في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

” لم يعد يجمعنا بهم إلا اللغة ويمكننا الاستغناء عنها بتعلم لغة جديدة جيلا بعد جيل،” هذا ما كتبه مثقف معروف على صفحته على الفيس بوك وما لبث أن حذفه لتناقض وقسوة التعليقات.
هذا القول يطرح قضية في منتهى الأهمية هي مسألة الانتماء والوطنية التي برزت من تداعيات وعقابيل الحرب السورية، خاصة بعد سقوط النظام البائد. قضية إشكالية قوّضت كل الشعارات التي كان يتغنى بها السوريون، تجلىّ ذلك بالدعوات التي انطلقت مؤخراً من مكونات ومناطق مختلفة في المجتمع السوري؛ من الأكراد والعلويين والدروز، تلك الدعوات التي توّجهت إلى دول وقوى دولية مختلفة بمضمون واحد تقريباً ورؤية جديدة للناحية الوطنية، إضافة إلى ما طرحه مؤيدو السلطة الجديدة من الطائفة السنية من توجه إسلامي يتخطى الوطنية.
هذه الدعوات لم تكن جديدة، فقد سبقتها دعوات مماثلة أطلقها أقطاب المعارضة لنظام الأسد منذ عام 2011، طالبت بنفس ما تطالب به الدعوات الآن؛ وكررتها على مدى سنوات الحرب ، كأن الأمر مجرد تبادل أدوار على ضوء تبدّل المواقع سياسياً وعسكرياً، فما كان يطالب به فريق المعارضة في بداية الأزمة وأثنائها حتى قبل سقوط نظام الأسد، صار يطالب به الفريق الآخر الذي صار في موقع المعارضة، رغم أنها معارضة ذات طابع مختلف، لا برنامج سياسي لها حتى الآن، معارضة رد الفعل لا أكثر.
الدعوات الأخيرة التي بيّنت هشاشة الحالة الوطنية السورية؛ انطلقت من مكونات المجتمع السوري، الطائفية والإثنية، ما يسمى الأقليات، تركزت على المطالبة بالفيدرالية كأسلوب لإدارة البلد، كما طالبت بالتدخل الدولي؛ إن كان على شكل حماية دولية وفق القانون الدولي، بقرار من مجلس الأمن، أو حماية دول معينة بغض النظر عن القانون الدولي، كما هو الوضع بالنسبة للأكراد الواقعين تحت حماية الأمريكيين و قوات التحالف الدولي، والدروز الذين ادعت إسرائيل حمايتهم، بينما العلويين لا يزالون يكررون دعواتهم، دون أن يستجيب لهم أحد حتى الآن.
رغم مطالبتها بالفيدرالية تؤكّد تلك الدعوات حرصها على وحدة سورية، لكنها وحدة تختلف عما كانت عليه؛ هي اتحاد فيدرالي بين أقاليم ذات إدارة ذاتية. لا يمكن إغفال أسباب هذه الدعوات وخلفيتها؛ التي تمثلّت بطروحات وشعارات استفزازية أطلقتها القوى التي سيطرت على السلطة والتي تمثّل الأكثرية طائفياً، وبالخوف من التعسّف والتهجير والقتل، خاصة بعد ما حدث مؤخراً من مذابح و تهجير في الساحل السوري وأماكن تواجد العلويين في الداخل، وأحداث العنف التي نشبت في جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء.
هذه الدعوات لا تقتصر على ما يدعى “الأقليات” ففي المقابل انطلقت دعوات لا تقل خطورة من الناحية الوطنية، نادت بها مجموعة من الأكثرية المتمثلة بالطائفة السنيّة، التي خرجت بمقولة عودة الأمويين، فدمشق برأيهم عادت لأصلها، دمشق الأقدم من الأمويين بآلاف السنين، حملت تلك الدعوة في طياتها شوفينية وتعالياً واضحاً وصل إلى حد التمييز العرقي والطائفي والتنمر وتمثّل في مقولة “الأمويون أصلهم ذهب” التي أتت على شكل أغنية أصبحت وكأنها نشيداً وطنياً وشعاراً لهذه الفئة من الشعب السوري.
في هذا الطرح إسقاط لكل ما هو وطني سوري واستحضار لخلافات قديمة سالفة وحساسيات تاريخية لا فائدة من طرحها، فالوطنية السورية الجامعة أشمل من أن تنسب لطيف واحد أو لمرحلة تاريخية بعينها.
يلتقي مع هذه الدعوة، خطاب السلطة الجديدة الذي أغفل ذكر مصطلح الوطن أو الوطنية في كل مفاصله وعلى كل المستويات، كما تجنّب مقاربة القضايا الوطنية كالجولان المحتل، واقتصر على التأكيد على وحدة سوريا، دون أن يعمل على تفكيك خوف وحذر المكونات المختلفة من توجهه الإسلامي المتشدد وراديكاليته المعروفة، عزّز ذلك بتصرفات وإجراءات كان لها أثر سلبي مما أعطى الدعوات للحماية الدولية والفيدرالية دفعاً وزخماً إضافياً.
لو استعرضنا ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والتعليقات والتفاعلات لتأكدنا أن هذه الدعوات لم تأت مخالفة للمزاج الشعبي لتلك المكونات، حتى لو أخذنا بالحسبان ما يسمى بالذباب الالكتروني. قرأنا منشورات كثيرة وتعليقات تؤيد ذلك وتؤكد عليه مثل: “إلى اللقاء في جغرافية أخرى،” و “لم يعد يجمعنا بلد واحد، إنها كذبة طويلة،” و “لا يمكن أن أكون في بلد واحد مع من يعتبرني كافراً.” وفي سياق التداول الشفوي كان الأمر واضحاً ويُعبّر عنه بصراحة ووضوح بمقولات مثل “لم يعد يجمعنا بهم شيئاً،” و”سوريا صارت من الماضي،” و “سوريا الله يرحمها.. بح،” و”بقاؤنا وحفظ رقابنا أهم من بقاء سوريا موحدة”….
ذهبت بعض الدعوات إلى ما هو أبعد من الفيدرالية، التقسيم بقيام دول منفصلة، مستحضرين سوابق تاريخية لقيام دول في سوريا على أساس ديني أو عرقي، مرددين أن سوريا في تاريخها لم تكن موحدة كما هي عليه الآن إلا في بداية العهد الأموي و بعد الاستقلال استمراراً حتى الآن.
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً تحريضياً باستحضارها السابقة التاريخية القريبة لتقسيم سوريا تحت الانتداب الفرنسي، فنشرت خرائط دويلات ذلك التقسيم ووثائق بأختام تلك الدويلات. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل رأينا تصورات متعددة لخرائط الدويلات المزمع إقامتها جراء التقسيم، بعضها نسب إلى البنتاغون وبعضها الآخر إلى دول لديها مصالح في سورية، بينما نسبت خرائط مختلفة لمراكز أبحاث ودراسات. سوّقت تلك الخرائط بطريقة يبدو فيها أن الأمر بات وشيكاً وأن المسألة مسألة وقت لا أكثر، ولا مناص من ذلك.
طرحت أسماء دول عديدة في سياق تلك الدعوات: روسيا، فرنسا، تركيا، وحتى إسرائيل، التي استهجن الكثيرون التوجه إليها، لكننا لو عدنا بذاكرتنا إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، حين دخلت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان، ولاقاها الكثير من الجنوبيون بالترحاب وبنثر الأرز والياسمين والورد عليها لبطل الاستغراب، وقد كان لهم أسبابهم بذلك حيث عانوا ما عانوه من الفصائل الفلسطينية التي كانت منتشرة في الجنوب، وهو ما جعلهم يهللون لمن سيخلصهم منها، الجنوبيون نفسهم صاروا فيما بعد ألد أعداء إسرائيل.
الحالة الأخطر التي بدت فيها الوطنية السورية في الحضيض، تجلّت في التهليل للضربات الإسرائيلية على سورية، والتي دمرّت كل مقدرات السلاح السوري، وطالت مؤسسات علمية بحثية ومدنية كالأحوال الشخصية والهجرة والجوازات وغيرها.
هنا رأينا أيضاً تبادل أدوار غريب، فحين كانت إسرائيل تضرب مقدرات الجيش المنحل، هلّل لها مؤيدو السلطة الجديدة، وحين بدأت تشن غارات على أماكن تمركز فصائل تابعة للسلطة الجديدة هلّل لها بقية المكونات…
على مدى ثمانين عاماً تغنّى السوريون بوطنيتهم بطريقة أقرب للشوفينية، لا بل بقوميتهم العربية واعتبروا دمشق قلب العروبة النابض، مرددين شعارات: سورية مهد الحضارة، أم الأبجدية و غيرها… لكل إنسان وطنان؛ وطنه الأم و سوريا… أـذكى ذلك وعززّه حكم البعث الذي كان يغالي في المناداة بالقومية العربية والوطنية السورية لدرجة يمكن اعتبارها ميزة تجعل السوريين فوق شعوب أهل الأرض جميعاّ، علينا أن نتذكر الأغاني والشعارات التي كانت تسوّق ذلك عاطفياً: “أنا سوري يا نيالي،” و”سمعت الشمس تهمس همس صباح الخير سوريا،” إضافة إلى المسلسلات والأفلام التي ينتصر فيها السوريون دائماً.
هل كان ذلك وهماً؟ أم أن صدمة التغيرات الأخيرة أدت إلى ردود أفعال طالت المسألة الوطنية، وهي رود أفعال مؤقتة؟
في الحالتين تبدو سوريا الآن وطنا يحتاج إلى إعادة بناء.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...