ما نحن بحاجةٍ إليه اليوم كي نعرف ذاتَنا، ونعيدَ التواصل مع ذاكرتنا الجمعيّة، ربّما عندما نشعرُ بأنّنا امتدادٌ لحقائق نَمت وتطوّرت وتغيّرت مع الزمن، سوف نتحرّر من سجن الحقيقة المُطلقة التي هبطت في لحظةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ، كفّرَت ما قبلها، وألغت ما بعدها، ذاك السجن الذي يقودُ إلى الآن مشروع التكفير والاستعلاء الذي يقوّض منطقتَنا، ويرمي بها في أتون الاقتتالِ و الحروب.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...